الملف

الملف

26/09/2014

المعاني المحتمَلَة في لفظة «مولى»

«مَن كنتُ مَولاه، فَهذا عَلِيٌّ مولاه...»

المعاني المحتمَلَة في لفظة «مولى»

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبو الفتح الكراجكيّ رحمه الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

«الحجّة على أنّ لفظة (مَوْلى) تحتمل (أَوْلى) وأنّها أحد أقسامها، ليس يطالبُ بها منصفٌ كان له أدنى الاطّلاع في اللّغة، وبعضُ الاختلاط بأهلها، لأنّ ذلك مستفيضٌ بينهم، غيرُ مختلفٍ عندهم، وجميعهم يُطلقون القول فيمَن كان أوْلى بشيء أنّه مَوْلاه. وأنا أُوضح لك أقسام (مَوْلَى) في اللّسان لتعلمَها على بيان».

بهذه العبارات ابتدأ أبو الفتح الكراجكي (ت: 449 للهجرة) كلامه على المعاني العشرة المحتملة للفظة «مَوْلى» الواردة في نَصّ الغدير، اخترناه من رسالةٍ له سمّاها (دليل النّصّ بخبر الغدير)، وردت في كتابه القيّم (كنز الفوائد).

يُشار إلى أنّ الشّيخ الجليل أبي الفتح من تلامذة الشّيخ المفيد، ومن أصحاب الشّريف المرتضى، وهو من كبار فقهاء طرابلس الشّام، وقال بعض المؤرّخين إنّه توفّي ودُفن بمدينة صور من جبل عامل.  

اعلم أنَّ لفظة «مَوْلى» في اللّغة تحتمل عشرة أقسام:

أوّلها: «أَوْلى»، وهو الأصلُ الّذي ترجع إليه جميع الأقسام، قال الله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ الحديد:15. يريد سبحانه: هي أَوْلى بكم: على ما جاء في التّفسير وذكره أهل اللّغة.

وقد فسّره على هذا الوجه أبو عُبيدة معمّر بن المثنّى (فقيه لغويّ معاند، عاصر الأصمعيّ) في كتابه المعروف بالمجاز في القرآن (ج 2، ص 254)، ومنزلته في العلم بالعربيّة معروفة، وقد استشهد على صحّة تأويله ببيتٍ (من مُعَلَّقَة) لبيد (بن ربيعة):

فَغَدَتْ، كِلَا الفَرْجَيْنِ تَحْسَبُ أَنَّهُ

مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفُهَا وَأَمَامُهَا

يريد أَوْلى المخافة، ولم يُنكر على أبي عبيدة أحدٌ من أهل اللّغة.

وثانيها: مالكُ الرّقّ، قال الله سبحانه: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ..﴾ النّحل:75-76. يريد مالكَه، واشتهار هذا القسم يُغني عن الإطالة فيه.

وثالثها: المعتِق.

ورابعها: المعتَق، وذلك أيضاً مشهور معلوم.

وخامسها: ابن العمّ. قال الشّاعر:

مَهلاً بَني عَمِّنا، مَهْلاً مَوالينا

لا تَنشْروا بَيْنَنا ما كانَ مَدْفونا

 

وسادسها: النّاصر، قال الله عزَّ وجلَّ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ محمّد:11. يريد لا ناصرَ لهم.

وسابعها: المتولّي لضمان الجريرة ومَن يحوز الميراث. قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ النّساء:33.

وقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد بالمَوالي ها هنا مَن كان أملكَ بالميراث، وأَولى بحيازته.

قال الأخطل [يمدح أحد ملوك الأمويّين]:

فَأَصْبَحْتَ مَوْلاها مِنَ النّاسِ بَعْدَهُ

وَأَحْرى قُرَيْشٍ أَنْ تُهابَ وَتُحْمَدا

وثامنها: الحليف.

وتاسعها: الجار. وهذان القسمان أيضاً معروفان.

وعاشرها: الإمامُ السّيّدُ المُطَاع:  فإنّا نجدُ أهل اللّغة لا يصفون بهذه اللّفظة إلّا مَن كان يملكُ تدبيرَ ما وُصف بأنّه أَولى به، وتصريفَه، وينفذ فيه أمرُه ونَهيُه. ألا تراهم يقولون: إنّ السّلطان أَولى بإقامة الحدود من الرّعيّة، والمَوْلَى أَوْلَى بعبده، والزّوج أولى بامرأته، ووَلدُ الميت أَولى بميراثه من جميع أقاربه، وقصْدُهم بذلك ما ذكرناه دون غيره. وقد أجمع المفسِّرون على أنّ المراد بقوله سبحانه: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ..﴾ الأحزاب:6، أنّه أَولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم، من حيث وجبتْ طاعتُه عليهم.

وليس يشكّ أحدٌ من العقلاء في أنّ مَن كان أولى بتدبير الخلق وأمْرِهم ونَهيهم من كلّ أحدٍ منهم، فهو إمامُهم المفترض الطّاعة عليهم.

ووجهٌ آخر: وممّا يوضح أنّ النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، أراد أن يوجبَ لأمير المؤمنين، عليه السّلام، بذلك منزلة الرّئاسة والإمامة والتّقدّم على الكافّة فيما يقتضيه فرض الطّاعة، أنّه قرَّرهم بلفظة «أَوْلى» على أمر يستحقّه عليهم من معناها، ويستوجبه من مقتضاها، وقد ثبت أنّه يستحقّ - في كونه أَولى بالخلق من أنفسهم - أنّه الرّئيس عليهم، والنّافذُ الأمر فيهم، والّذي طاعتُه مفترضةٌ على جميعِهم، فوجبَ أن يستحقّ أميرُ المؤمنين عليه السّلام مثلَ ذلك بعينه، لأنّه جعلَ له منه مثل ما هو واجبٌ له، فكأنّه قد قال: مَن كنتُ أوْلى به من نفسِه في كذا وكذا، فعَليٌّ أولى به من نفسه فيه.

ووجهٌ آخر: وهو أنّا إذا اعتبرنا ما تحتمله لفظة «مَوْلى» من الأقسام، لم نرَ فيها ما يصحّ أن يكون مرادَ النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، إلّا ما اقتضاه الإمامة والرّئاسة على الأنام، وذلك أنّ أمير المؤمنين، عليه السّلام، لم يكن مالكاً لرقّ كلّ مَن ملكَ رسول الله صلّى الله عليه وآله رقّه، ولا معتِقاً لكلّ مَن أعتقه، فيصحّ أن يكون أحد هذَين القسمَين المراد. [وعلى هذا فَقِس سائر المعاني، كالنّاصر، وابن العمّ، وغيرهما[ ".."

فإذا بطل أن يكون مراده عليه السّلام شيئاً من هذه الأقسام، لم يبقَ إلّا أن يكون قصدَ ما كان حاصلاً له من تدبير الأنام، وفرْض الطّاعة على الخاصّ والعامّ، وهذه هي رتبة الإمام.

***

فقد اتّضح لك بهذا البيان ما تحتمله لفظة «مَوْلى» من الأقسام، وأنّ «أَولى» أحد محتملاتها في معاني الكلام، بل هي الأصل وإليها يرجع معنى كلّ قسم، وأنت إذا تأمّلت كلّ واحدةً من هذه الأقسام وجدتها جاريةً هذا المجرى، وعائدةً بمعناها إلى «الأَوْلى»، وهذا يشهد بفساد قول مَن زعم أنّه متى أريد بمَوْلى «أَوْلى» كان ذلك مجازاً، وكيف يكون مجازاً وكلّ قسم من أقسام «مَوْلى» عائد إلى معنى «الأَوْلى»؟! وقد قال الفرّاء في كتاب (معاني القرآن) إنّ «الوَلِيَّ وَالمَوْلى في كَلامِ العَرَبِ واحِدٌ».

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

26/09/2014

دوريات

نفحات