آخر مواقف الصّحابيّ عمّار
بن ياسر
لا أعلمُ
عملاً هو أرضى لله من جهاد هؤلاء القوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد بن أعثَم الكوفيّ*
ــــــــــــــــــــــــــــ
زحف
النّاس (في حرب صِفِّين) بعضُهم إلى بعض، فاقتَتلوا بالسِّهام والنّبل والرّماح والسّيوف
وعُمُد الحديد، فلم يُسمع إلّا وقعُ الحديد بعضُه على بعض، وهَولُه في صدور الرّجال أشدُّ هولاً من
الصّواعق.
ورفع عمّار بنُ ياسر رأسَه نحو السّماء، فجعلَ يقول:
أللّهمّ
إنّك تعلمُ أنّي لو كنتُ أعلم أنّ رضاك في أنْ أقذفَ بنفسي في هذا الفرات فأُغرِقُها
لَفعلتُ.
أللّهمّ
وإنّك لَتعلم أنِّي لو كنت أعلم أنّ رضاك في أن أضعَ سيفي هذا في بطني وأتّكأَ
عليه حتّى يخرج من ظهري لفعلتُ.
أللّهمّ
وإنّي لا أعلم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء القوم.
ثمّ أقبل عمّارُ بن ياسر على النّاس، فقال:
أيُّها
النّاس! إنّ هذه الرّايات الّتي تَرونها مع معاوية قد قابلناها مع رسول الله صلّى
الله عليه وآله ثلاثَ مرّات، وهذه الرّابعة، والله ما هي
بأبرّهنّ ولا أتقاهنّ. ألا وإنّي مقتولٌ في يومي هذا، فإذا قُتِلتُ فحُطُّوا عنّي سلاحي،
وكفِّنوني في ثيابي، وزمِّلوني بدمي، وصلُّوا عليَّ، ووَاروني في حُفرتي، ودعوني
وربِّي، فإنّ صاحبَكم مخاصِم، وإنّما تختصمُ الأخيار، فمَن فلج فلجتْ شيعتُه.
ثمَّ جعل يقول:
أيُّها
النّاس! هل من رائحٍ إلى الله يطلبُ الجنّةَ تحتَ ظلال السّيوف والأسنّة؟ اليومَ
لقاءُ الأحبّة: محمّداً وحزبَه.
ثمّ تقدّم إلى القوم وجعل يقول:
نَحْنُ ضَرَبْنَاكُم
عَلَى تَنْزِيلِه
|
فَاليَومَ نَضْرِبُكُم
عَلَى تَأوِيلِه
|
ضَرْبَاً يُزيِلُ
الهَامَ عَنْ مَقِيلِه
|
ويُذهِلُ الخَلِيلَ
عَن خَلِيلِه
|
أَو يَرجِعَ الحَقُّ
إلَى سَبيلِه
ثمّ
جعلَ يُكابدُهم حملةً بعد حملة، وهو يقول: يا أهلَ الشّام! واللهِ لَو هزمتُمونا
حتّى تبلغوا بنا إلى سَعَفات هَجَر، لَعَلِمنا أنّنا على الحقّ وأنّكم على الباطل.
فاختلط
به أصحابُ معاوية وحملوا عليه، وحملَ عليه ابنُ الجون السّكونيّ فطعنَه طعنةً في شَراسيفه
[الشراسيف: أطراف أضلاع الصّدر التي تُشرف على البطن،
واحدُها شُرسوف]، ورجع إلى أصحابه وهو لِما به.
فقال:
اسقوني شربةً من ماء! فأتاه غلامٌ له يُقال له راشد بِضَيَاحٍ من لبن، فقال: أبا اليَقظان!
اشرب هذا اللّبن بدلَ الماء، فلمّا نظر عمّارُ إلى اللّبن كبَّر، وقال: بهذا أخبرَني
رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ بأنّ آخر زادي اللّبنُ من الدّنيا. ثمّ شربَ فخرج
اللّبنُ من جراحته، فسقط عمّار ثمّ تشهَّد وقضى نحبَه، رحمه الله...
* من كتابه (الفتوح: ج 3، ص 158،
دار الأضواء، بيروت)