وَيْلٌ لِمَنْ كانَ شَفيعُهُ
خَصْمَهُ
اعلم
أنَّ للنّفسِ الإنسانيّةِ مَمْلكةً ومقاماً آخَرَ، وهي مَمْلكتُها الباطنيّةُ ونَشأتُها
الملكوتيّة، وفيها تكونُ جنودُ النّفسِ أكثرَ وأهمَّ ممّا في مَمْلكةِ الظّاهر،
والصّراعُ والنّزاعُ فيها بين الجنودِ الرّحمانيّةِ والشّيطانيّةِ أعظم، والغلَبةُ
والانتصارُ فيها أشدّ وأهمّ، بل كلّ ما في مملكةِ الظّاهرِ قد تنزَّل من هناك، وتظَهَّر
في عالم المُلك. وإذا تغلّبَ أيٌّ من الجُند، الرّحمانيّ أو الشّيطانيّ، في تلك
المملكة، يتغلّب أيضاً في هذه المملكة. وجهادُ النّفسِ في هذا المَقامِ مُهِمٌّ
للغايةِ عند أهلِ السّلوكِ والأخلاقِ، بل ويمكنُ اعتبارُ هذا المقامِ مَنبعَ جميعِ
السّعاداتِ والتّعاساتِ، والدَّرَجاتِ والدَّرَكات.
ويجبُ
على الإنسانِ الالتفاتُ كثيراً إلى نفسِهِ في هذا الجِهاد. فَمِنَ المُمْكِن، لا سَمَحَ
اللهُ، أنْ تسفرَ هزيمةُ الجنودِ الرَّحمانيّةِ في تلك المملكةِ وتركها خاليةً
للغاصِبينَ والمُحتلّين من جُنودِ الشَّيطان، عن الهلاكِ الدّائمِ للإنسانِ بالصّورةِ
الّتي يَستحيلُ معها تلافي الخَسارة، ولا تشملُه شفاعةَ الشّافعين، وينظرُ إليه
أرحمُ الرّاحمين أيضاً بعينِ الغَضَبِ والسَّخَطِ - نَعوذُ باللهِ من ذلك - بل ويُصْبِحُ
شُفَعاؤهُ خُصَماءَهُ، وويلٌ لِمَنْ كان شَفيعُه خَصْمَه.
ويعلم
الله أيّ (عذاباتٍ) وظلماتٍ وشدائدَ وتعاساتٍ تَلي هذا الغضبَ الإلهيَّ، وتعقبُ
معاداةَ أولياء الله؛ حيث تكونُ كلُّ نيرانِ جهنّمَ وكلُّ الزّقّوم والأفاعي
والعقارب، لا شيءَ أمامَ هزيمةِ جُنود الرّحمن من قِبَلِ جنود الشّيطان، الّتي
تترتّب عليها عقوباتٌ تفوقُ جميعَ نيرانِ جهنّمَ والزّقّوم والأفاعي. ".."
إنّ
وصفَ النّارِ والجنّةِ الوارِدَ في كتابِ اللهِ وأحاديثِ الأنبياءِ والأولياءِ،
يتعلّقُ، غالباً، بنارِ الأعمالِ وجنَّتِها اللّتَيْنِ أُعِدّتا للأعمالِ الصّالحةِ
والسّيّئَةِ. وهناك إشارةٌ خفيّةٌ أيضاً إلى جنّةِ الأخلاقِ ونارِها، وأهمّيّتهما
أكبر، وأحياناً يُشارُ أيضاً إلى جَنّةِ اللّقاءِ ونارِ الفِراقِ، وهذه أهمُّ من
الجميع، ولكنّها إشاراتٌ مَحْجوبةٌ عنّا، ولها أهلُها، وأنا وأنتَ لَسْنا من أهلِها،
ولكن من الأجدرِ بنا أن لا نكونَ مُنكِرين لها. وَلْيَكنْ لدينا إيمانٌ بكلّ ما
قالَه اللهُ تعالى وأولياؤه، إذ يكونُ في هذا الإيمانِ الإجماليِّ نفعٌ لنا. ومن
المُمكنِ أن يكونَ (للإنكار) في غير مَحلّه، ولما رُفض في غيرِ مَوْقَعِه، الصّادرَين
[الإنكار والرّفض] عن غير علمٍ وفهمٍ،
أضرارٌ كبيرةٌ جدّاً علينا. وهذه الدّنيا ليستْ هي بعالَمِ الالتفاتِ لتلك [الإحاطة
بتلك] الأضرار. ".."
فما قالوه بشأنِ جَنّةِ الأخلاقِ والمَلَكات، وجهنّم الأخْلاقِ والدَّركات، مُصيبةٌ
لا يَطيقُ العقلُ حتّى سَماعها.
إذاً
فيا أيُّها العزيز؛ فكِّرْ، وابحثْ عن العِلاج، واعثرْ على سبيلِ نجاتِك ووسيلةِ خَلاصِك،
واستَعِنْ باللهِ أرْحَمِ الرّاحمين، واطلبْ من الذّات المُقدّس في اللّيالي المُظلمة،
بِتَضَرُّعٍ وخُضوعٍ أن يُعينَكَ في هذا الجِهادِ المُقدَّسِ مع النّفس، لكي تتغلّبَ،
إن شاءَ الله، وتجعلَ مملكةَ وُجودِك رحمانيّةً، وتَطْرُدَ منها جنودَ الشَّيْطان،
وتُسَلِّمَ الدّارَ إلى صاحبِها، حتّى يَفيضَ اللهُ عليك بالسّعادة والبهجة والرّحمة،
التي يهونُ بِجانبِها كلُّ ما سَمِعْتَ عن وصفِ الجنّةِ والحُورِ والقُصور، وتلك
هي السّلطةُ الإلهيّةُ العامّةُ الّتي أخبرَ عنها أولياءُ اللهِ من هذه الأُمّةِ
الحَنيفة، ممّا لم يَطْرُقْ سَمْعَ أَحَدٍ، ولم يَخْطُرْ على قَلْبِ بَشَرٍ.