من لوازم الإيمان اليَقظة وعلامتُها المراقبة، وهي
«قرارٌ بالتزام قانون الله تعالى: الشِّرعة والمنهاج» تماهياً مع اليقين والحبّ:
اليقينِ به تعالى، وحبِّه سبحانه.
في المناجاة الشّعبانيّة: «وَأَنْ تَجْعَلَنِي مِمَّنْ
يُدِيمُ ذِكْرَكَ، وَلا يَنْقُضُ عَهْدَكَ، وَلا يَغْفَلُ عَنْ شُكْرِكَ، وَلا يَسْتَخِفُّ
بِأَمْرِكَ. إِلهِي وَأَلْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ، فَأَكُونَ لَكَ عارِفاً،
وَعَنْ سِواكَ مُنْحَرِفاً، وَمِنْكَ خائِفاً مُراقِباً، يا ذا الجَلالِ وَالإكْرامِ».
وأبرزُ كُتُب المراقبات: كتاب (إقبال الأعمال)
لسيّد العلماء المراقبين، السّيّد ابن طاوس، و(المراقبات) للفقيه الكبير
الشّيخ الملَكيّ التّبريزيّ، وفي هَديهما: هذا الباب.
شهر ذي الحجّة الحرام*
.. وما أدراكَ
ما عَرَفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد:
«شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراقبات): أمرُ
شهر «ذي الحجّة» عظيمٌ جدّاً، وللمراقبين في هذا المنزل مواقف يجب، بِحُكم
العبوديّة وحقّ المراقبة، أن لا يدخلوها مع الغفلة، فيُضيِّعوا حرمتَها، بل عليهم أن
يترقّبوها قبل حلولها، ويعدّوا لها عدّتها قبل حضورها، فإنّها مشاهدُ للأبرار
والأطهار، وأهلِ القدس والأنوار.
الأيّامُ المعلومات
(المراقبات): من
أبرز مواقف شهر ذي الحجّة، الأيّام العشرة الأولى منه، وهي المراد من الأيّام
المعلومات في قوله تعالى: ﴿..وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..﴾الحجّ:28،
والذِّكرُ لا يجتمع مع الغفلة، فاحذر من أن تدنّس قلبك بالفضلات في هذا الشّهر، لا
سيّما بالمعصية.
* وصَلِّ في كلّ ليلة
منها بين المغرب والعشاء ركعتَين، تقرأ في كلّ ركعة منهما (فاتحة) الكتاب و(الإخلاص)،
وقوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً..﴾الأعراف:142،
وتساءل عند قراءة الآية الشّريفة: ما هذه المواعدة؟ وازدَد حسرةً وشوقاً إلى
لقاء الله، ولا تَكُن من الخاسرين.
اليوم الأوّل:
* وصُم أوّل يومٍ منه،
فإنّه رُوي في (الفقيه) أنّ: «مَنْ صَامَ أوّل يَومٍ
مِن عَشْر ذِي الحِجّة كُتِبَ لَهُ صَومُ ثَمانِينَ شهراً».
* ومِن عمل هذا اليوم
الأوّل أنّه يُستحبّ فيه صلاة فاطمة الزّهراء سلام الله عليها. [انظر:«كتاباً
موقوتاً» من هذا العدد]
العشر الأوائل:
* ويُستحبّ في هذه
الأيّام كلّها الدّعاء الّذي أوّله: «أللَّهُمَّ هَذِه
الأَيَّامُ الَّتِي فَضَّلْتَهَا عَلَى الأَيَّامِ..» [مفاتيح
الجنان: أعمال ذي الحجّة]
وبالجملة، على المكلّف
أن لا يترك شيئاً من الخير والعبادة لشُبهة أنّه لا ينفعني من جهة سوء حالي، لأنّ
كلّ ما يسنح من الخواطر لترك العمل، فهو شيطانيٌّ، بل عليه أن يجدّ ويسعى في تصحيحها،
وإذا علم اللهُ من قلبه أنّه في مقام الاضطرار، فإمّا أن يمنّ عليه
بالقدرة، أو يتقبّل منه ما قدر عليه، ولا يردّه من جهة ما لا يقدر عليه من الشّرائط.
* ومن أهمّ ما ورد في هذه
الأيّام التّهليلات كلّ يوم عشر مرّات: «لاَ
إِلَهَ إلَّا اللهُ عَدَدَ اللَّيَالِي والدُّهُورِ، لاَ إِلَهَ إلَّا اللهُ
عَدَدَ أَمْوَاجِ البُحُورِ، لاَ إِلَهَ إلَّا اللهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ، لاَ إِلَهَ إلَّا اللهُ عَدَدَ الشَّوْكِ والشَّجَرِ، لاَ إِلَهَ إلَّا
اللهُ عَدَدَ الشَّعْرِ وَالوَبَرِ، لاَ إِلَهَ إلَّا اللهُ عَدَدَ الحَجَرِ
والمَدَرِ، لا إِلَهَ إلَّا اللهُ عَدَدَ لَمْحِ العُيونِ، لا إلهَ إلَّا اللهُ في
اللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، لا إِلَهَ إلَّا اللهُ
عَدَدَ الرِّيَاحِ فِي البَرَارِي وَالصُّخُورِ، لاَ إِلَهَ إلَّا اللهُ مِنَ
اليَوْمِ إلىَ يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ»، وقد وردَ لها ثواب عظيم.
* ومن الأهمّ صوم
الأيّام التّسعة الأولى من ذي الحجّة. وصومُ التّروية – وهو اليوم الثّامن -كفّارة
ستّين سنة، وكلّ ذلك للرّواية.
اللّيلة التّاسعة: ليلةُ عَرَفة
(المراقبات): رُوي
أنّه يُستجاب فيها ما دعا من خير، وللعامل فيها بطاعة الله تعالى أجرُ سبعين ومائة
سنة، وهي ليلة المناجاة، وفيها يتوب الله على من تاب. ويستحبّ فيها أن يدعو بالدَّعاء
الّذي أوّله: «أللَّهُمَّ يا شاهدَ كلّ نجوى..».
[مفاتيح الجنان: أعمال اللّيلة التّاسعة من ذي
الحجّة]
أقول: لا تغفل عن
مضامين هذه المناجاة الفاخرة، ولَعَمري لو كنتَ من أهلها لرأيتَ فيها علوماً ينبغي
للمسلم أن يصرف عمراً في تحصيلها، وادعُ بها حيّاً، ولا تدع بها ميتاً، وتفكّر في ما
تضمّنته من أسماء الله وصفاته وأفعاله، فإن انكشف لك شيءٌ من حقائق بعضها، أو
انشرح صدرُك بفهم بعض مراداتها، لصدّقتَ ما قلناه بحقيقة التّصديق.
اليوم التّاسع: يومُ عرَفَة
(المراقبات): هو
يوم كأنّه (خُصَّصَ) للدّعاء، فعلى المراقب أن يستعدّ بكلّ ما يقدر عليه لهذا
الموسم الجليل. والعُمدة في ذلك أن يحصّل شرائط استجابة الدّعاء، وأهمّيّة الدّعاء
في هذا اليوم بحيث منعوا مَن يضعّفه الصَّوم عن الدّعاء عن الصَّوم فيه، مع أنّ في
بعض الأخبار الصّحيحة المعتمدة أنّ صومه كفّارة تسعين سنة.
وعلى العارف أن يغتسل لزيارة
الإمام الحسين عليه السّلام ولِيوم عرفة، ويبتدئ بها بحيث يتمّها إلى الزّوال،
فيشرع من حين الزّوال في مقدّمات الصّلاة والدّعاء. وليصلِّ بعد الظّهرين ونوافلهما
ركعتَين تحت السّماء، ثمّ يأتي محلّ دعائه.
وإذا جلست للدّعاء
فعليك بالسّكينة والوقار، ولتَبتدئ قبل الشّروع بما ورد في ذلك من الذّكر. ثمّ
اقرأ من الدّعوات المأثورة ما يقتضيه نشاطُك عن قلبٍ حاضر، وعن تدبّرٍ وتفهّمٍ لما
تقول.
ولا تترك دعاء الحسين
عليه السّلام. (هو من أشهر الدّعوات، وأهمّ أعمال هذا اليوم، رُوي عن ابنَي غالب
الأسدي قالا: كنا مع الحسين بن عليّ عليهما السّلام عشيّة عَرَفة، فخرج عليه السّلام
من فسطاطه متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً حتّى وقفَ هو وجماعة من أهل
بيته ووُلده ومواليه في ميسرة الجبل مستقبلَ البيت، ثمّ رفع يدَيه تلقاءَ وجهه
كاستطعام المسكين، ثمّ قال: الحَمْدُ للهِ الَّذِي
لَيْسَ لِقَضائِهِ دافِعٌ.. إلى
آخر الدّعاء).
ولا تترك دعاء (الصّحيفة السّجّاديّة) – وهو الدّعاء
السّابع والأربعون - وإن ضَمَمْتَ إليهما دعاء الصّادق عليه السّلام في الصّلاة
على محمّد وآل محمّد، وأوّله: «أللّهمّ يَا أجودَ
مَن أعطى..»، ثمّ دعوتَ بإنشاء نفسك في حوائجك، وقدّمت الدّعاء للإخوان
المؤمنين، لا سيّما مَن علّمك علومَ الدّين، والوالدَين والآباء والأمّهات، وسائر
الأرحام، وذوي الحقوق فهو أحسن.
وإيّاك أن تواجه ربّك
بدعوى كاذبة، وإظهار ما لستَ عليه من أحوال العبوديّة ومراسم التّضرّع والابتهال
والمَسكنة.
ليلةُ الأضحى
(إقبال الأعمال): ليلةُ
الأضحى من اللّيالي الأربع الّتي يُستحبُّ إحياؤها، واعلم أنّ إحياء اللّيالي
بالعبادات هو أن تكون حركاتُك وسكناتُك، وإقبالك وامتناعك، كلّها، في الله جلّ
جلاله، وأن تقصدَ بها التّقرّبَ إليه والإقبالَ عليه ومراعاةَ الأدب بين يدَيه في ما
يكرهُه أو يرضاه، كما يكون العبد بين يَدي مولاه، لا سيّما إذا كان حيث يراه مولاه.
ويُستحبّ فيها وفي
يومها زيارة الإمام الحسين عليه السّلام لِمَا رُوي عن الإمام الصّادق عليه السّلام:
«مَنْ زارَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْلَةً مِنْ
ثَلاثٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَما تَأَخَّرَ، قال الرّاوي: أيّ اللّيالي؟ فذكر منها ليلةَ
الأضحى».
يوم عيد الأضحى
(المراقبات): هو
من مواسم نداء الله - جلّ سلطانه وعَظُمت آلاؤه - عبيدَه وإماءَه بالإذن العامّ،
والفيض الخاصّ، لمغفرة الذّنوب، وعلاج العيوب، وإنجاح المسؤول، والفوز بالمأمول،
وإعطاء الخِلَع والجوائز، والأمان من الأخطار عند الهَزاهز.
واغتسِل في أوّل اليوم،
واقصد به تطهيرَ قلبك عن الاشتغال بغير الله، وكبّره بحقيقة التّكبير، واستصغر
بتكبيره ما بين العُلى والثّرى، فجميعُها دون كبريائه، وَالبس أنظف ثيابك، واقصد
بها التّستُّر
والتّحلّي بلباس التّقوى، والأخلاق الحسنة الجميلة، ثمّ تخرج إلى مصلّاك، فإذا
وصلتَ إلى المصلّى، وجلست في موضع صلاتِك، تقول: «الله
أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلهَ إِلّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ
وَللهِ الحَمْدُ، اللهُ أَكْبَرُ عَلى ما هَدانا، اللهُ أَكْبَرُ عَلى ما رَزَقَنا
مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعامِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلى ما أَبْلانا».
ويستحبّ أن تدعو بعدها
بدعواتٍ ومنها دعاء «النّدبة»، وهو يهديك إلى ما يناسب هذه الأيّام من ذكر إمامك،
وسلطان زمانك، ومَن هو أَوْلى بك من نفسك، من كلّ أحدٍ، وما يجب عليك من الوَجْد
والحزن والبكاء لِفقده.
اليوم الثّامن عشر: عيد الغدير
(المراقبات): وأمّا
يوم الغدير، وما أدراك ما يوم الغدير، هو
من يوم المبعث الشّريف بمنزلة الجزء الأخير من العلّة التامّة، بل بمنزلة الباطن
من الشّيء الظّاهر، لأنّ كلّ ما في المبعث الشّريف من الخير والفوز والسّعادة
مشروطٌ بولاية أمير المؤمنين والأئمّة من ولده، لما ورد في الأخبار الكثيرة من طُرق
العامّة والخاصّة أنّ نورَهما كان واحداً إلى أن افترق في صلبَي عبد الله وأبي
طالب عليهما السّلام، وأنّ الله أوجب ولايتَهما وآلهما على جميع الخلق.
* وقد روي في ليلته
صلاة اثنتَي عشرة ركعة. [انظر:«كتاباً موقوتاً»]
وأمّا يومه فإنّ العمل
فيه يعدل ثمانين شهراً. وروي أنّه كفّارة ستّين سنة. ويُستحبّ، مؤكّداً، زيارة
الأمير صلوات الله عليه. وأن يصلّي ركعتين أيّ وقت شاء وأفضله قرب الزّوال. [انظر:«كتاباً
موقوتاً»]
ويُستحبّ أيضاً أن
يغتسل في أوّل اليوم، ويلبس أنظفَ ثيابه ويتطيّب، ويقول عند مصافحة المؤمنين: الحَمْدُ للهِ الّذي جَعَلَنا مِنَ المُتَمَسِّكينَ بِولايَةِ
أَميرِ المُؤْمِنينَ وَالأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. ويهتمّ في التّصدّق وإطعام المؤمنين، لا سيّما
بإفطارهم، ويزيد في تهجّد ليلته وقيامها على سائر اللّيالي.
اليوم الرّابع والعشرون: مباهلة نصارى نَجران
(إقبال الأعمال):
«ومن الدّعاء في يوم المباهلة دعاء رسول الله صلّى
الله عليه وآله، رويناه عن أبي عبد الله عليه السّلام،
قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: لَوْ قُلْتُ
إِنَّ في هَذا الدُّعاءِ الاسْمَ الأَكْبَرَ لَصَدَقْتُ، وَلَوْ عَلِمَ النّاسُ ما
فيهِ مِنَ الإِجابَةِ لاضْطَرَبوا عَلى تَعَلُّمِهِ بِالأَيْدي، وَأَنا لَأُقَدِّمُهُ
بَيْنَ يَدَيْ حَوائِجي فَيَنْجَحُ، وَهُو دُعَاءُ المُبَاهَلَةِ..»،
وأوّله: «أللّهمَّ إنّي أَسْأَلُكَ مِن بَهائِكَ
بِأَبْهاه..». [مفاتيح الجنان: أعمال
يوم المباهلة]
ثمّ إنّ لهذا اليوم
شرفاً آخر وكرامةً أخرى، من جهة تصدُّق صاحب الولاية
عليه السّلام فيه بخاتَمه على المسكين في حال الرّكوع، ودلالةُ الله جلّ جلاله في
كتابه له بالولاية، ووصْفِه عليّاً عليه السّلام بمحامد أوصاف جليلة، في قوله
تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ المائدة:55.
اليوم الخامس والعشرون: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
عَلَى حُبِّهِ..﴾
(إقبال الأعمال):
عن الشّيخ المفيد عند ذكر شهر ذي الحجّة: «وفي يوم الخامس والعشرين منه نزلتْ في
أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام سورة (هل أتى)، ويستحبّ صيامُه
على ما أظهره اللهُ تعالى ذكرُه من فضل صفوتِه وعترة رسولِه وحجّته على خلقه».
آخر يوم من ذي الحجّة
يؤكّد آية
الله الملَكي التّبريزي
أنّ لهذا اليوم
عملا مهمّاً (صلاة ودعاء) وهو بنفسِه
شاهدُ صدق على
صحّة روايته، لناحية مضمون
دعائه، والحثّ على
صلاةٍ بعينِها ليتدارَك
العبدُ ما فاته
من الطّاعات في
سنَتِه. فآخر السّنة، بحكم الألباب،
أجدرُ وأنسب للاستدراك
من غيرها، ومن
مناسبة العمل والدّعاء
تعرف أنّه إنّما صدر
عن أئمّة الدّين
عليهم السّلام. [انظر:«كتاباً موقوتاً» من هذا العدد]
*
الفقرات المنقولة عن كتابَي (الإقبال) و(المراقبات) ترِد مختصرة، وأحياناً بتعديل
في العبارة.