المُباهَلة
مُلتقى
القول الفصل
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن أبي الفتح الإربليّ* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. ولمّا انتشر أمرُ الإسلام بعد الفتح وما ولاه من الغَزَوات، وفَدتِ
الوفودُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان مِمَّن وفدَ عليه أبو حارثة، أُسْقُفُ
نَجْرَان، في ثلاثين رجلاً من النّصارى؛ منهم العاقبُ، والسّيّد، وعبد المسيح. فقَدِموا
المدينة، فصارت إليهم اليهود، فتَساءلوا بينَهم، فقالت النّصارى لهم: لستُم على شيءٍ،
وقالت اليهود لهم: لستُم على شيءٍ، وفي ذلك أنزل الله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ..﴾ البقرة:113،
إلى آخرها. فلمّا صلّى النّبيّ العصرَ جاءوا إليه يَقدُمهم الأسقف، فقال: يا محمّد،
ما تقول في السّيّد المسيح؟
فقال
صلّى الله عليه وآله: عبدٌ للهِ اصطفاهُ وانْتَجَبَه.
فقال
الأسقف: أَتَعْرِفُ لَه أباً ولدَه؟
فقال
صلّى الله عليه وآله: لَمْ يَكُنْ عَن نِكَاحٍ فَيَكُونَ لَهُ وَالِدٌ.
فقال:
كيفَ تقولُ إنّه عبدٌ مخلوقٌ وأنت لا تَرى عبداً بغَير أب؟
فأنزلَ
اللهُ تعالى الآياتِ من سورة آل عمران إلى قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ آل عمران:59-61.
فتَلاها
على النّصارى ودَعاهم إلى المُباهلة، وقال: إنَّ اللهَ أَخْبَرَنِي أنَّ العَذَابَ
يَنْزِلُ عَلَى المُبْطِلِ عَقِيبَ المُبَاهَلَةِ، وَيُبَيِّنُ اللهُ الحَقَّ مِنَ
البَاطِلِ.
فاجتمع
الأسقفُ وأصحابُه وتَشاوروا، واتّفقَ رأيُهم على استنظارِه إلى صبيحةِ غَد. فلمّا
رجعوا إلى رِحَالِهم، قال الأسقف: انظروا محمّداً، فإنْ غدا بأهلِه ووُلدِه فاحذَروا
مباهلتَه، وإن غدا بأصحابِه فبَاهلوه فإنّه على غير شيءٍ.
فلمّا
كان الغد، جاء النّبيُّ صلّى الله عليه وآله آخذاً بيد عليٍّ عليه السّلام، والحسن
والحسين عليهما السّلام يَمشيان بين يدَيه، وفاطمةُ تَمشي خلفَه، فسألَ الأسقفُ
عنهم، فقالوا: هذا عليٌّ ابنُ عمِّه وهو صهرُه وأبو وُلدِه وأحبُّ الخلقِ إليه،
وهذان الطّفلان ابنا بنتِه من عليّ وهما
أحبُّ الخَلق إليه، وهذه الجارية فاطمة ابنتُه وهي أعزُّ النّاسِ عندَه وأقربهم
إلى قلبِه، فنظرَ الأسقفُ إلى العاقب، والسّيّد، وعبد المسيح، وقال لهم: انظروا قد
جاءَ بخاصّتِه من وُلدِه وأهلِه لِيُباهِلَ بهم واثقاً بحقِّه. واللهِ مَا جاءَ
بهم وهو يتخوَّفُ الحجّةَ عليه، فاحذَروا مُباهلتَه، واللهِ لولا مكانةُ قيصر لَأَسْلَمتُ
له، ولكن صَالِحوه على ما يتّفق بينَكم، وارجِعوا إلى بلادكم وارتَأوا لأنفسِكم. فقالوا:
رأيُنا لرَأْيك تَبَع.
فقال
الأسقف: يا أبا القاسم، إنّا لا نُباهِلُكَ ولكنّا نُصَالِحُك، فصَالِحنا على ما
ننهضُ به. فَصَالحَهم على ألفَي حلّة قيّمة؛ كلّ حلّة أربعون درهماً جياداً، فما
زاد أو نقص كان بحسابِ ذلك، وكتبَ لهم به كتاباً.
***
وفي
هذه القضيّة بيانٌ لفَضل عليٍّ عليه السّلام، وظهورِ مُعجِز النّبيّ صلّى الله
عليه وآله؛ فإنَّ النّصارى علموا أنّهم مَتى باهلوه حلَّ بهم العذاب، فقبلوا الصُّلحَ،
ودخلوا تحتَ الهدنة، وإنَّ الله تعالى أبانَ أنَّ عليّاً هو نفسُ رسول الله، كاشفاً
بذلك عن بلوغه نهايةَ الفضل، ومساواته للنّبيّ صلّى الله عليه وآله في الكمال
والعصمة من الآثام، وأنّ الله جعلَه وزوجتَه وولدَيه، مع تَقارُبِ سنِّهما، حجّةً
لنبيّه صلّى الله عليه وآله، وبُرهاناً على دينِه، ونَصّ، على الحُكم، بأنَ الحسن
والحسين أبناؤه، وأنَّ فاطمة عليها السّلام نساؤه، والمتوجّه إليهم الذِّكر والخطاب في
الدّعاء إلى المباهلة والاحتجاج، وهذا فضلٌ لم يُشارِكهم فيه أحدٌ من الأمّة
وأقاربهم.
* نقلاً عن كتابه (كشف الغُمّة)