المَوت، من ضروريّات التّكامل
الحركةُ الجوهريّة، هي حركةٌ من النّقص إلى الكمال، وليس
من الكمال إلى النّقص. وهذه الحركة هي أمرٌ ذاتيٌّ وقهريّ؛ بحيث لا يُمكن خلافها.
وبناءً على ذلك، فالسَّير من الكمال إلى النّقص هو أمرٌ محال.
يكون الإنسان في البداية جماداً ثمّ يدخل الرَّحِم. وفي
بدايات حياته في الرَّحِم، يكون في الحقيقة نباتاً من النّباتات (فلا هو حيوان ولا
هو إنسان)، وهو كالشّجرة الّتي ليس لديها إلّا القوّة النّامية... ثمّ يتحرّك [أي
الحركة الجوهريّة، وليس الحركة في المكان] ليـَصـِل إلى حيث تكون فيه الحيوانيّة [أي
الحِسّ والحركة] أيضاً.
ويستمرّ على هذا المنوال في حركته الجوهريّة إلى الأعلى
باتّجاه عالم التّجرّد [من المادّة]. ومن غير الممكن ألّا يحصل له السَّير التّكامليّ
هذا. فلا بدّ لهذا الكائن من السَّير باتّجاه عالم التّجَرُّد، وهذا السَّير هو
أمر ذاتيٌّ له...
خلاصةُ القول؛ إنّ للإنسان، بحركته الجوهريّة، تكاملا ًجوهريّاً،
يتّجه من خلاله باتجاه التّجرّد. وبناءً على الحركة الجوهريّة فقيامُ السّاعة، حتّى
وإن لم يكن هناك أنبياء، هو أمرٌّ قهريّ وذاتيّ [لا بدّ منه].
***
عندما يتمّ إيجادُ أكثر أجزاء الجسم اعتدالاً، أي خَلْق
الدّماغ لدى الجَنين، فحقيقةُ الأمر هي أنّه قد تَمّت آخرُ مرحلةٍ من مراحل [كمال]
الجسم، والّتي هي بمنزلة العرش له.
وبحركة الجسم [الجوهريّة] تولَد أوّل درجة من درجات
الإحساس؛ حيث يتحوّل الجسم من خلال الحركة إلى حاسّة اللّمس، فهذه الدّرجة من
الحواسّ هي الأقرب للجسم. ثمّ يستمرّان [الجسم والدّماغ] بالحركة تدريجيّاً إلى أن
تظهر بقيّة الحواسّ وتظهر القوّة التّخيّليّة. تتكامل هذه الحواسّ.
وبما أنّ آخر مرتبة من مراتب عالم الطّبيعة هي أوّل
مرتبة في عالم التّجرّد؛ فمع تدرُّج هذه القِوى بالتّكامل وحركتها باتّجاه عالم
الغَيب؛ تحصل على أثر ذلك كلّه وحدة تـُسمّى بالنّفس [أي أنّ كلّ القِوى والحواسّ
تَتَّحِد في موجودٍ واحد هو النّفس]، والنّفس بوحدتها تشتمل وتحتوي على كلّ هذه
الكَثَرات.
***
تتحرّك النّفس بالتّدريج، وما دامت في [عالم الطّبيعة]
فإنّها تسحبُ نفسَها من خلال الحركة الجوهريّة مرتبةً إثر أخرى من عالم الطّبيعة.
ولكن، وبالرغم من تَجَرُّدِ مرتبة من مراتب النّفس، إلّا أنّ مرتبةً أخرى منها ما تزال
من عالم الطّبيعة. في الواقع، هناك تمازج واختلاط بين عالم الغَيب وعالم الشهادة؛
بحيث تختلط الطّبيعة والمادّة بعالَم التّجرّد، ويختلط الأمر الكثيف [الجسم والمادّة]
بالآخر اللّطيف [عالم المجرّدات]، إلى أن تسلخ [النّفس] نفسَها من عالم الطّبيعة،
بسبب سيرها التّكامليّ، وتنسَلِك في قافلة المجرّدات.
في الحقيقة، إنّ هذا الموجود [الإنسان] هو مسافرٌ قد
انطلق من أوّل نقطة في عالم الطّبيعة وعالم الهَيولى، ورافق قافلةَ كائنات عالم
الطّبيعة في حركتها، ولكنه تَقَدّم على الطّبيعة تدريجيّاً إلى أن وصل إلى البرزخ
ما بين الطّبيعة وعالم التّجرّد، فتقدّم من آخر مرتبة في الطّبيعة باتّجاه أوّل
مرتبة في عالم التّجرّد، وعَبَر من عالَم الشّهادة إلى عالَم الغيب. ويـُسمّى هذا
الافتراق، الّذي يعْبر من خلاله الموجود من عالم الطّبيعة إلى عالم التّجرّد،
ويُودِّع فيه قافلة الطّبيعة بـ «الموت». وهذا الافتراق هو أمرٌ قهريّ
وطبيعيّ، وهذا الوداع هو وداع إجباريّ، وهذا السّفر هو أمر جِبِلّيّ [جُبِلَت عليه
الفطرة]، ﴿..فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ الأعراف:34.
* (نقلاً عن تقريرات دروس الفلسفة للإمام الخميني قدّس
سرّه، من إعداد آية الله السيد عبد الغني الأردبيلي رحمه الله)