تحقيق

تحقيق

25/07/2014

دولة بني عمّار في طرابلس


دولة بني عمّار في طرابلس

محطّة حضاريّة إسلاميّة في تاريخ بلاد الشّام

ـــــ الشّيخ نعيم نعمة ـــــ

 

دولة بني عمّار في طرابلس درّة من درَر التّاريخ، عفى عليها الزّمان وطواها النّسيان، وعملت الأقلام المأجورة على طَمس حقيقتها، وتشويه صورتها، فالبحث عن حقيقة هذه الدّولة الّتي لم تعمّر طويلاً ليس بالأمر الهيّن، لقلّة المؤرّخين الّذين أرّخوا لها لسببٍ أو لآخر.

هذا التّحقيق، هو مختصر دراسة موثّقة، أعدّها الشّيخ نعيم نعمة عن إمارة بني عمّار التّاريخيّة في شمال لبنان، وقد كانت نُشرت في العدد الثّاني والعشرين من مجلّة الرّسالة النّجفيّة، لكنّنا اقتصرنا منها على ما يفي بالتّعريف بأهمّ العناوين المتّصلة بهذه الدّولة المنسيّة.

 

تضرب طرابلس جذورها في عُمق التّاريخ، وتَرْقى إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، حيث تعاقبت عليها الأمم والعهود، من الفينيقيّين حتّى الانتداب الفرنسيّ، مرورًا بالرّومان، والبيزنطيّين، والعرب، والصّليبيّين، والمماليك، والعُثمانيّين.

لذلك أصبحت تضمّ عدداً كبيراً من البُنى التّاريخيّة والأثريّة بأحيائها، وأسواقها، ودُورها، وأزقّتها المتعرّجة المُلْتوية، والمسقوفة، ومعالمها، وتضمّ بين جَنَباتها أكثر من 160 مَعْلماً، بين قلعة، وجامع، ومسجد، ومدرسة، وخان، وحمّام، وسوق، وسبيل مياه، وكتابات، ونقوش، وغيرها من المعالم الجماليّة والفنّيّة.

وعندما دخلها اليونانيّون في القرن الرّابع قبل الميلاد، أطلقوا عليها اسم «تريبوليس Tripolis» أي المدينة المُثلّثة، لأنّها كانت تجمع بين ثلاث مناطق؛ وعندما دخلها العرب في القرن السّابع الميلاديّ، عرّبوا الاسم إلى «أطرابلس» بإضافة الهمزة في أوّلها تمييزًا لها عن «طرابلس الغرب» عاصمة ليبيا، ومن ثمّ حذفت الهمزة وأصبحت «طرابلس»، كما دعيت أيّام العرب بالفيحاء، وما زالت هذه الصّفة ملازمة لها حتّى اليوم.

أدّت طرابلس دوراً مهمّاً كقاعدةٍ عسكريّة ابتداءً من العام 635م. وفي العصر الفاطميّ تميّزت بحكم ذاتيّ مستقلّ، وأصبحت مركزاً للعلم لا مثيل له في المنطقة في بداية القرن الثّاني عشر الميلاديّ، إلى أن حوصرت ثمّ سقطت بيد الإفرنج الصّليبيّين في العام 1109م.

ومن الحقبات المُهمّة الّتي مرّت على طرابلس حقبة بني عمّار، الّذين جعلوا من هذه المدينة وما حولها دولة تقوم على التّشيّع لأهل بيت رسول الله، صلّى الله عليه وآله، مع الإشارة إلى أنّ الوجود الشّيعيّ في لبنان بدأ قبل بني عمّار، وهو قديم يرجع إلى زمن الصّحابيّ الجليل أبي ذرّ الغفاريّ، وقد شمل جميع المناطق المؤلِّفة اليوم للجمهوريّة اللّبنانيّة.

نسب بني عمّار

يُنسَب بنو عمّار إلى «أبي محمّد الحسن بن عمّار»، الّذي لمع اسمه في عهد الخليفة الفاطميّ «العزيز بالله» سنة 381 للهجرة، وهم يتحدّرون من قبيلة كتامة المغربيّة الأفريقيّة، وقد اعتنق الكتاميّون الإسلام في بداية القرن الثّامن الميـلاديّ (710م) مع وصول الفتح الإسلاميّ إلى مناطقهم.

وعندما قامت الدّولة الفاطميّة اعتنق الكتاميّون المذهب الشّيعيّ الإسماعيليّ، ولم يُعلم زمن انتقالهم إلى المذهب الجعفريّ بالتّحديد، والظّاهر أنّ هذا الأمر حصل بعد انتقالهم إلى الشّام، والقدر المُتيقّن أنّهم، عندما استقلّوا بدولتهم فيها، كانوا على مذهب الشيّعة الاثني عشريّة، وبقيت طرابلس بأيديهم نحوًا من أربعين سنة، حتّى  احتلّها الصّليبيّون سنة 502 هجريّة.

قال السّيّد محسن الأمين في (أعيان الشّيعة): «طرابلس أو أطرابلس، بالهمزة، مدينة في ساحل بحر الشّام، كان أهلها شيعةً في عصر الشّيخ الطّوسيّ في القرن الرّابع وما بعده (...) ثمّ انقرض منها التّشيّع بالعداوات والضّغط، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشّيعيّة». 

وفي بداية القرن العاشر الميـلاديّ (913م) كانت قبيلـة كتامـة من أقـوى القبائل البربريـّة في المغرب آنذاك، فتحالفت مع الفاطميّين ضدّ الخلافة العبّاسيّة، واستطاعوا الإطاحة بدولة الأغالبة والقضاء عليها في القيروان بتونس، وقد كان دورهم حاسمًا في تأسيس الدّولة الفاطميّة، فكانوا حُماتها وجنودها المخلصين.

انضمّ عـدد كبـير من قبيلة كتامة إلى جيش «جوهر الصّقلّيّ» قائـد الحملـة الفاطميـّة علـى مصر، وتمكنّـوا عـام (358 للهجرة - 969م) من دخـول الفسطـاط بعـد محـاولات عديدة وأسّسوا مدينـة القاهرة، وظلّوا قوّة عسكريّة مهمّة في خدمة الخلافة الفاطميّة، وقد خُصّص لهم مكان بجـوار القاهـرة للإقامة فيه، ولا يزال حيّ الكتاميّين في القاهـرة يحتفـظ باسمهـم.

بنو عمّار في مصر، وطرابلس

يقول الدّكتور يحيى مراد في كتابه (تاريخ آل سلجوق)، مُتحدّثًا عن قبيلة كتامة: «عند قيام الدّولة الفاطميّة كان شيوخ هذه القبيلة ممّن لهم الصّدارة في مؤسّساتها الإداريّة والعسكريّة».

ويقول المقريزيّ في (المواعظ والاعتبار): «كانت قبيلة كتامة من أهمّ القبائل الّتي اعتمدت عليها الدّولة الفاطميّة مدّة خلافة المهديّ عبيد الله (...) وخلافة ابنه مَعدّ أبي تميم المعزّ لدين الله، وبهم أخذَ ديار مصر  لمّا سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة 358 للهجرة، وهم أيضًا كانوا أكابر مَن قدم معه من الغرب في سنة 362 للهجرة. (...) فلمّا كان في أيّام ولده العزيز بالله نزار، اصطنع الدّيلم والأتراك، وقدّمهم وجعلهم خاصته، وحطّ من قدر كتامة (...) وما زال ينقص قدرهم ويتلاشى أمرهم حتّى صاروا في زمن المستنصر من جملة الرّعيّة بعدما كانوا وجوه الدّولة وأكابر أهلها».

هذا في مصر، لكنّ المصادر التّاريخيّة لا تذكر شيئًا عن كيفيّة مجيء بني عمّار إلى طرابلس، أو بدء تاريخهم بها، ومن الرّاجح أن يكون انتقالهم إلى الشّام بدأ بعد أن تدنّت مرتبتُهم وتدهورت أحوالهم في مصر  بسبب المؤامرات الّتي حِيكَت حولهم، حيث آثروا الهجرة الصّامتة من مصر إلى الشّام أولاً، ثمّ نزحوا إلى طرابلس بعد أن أصبح الحسن بن عمّار قاضيًا عليها، حيث عبّدَ الطريق لأبناء قبيلته لينتقلوا إلى هناك أوّلاً بأوّل.

أضِف إلى ذلك أنّ طرابلس أضحت حينها قاعدة أساسيّة للدّعوة الفاطميّة من النّاحية الدّينيّة، ومركزًا مهمّاً للأسطول البحريّ والقوّات البرّيّة من النّاحية العسكريّة، فضلاً عن اتّخاذها عاصمة لولاية إداريّة متَّسعة الأرجاء تمتدّ حدودها من نواحي نهر الكلب جنوباً، حتّى مدينة اللّاذقيّة شمالاً. ونظراً إلى هذه الأهمّيّة، فقد حرص الفاطميّون على أن يكون زمام الأمور في طرابلس بيد المغاربة، تمثّل هذا الحرص بتعيين عددٍ كبير من القضاة والقادة العسكريّين في الحواضر الشّاميّة من الكتاميّين خاصّة.

تأسيس الدّولة

أوّل من ولي حكم طرابلس من بني عمار  وأسّس دولتهم كان «أبو  طالب الحسن ابن عمّار» المعروف بأمين الدّولة، حيث نطالع اسمه في سنة (457 للهجرة - 1065م) عندما دخل الأمير حصن الدّولة، حيدرة بن منزو، طرابلس، فساعده أمين الدّولة قاضيها في الاستيلاء عليها وانتزاعها من بني أبي الفتح، وقد ظلَّ يعدّ نفسه تابعاً للدّولة الفاطميّة حتّى سنة (462 للهجرة - 1070م) حيث استقلّ بطرابلس وتفرّد بأمرها.

وفي تلك المرحلة كان هناك صراع بين الدّولة الفاطميّة والدّولة السّلجوقيّة، فاتّخذ أمين الدّولة موقفاً محايداً بينهما، وأعلن استقلال إمارته عن الدّولة الفاطميّة.

ولم تكن هذه الدّولة الفتيّة دولةً عاديّة، بل استطاع حكّامها، في غضون فترة وجيزة، أن يؤسّسوا دولةً ذات سيادة، تعتمد على نفسها، ولديها اكتفاء ذاتيّ، زراعيّاً واقتصاديّاً وتجاريّاً، وتستقوي بشعبها الّذي يحبّها وجيشها الّذي يدافع عنها، فقطعت في سنوات قليلة ما يحتاجه غيرها إلى عقود من الزّمن، ممّا ساعدها على الوقوف في وجه الغزو الصّليبيّ وتحمّل حصاره مدّة عشر سنوات تقريباً.

ولم تكن إمارة بني عمّار منحصرة في طرابلس فقط، بل امتدّت إمارتهم حتّى إنطاكية من جهة، وامتدّت من نواحي جبلة في سوريا إلى قلعة صافيتا وحصن الأكراد والبقيعة، وفي لبنان امتدّت حتّى تخوم بيروت من جهة، ومن جهة أخرى حتّى الهرمل والضّنّيّة وبشرّي وبلاد العاقور شرق بلاد جبيل، بل حتّى جونية، حيث كانت جونية من أعمال طرابلس في ذلك الوقت كما يذكر الخطيب البغداديّ.

ملوك بني عمّار

تبيّن ممّا سبق أن نسب بني عمار  يرجع إلى أبي محمّد الحسن بن عمّار، الّذي كان من أبرز رجال الخليفة الفاطميّ العزيز بالله، ثمّ أصبح بنو عمّار  قضاة طرابلس ثمّ ملوكها، وأوّل ما يصلنا من أسمائهم بعد ذلك هم:

1- «أبو الكتائب، أحمد بن محمّد بن عمّار»، الّذي سبق أمين الدّولة في تولّي القضاء على طرابلس من قِبَل الفاطميّين، وكان أبو الكتائب شيخًا‌ جليلاً، ومعاصراً للشّيخ الفقيه أبي الفتح الكراجكيّ، صاحب (كنز الفوائد).

2- ثمّ تولّى بعده «أمين الدّولة، أبو طالب الحسن بن عمّار» (ت: 464 للهجرة). تقدّم ذكره عند الكلام عن تأسيس الدّولة، وإلى ذلك، فقد كان عالمًا، فقيهًا، ألّف الكثير من الكتب النّفيسة، منها كتاب (ترويح الأرواح ومفتاح السّرور والأفراح)، المنعوت بجراب الدّولة.

3- ثمّ «جلال الملك، أبو الحسن عليّ بن عمّار» (ت: 492 للهجرة). ازدهرت طرابلس في زمانه وعاشت عصرها الذّهبيّ. جدّد (دار العلم) الّتي أنشأها أمين الدّولة، واتّسعت في زمانه أطراف الإمارة، وعظم شأنها ونشطت تجارتها، وكانت طرابلس في عهده تبعث الحكّام والقضاة والخطباء إلى البلاد التّابعة لها مثل جبيل وعرقة وطرطوس وجبلة، وفي عهده أيضًا تمّ بناء جامع كبير في المدينة.

4- ثمّ «فخر الملك، عمّار  بن محمد بن عمّار» (كان حيّاً سنة 516 للهجرة). حكم مدّة عشر سنوات تقريباً، وبقي حتّى سنة 501 للهجرة، حيث ذهب إلى بغداد مستنفراً السّلاجقة ضدّ الصّليبيّين الّذين حاصروا طرابلس، لكنّهم خذلوه، وأثناء غيابه استعاد الفاطميّون طرابلس من بني عمّار، وقضوا على حكمهم فيها، وبعد عدّة أشهر احتلّ الصّليبيّون المدينة.

5- «أبو المناقب، شمس الملوك، أبو الفرج محمّد بن عمّار»، استخلفه ابن عمّه فخر الملك عند خروجه إلى بغداد، لكنّه أظهر الخلافَ له والعصيان عليه، ونادى بشعار المصريّين، فلمّا عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرُهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي، ففعلوا ما أمرَهم، وذلك قبل أن تسقط طرابلس بيد الصّليبيّين بسبب تخاذله وقلّة وفائه، والظّاهر أنّه بقي محبوساً في الحصن إلى أن استولى الفاطميّون على طرابلس، فأخذوه مع مَن أخذوا من بني عمّار  إلى مصر.

الدّور العلميّ لبني عمّار

لم يغفل بنو عمّار الحياةَ الثّقافيّة والعلميّة في طرابلس، لذا وضَعوا نُصبَ أعينِهم هدفًا وسَعوا للوصول إليه، ولم يكن ذلك صعباً عليهم بما أنّهم قضاة وعلماء قبلَ أن يُصبحوا أمراء، فقد كثُرت في أيّامهم حلقاتُ التّدريس في طرابلس، وازدحمت المدينةُ بأشهر الأعلام، من أدباء وفقهاء وشعراء ولُغويّين، وقصدَها النّاس على اختلاف أجناسِهم وأديانِهم ومذاهبِهم، وكان يَفِدُ إليها التّجار والرّحالة وطلَبةُ العلم والعلماءُ من كلّ البلاد.

كما كانوا يَبعثون القضاة والخطباء إلى المدن الشّاميّة، ومن ذلك ما ذكره ابن تغري بردي في كتابه (النّجوم الزّاهرة) عن ابن تلتمش: «أنّه عندما فتح حصن انطرطوس من الرّوم سنة 475 للهجرة، بعث إلى صاحب طرابلس جلال الملك يطلب منه قاضيًا وخطيبًا ليقيم بها».

وازدهر علم التّرجمة في زمن بني عمّار، فتُرجمت الكثير من العلوم والآداب عن اللّاتينيّة والفارسيّة وغيرهما إلى اللّغة العربيّة، ومنها إلى اللّغات الأخرى، كما شهد بذلك المستشرق (دي لاسي أوليري) في كتابه (علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب): «وسَاوتْ [طرابلس] في ذلك كُبريات الحواضر العربيّة، فَكَثُر فيها المترجمون والنّسّاخون والكُتّاب والخطّاطون».

* (دار الحكمة) في طرابلس: أنشأ بنو عمّار  في طرابلس مدرسة عُرفت باسم (دار الحكمة) ضمّت عددًا كبيرًا من طلّاب العلم، وكان يفد إليها العلماء لمراجعة المؤلّفات لأشهر المؤلّفين في العلوم والمعارف، كما كانت تُعقد حلقات علميّة لكبار العلماء ينضمّ اليها العلماء الوافدون إلى طرابلس.

وأصبحت طرابلس بذلك ميدان علم ودرس ومباراة في التّعلّم، ومركزًا من أعظم المراكز الشّيعيّة في ذلك العصر، وكعبةً يحجّ إليها طلّاب العلم للأخذ عن علمائها مختلف العلوم والفنون من فقه وحديث ولغة وأدب وفلسفة وهندسة وفلك وطبّ وغيره، وللاطلاع على المُصنّفات والمخطوطات العلميّة والأدبيّة والدّينيّة والفلسفيّة الّتي كانت تحتويها مكتبتها.

* (دار العلم) في طرابلس: انفردت مدينة طرابلس دون غيرها من بلاد الشّام، بقيام مكتبة كبرى فيها عُرفت بـ (دار العلم)، الّتي عُدّت «أروع مكتبة في العالم»، فقد بادر أمين الدّولة إلى وضع حجر الأساس لهذا الصّرح العلميّ فور استقلاله بطرابلس، وعمل على تهيئة النّواة الأولى لهذه المكتبة من الكتب الّتي جمعها بنفسه، وأضاف إليها خزائن الكتب الّتي كان قد وقفها ذَوو اليسار من أهل طرابلس.

وجاء بعده جلال الملك فتصدّى لجمع المكتبات الأهليّة الموجودة في طرابلس والّتي كانت تضمّ خزانات كتب موقوفة، إلى جانب مكتبة عمّه أمين الدّولة، وكوّن منها - ومن الكتب الّتي جمعها - دارَ كتب ضخمة، اهتمّ الكثير من المؤرّخين بتعداد ما احتوته من المؤلّفات، وفي عهده ازدحمت طرابلس بالعلماء والأدباء وطلّاب العلم.

وقد اهتمّ جلال الملك بهذه الدّار، وأوقف على طلّابها الجرايات، فكان يفرّق على أهلها ذهبًا تشجيعًا لهم. وكان يكلّف النّاظر على الدّار القيام بمهمّة توزيع هذه الجراية، وكان الشّاعر ابن الخيّاط ممّن صُرفت له تلك المنحة، وقد ذكر ذلك في ديوانه.

وليس عجيبًا أن تكثر المكتبات في طرابلس وأن تمتلئ بالكتب في القرن الخامس الهجريّ / الحادي عشر الميلاديّ، وفي القرن الّذي تلاه، فقد كانت مصانع الورق الّتي تعمل في المدينة تمدّ المُشتغلين ببيع أو نسخ أو تأليف الكتب بكمّيّات موفورة من الورق بمختلف أنواعه المعروفة في ذلك الوقت من الكاغَذ، والطّوامير، والقراطيس، إذ كانت تشتهر بصناعة الورق الجميل الّذي يفوق السّمرقنديّ جودةً، وكان لذلك أثره في حركة التّأليف، والكتابة، والتّجليد، والوراقة، فكثر الورّاقون الّذين كانوا يعملون في تجليد الكتب على الطّريقة الصّينيّة وزَخرفتها وتَوشيحها بالخطوط الملوّنة، ووصلتنا أسماء عدّة من الورّاقين بطرابلس، منهم أبو الحسن إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق الورّاق ويُعرف بـ«ورّاق الوزير»، وأبو عليّ الحسن بن محمد بن هبة الله الطّرابلسيّ الورّاق.

وقد قدّر شوشتري في كتابه (مختصر الثّقافة الإسلاميّة) مقتنيات مكتبة بني عمّار بثلاثة ملايين كتاب، وكان لها أكثر من مائة وثمانين ناسخًا يتناوبون العمل بالمكتبة ليلاً ونهارًا.

نبذة عن بعض علماء طرابلس

1- الشّيخ الكراجكيّ: محمّد بن علي بن أبي الفتح الكراجكيّ، كان عالمًا فاضلاً مُتكلّمًا فقيهًا مُحدّثًا ثقةً جليل القدر، تتلمذ على الشّيخ المفيد، والسّيّد المرتضى، والشّيخ الطّوسيّ. له (كنز الفوائد).

2- القاضي ابن البرّاج: أبو القاسم عبد العزيز بن البرّاج، يعدّ خليفة الشّيخ الطّوسيّ بالفقه في البلاد الشّاميّة، قرأ على الشّريف المرتضى والطّوسيّ والكراجكيّ وغيرهم.

عُيّن قاضيًا، فاستمرّ في منصبه عشرين عامًا. ناظرَ إمام المعتزلة عبد السّلام القزوينيّ، في مجلس جلال المُلك ابن عمّار. صنّف عدّة كتب في علم الكلام وفي أصول الفقه وفروعه، منها: (المهذّب)، توفّي في طرابلس سنة 481، ودُفن في حجرة القاضي.

3- الحسين بن بشر الطّرابلسيّ. كان خطيبًا وبارعًا في المناظرة، ناظر الخطيب البغداديّ وتفوَّق عليه. ذكره ابن أبي طيّ في (رجال الشّيعة) وقال: «كان صاحب (دار العلم) بطرابلس، وله خطَب يضاهي بها خطَب ابن نباتة».

4- أبو الفضل، أسعد بن أحمد بن أبي رَوح. رأس الشّيعة في الشّام، ومن مشايخ ابن بركات الطّرابلسيّ. عُقدت له حلقة الإقراء، وانفرد بالشّام وطرابلس وفلسطين.

5- أبو عبد الله، أحمد بن محمّد الطّليطُليّ، المُحدّث.

 

النّهضة العمرانيّة

لم يُغفل بنو عمّار النّواحي العمرانيّة في إمارتهم، فمن أهمّ ما عنوا به المشاريع المائيّة، فأمّنوا لطرابلس ريّاً مُنظّماً من النّهر الّذي عُرف بعد ذلك باسم (نهر أبو عليّ) اعترافًا بهذا الجميل وتخليدًا لذكرهم، فقد كان نهر قاديشا يفيض فيُحدِث أضراراً ولا ينتفع منه، فوضع فخر الملك، أبو عليّ ابن عمّار، خطّة إنمائيّة تنظّم أمور النّهر وتمنع فيضانه وتُجريه في أقنية للرّيّ.

وكان بنو عمار السّبب في تعرّف الأوروبّيّين على قصب السّكّر لأوّل مرّة على ضفاف نهر (أبو عليّ) وفي بساتين طرابلس، فقد أقاموا المصانع لعصره وتجفيفه وتصنيعه بشكل رقائق أو ناعم أو بشكل حلوى، ونقلوا غروسه إلى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، وظلّت طرابلس ومعها دمشق تُموّنان أوروبّا حتّى أواخر العصور الوسطى بالسّكّر بجميع أشكاله المعروفة آنذاك.

وكان من حُسن سياسة بني عمّار أن أثْرت المدينة، وكانت على أحسن حال اقتصاديّ حتّى خلال الحصار الصّليبيّ لها برّاً وبحراً، إذ ظلّت صامدة تقاتلهم عشر سنين مُستعينة بثرواتها الدّاخليّة وحُسن إدارة اقتصادها.

 

الصّناعة والتّجارة

اهتم بنو عمّار بالصّناعة كاهتمامهم بالعمران، لذا عمدوا إلى إنشاء مصانع للورق، كما تقدّم، وطوّروا صناعة الحرير التي انتشرت مصانعُها على ضفاف النّهر، بما فيها من ألوف الأنوال والمغازل ما أدهش الفرنج وأثار إعجابَهم.

كذلك اهتمّ بنو عمار  بالملاحة البحريّة، فأنشأوا الأساطيل التّجاريّة، فضلاً عن أسطولهم الحربيّ الّذي تولّى قتال أساطيل الصّليبيّين طوال عشر سنوات. وعن طريق البحّارة الطّرابلسيّين عرف الأوروبّيّون «البوصلة» وكيفيّة استعمالها.

هذه هي «طرابلس بني عمّار» التي عرفت عصوراً مزدهرة، وسيبقى التّاريخ يشيد بمآثر حكّامها وبما خلّفوه من نهضة حضاريّة على كلّ المستويات.

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

26/07/2014

دوريّات

نفحات