بصائر

بصائر

28/05/2014

شرحُ فَقَراتٍ من المُناجاة الشَّعبانيّة*


شرحُ فَقَراتٍ من المُناجاة الشَّعبانيّة*

لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أيَّامَ حَيَاتِي، فَلا تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنِّي فِي مَمَاتِي..

ـــــ الشّيخ حبيب الكاظميّ ـــــ

وَقْفَةُ تأمُّل عند معاني بعض فقرات المُناجاة الشّعبانيّة، وهي مناجاة أمير المؤمنين والأئمّة من وُلده عليهم السّلام، «..لِنَسْتَلْهِمَ منها الدُّررَ واللّآلئَ النّفيسة، ولو أنَّها مُكتنفةٌ لِبعضِ العبارات الّتي حارَ العلماءُ في تفسيرها، ولكن ما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُترَكُ جُلُّه..»، كما عبّر سماحة الشّيخ حبيب الكاظميّ في مستهلّ شرحه الآتي.

 

* «أللَّهمَّ صَلِّ على مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّدٍ..»:

«أللَّهمَّ»: أي، يا الله، فهنا حُذِف حرفُ النّداء، وعوَّض عنه حرفُ الميم في الآخر؛ فلَزمَ الالتفاتُ واستحضارُ القلب عند مخاطبة ربِّ العالمين، إذ لا شكّ في أنَّ السَّهو والغفلة، يُعدّان من سُوء الأدب بين يدَي المُخاطَب.

ثمّ تبدأ المُناجاة بالصّلاة على النّبيّ وآله، صلوات الله عليهم أجمعين، وقد وَرَد عن أهل البيت عليهم السّلام استحبابُ الصَّلاة على النّبيّ وآله، قبل الدُّعاء وبعدَه، فإنَّ الله تعالى أَجَلُّ من أنْ يستجيبَ ما في الطَّرَفَيْن، ويُهملَ ما في الوسط.

 

* «واسْمَعْ دُعائي إذا دَعَوْتُك..»:

نلاحظُ العطفَ بين العبارتَيْن بالواو، وكأنَّ الصَّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله هي الطَّلِبَة المُهمّة الأولى. وهنا إشارة إلى أنَّ الدُّعاءَ قد يُحجَبُ ولا يَصِلُ إلى الله تعالى، بسبب بعض المعاصي الّتي يَرتكبُها العبدُ، وتوجِبُ انقطاعَ الصِّلة بينه وبين ربّه، إلَّا أنَّه إذا أَلَحَّ في الدُّعاء، وطَلَبَ من الله تعالى أن يَتجاوز عن الموانع، ويَرفع الحُجُبَ عنه، أمكنَه أنْ يَصِلَ إلى مُبتغاه، فتُستجابُ دعوتُه.

* «وَاسمَعْ نِدائي إِذا نادَيْتُكَ..»:

أي أنَّ العبدَ تارةً يدعو ربَّه تعالى، وتارةً أخرى يُناديه، ومن المعلوم أنَّ في النِّداء شيئاً من الإصرار، وقد وَرَد أنَّ النّبيّ موسى عليه السّلام سَأل الله عزّ وجلّ، فقال: يا رَبَّ، أَقَريبٌ أَنْتَ مِنِّي فَأُناجِيَك، أَمْ بَعيدٌ فَأُنادِيَكَ؟ فأوْحى اللهُ عزَّ وجلَّ إليه: يا موسى، أَنا جَليسُ مَنْ ذَكَرَني.

* «وأقْبِلْ عليَّ إذا ناجَيْتُك، فَقَدْ هَرَبْتُ إِلَيْكَ..»:

من المعلوم أنَّ الإنسانَ الّذي يَخافُ جِهةً مُعيَّنةً ويَهربُ منها، يَلجأُ إلى جهةٍ أُخرى مُخالفة، تُشكِّلُ مصدراً للأمن والاطمئنان لديه، إلَّا أنَّنا نُلاحظ اختلافَ الأمر في حال التَّعامل مع ربِّ العالمين، إذ تَتَّحِدُ الجهتان.

إنَّ الإنسانَ إذا اشتدَّ مَقْتُه لنفسِه، فهَرَبَ إلى ربِّه، فإنّ الله تعالى إذا علمَ صِدْقَه في هذا الهروب، فإنَّه سيَأخذُ بيده، ويمدُّه بالعناية، وقد يُدخِلُهُ حِصْنَهُ الحصين، بأنْ يُبعِدَ عنه شرورَ الشَّياطين، بشرط عدم الاستهزاء بالمولى عزَّ وجلَّ، لأنَّ الله تعالى قد يَعفو عن العبد مرّةً بعد أخرى، ولا يُبادره بالنّقمة. ولكن، في مرحلةٍ من المراحل، من المُمكن أنْ يَكشفَ عنه الغِطاء، وهو ما يُعبَّر عنه بالإيكال إلى النّفس.

* «وتَعلمُ ما في نَفْسي، وتَخْبُرُ حاجَتي، وتَعْرِفُ ضَميري، ولا يَخفى عَلَيْكَ أمْرُ مُنْقَلَبي ومَثْواي..»:

هَهنا سؤال: هل من الأنسب للعبد إذا انتابَته حالةُ الرِّقّة، أنْ يُعدِّدَ مَطالبَه بين يدَي الله تعالى، أو أنْ يُجْمِلَ بكلمةٍ واحدةٍ ويقول: عِلْمُكَ بِحالي يُغْني عَنْ سُؤالي؟

اختَلَفتِ الأقوالُ في ذلك، ولعلَّ الأوْسَط والأصْلَح أنَّها قضيّةٌ حالِيّةٌ نسبيّةٌ، فتارةً يَعيش العبدُ حالةَ الافتقار والمَسْكَنة؛ فيُعدِّد حوائجَهُ، وتارةً يعيشُ حالة المحبّة والأُنس، فلا يُحبّ أنْ يُكثِرَ الطَّلب، وإنَّما يوكِلُ أمرَه إلى الله تعالى، ليَصْنَعَ به ما يشاء. فالأمرُ، إذاً، نِسْبيٌّ، يَتبعُ الحالةَ الّتي يَعيشُها العبدُ.

* «إلهي، إنْ حَرَمْتَني، فَمَنْ ذا الَّذي يَرزُقُني؟ وإنْ خَذَلْتَنِي، فَمَنْ ذا الّذي يَنْصُرُنِي؟..»:

إنَّ اللهَ تعالى هو مَصدرُ الخيرِ في الوجود، إلَّا أنَّهُ أبَى أنْ يُجرِيَ الأمورَ إلَّا بِأسبابها، كما في قوله تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًاالنّازعات:5، فهو الّذي نَفَخَ الرُّوحَ في بني آدم، وبمقدوره، عزّ وجلّ، أن يتولَّى قبْضَها أيضاً، إلَّا أنَّه أَوْكَلَ الأمرَ إلى مَلَكِ الموت.

لكنّنا نرى أنَّ اللهَ تعالى تارةً يَصِفُ نفسَهُ بأنَّه هو المُتَوفِّي، فيقول: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا..الزُّمر:42، وتارةً أُخرى يَنسبُ الفعلَ إلى ملَك الموت، حيث يقول سبحانه: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ..السّجدة:11. ومِن المعلوم أنَّ حدوثَ الشَّيء على يد الوكيل، تصحُّ نسبتُه إلى الوكيل والموكّل، على السّواء، بلا تناقضٍ في ذلك.

فالّذي – على سبيل المثال – يُعطينا مالاً، إنّما يُعطيه من حيث إنّه مالُ الله الذي أودعَه عنده، لا أنّه مالُه الخاصّ، وكذا الطّبيب المعالِجُ الذي شاءَه الباري عزّ وجلّ سَبباً لجريان شفائه تعالى على يدَيه.

* «إلهي، كأنِّي بِنَفْسي واقِفَةٌ بين يَدَيْكَ، وقد أظَلَّها حُسْنُ تَوَكُّلي عَلَيْكَ..»:

يذكِّرنا أميرُ المؤمنين عليه السلام بالموقف الرَّهيب في ساحة المَحشر، حيث لا يُسمَحُ بالكلام إلّا لمَن أذِن له الرّحمن، والظّالمُ الخاسر يَسمع زفيرَ جهنّم، وصُراخَ أهلِها يسألونَ اللهَ إخْراجَهُم منها، فيأتيهم الجواب: ﴿..اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِالمؤمنون:108، جزاءً لهم لاستهزائهم بالمُؤمنين في الحياة الدّنيا، وعليه، فإنَّه ينبغي للإنسان المُؤمن، أنْ يذكِّرَ نفسَه بهذه المواقفِ طيلةَ أيّام حياته، ويصرف أوقاتَه بالدُّعاء والحديث مع ربِّ العالمين قبل فوات الوقت، وحلول الموت.

* «إلَهي لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أيَّامَ حَيَاتِي، فَلا تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنِّي فِي مَمَاتِي..»:

أي، يا ربِّ، أنتَ لمْ تَقْطَعْ إحسانَكَ عنِّي عندما كنتُ أعصيكَ في الحياة الدُّنيا، فكيفَ تحرمني بِرَّكَ وقد صرْتُ بين يدَيك، وانقَطَعَ عِصياني لك.

* «إلَهي قَدْ سَتَرْتَ عَليَّ ذُنُوباً في الدُّنْيا وأنَا أحْوَجُ إلى سَتْرِها عَليَّ مِنْكَ فِي الأُخْرى..»:

كَم من الذُّنوب الّتي يَرتكبُها العبدُ في الخَلَوات، ولو شاءَ اللهُ تعالى لَجَعَلَ علامةً - كالسَّواد مثلاً -  لكلِّ مَعصيةٍ، وتَختلفُ شدَّةُ هذا السَّواد بحسب شدَّة المعصية، ولكنَّ اللهَ تعالى سَتَّارٌ على عباده، قد أَظْهَرَ الجميلَ وسَتَرَ القبيحَ، وهنا يَسألُ أمير المؤمنين عليه السّلام اللهَ تعالى، أنْ يُديمَ هذا السّتْرَ على عباده حتّى في الحياة الآخرة، حين تحلُّ ساعةُ الفضيحةِ على رؤوسِ الأشهاد.

* «وَأسْألُكَ أنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وَأنْ تَجْعَلَنِي مِمَّنْ يُدِيمُ ذِكْرَكَ، وَلا يَنْقُضُ عَهْدَكَ، وَلا يَغْفَلُ عَنْ شُكْرِكَ، وَلا يَسْتَخِفُّ بِأَمْرِكَ..»:

يُلخِّص أمير المؤمنين، عليه السّلام، طريقَ العرفان والسَّير إلى الله بِهذه الجُمَل القصيرة. ومفادُ قوله، صلوات الله عليه، هو أنّ سبيلَ الوصول إلى الله دوامُ الذِّكرِ المُتواصِل، ومن المعلوم أنَّ ذلك من أشَقِّ الأمور على النّفس، إذ إنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى في مَواطِنِ الطَّاعة، أو في الفرائِض، وفي جَوْفِ اللّيلِ أمرٌ هيِّنٌ، وإنَّما المطلوب هو ذِكْرُ الله تعالى في كلِّ الأحوال، لا سيّما في ساعة اشتداد الشَّهوة والغَضب، وساعة الهَمِّ بالمعصية، وإلَّا فما قيمةُ الذِّكر الّذي يَجري لقلقةً على اللّسان؟

* «إلَهي وَألْحِقْني بِنُورِ عِزِّكَ الأَبْهَجِ، فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً، وَعَنْ سِواكَ مُنْحَرِفاً، وَمِنْكَ خَائِفاً مُتَرَقِّباً، يَا ذا الجَلالِ والإكْرامِ..»:

معرفةُ الله تعالى ولقاؤه هي غايةُ الأماني، ونقطة البداية هي أن يَنحرفَ العبدُ عمَّا سِوى الله تعالى، ثمَّ يرجع مرَّةً أخرى إلى مَن أَمَرَهُ اللهُ بِصِلَتِهِم، كما هو معلومٌ في اصطلاحِ العُرَفاء: «السَّيْرُ من الخَلْقِ إلى الحقّ، ثمَّ السَّيْر من الحقِّ إلى الخَلْق».

________

* نقلاً عن موقع السّراج الإلكترونيّ (مختصَر)

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

29/05/2014

دوريّات

نفحات