صِلَةُ الرَّحِم
الآثار الرّوحيّة والمعنويّة على الفرد
والجماعة
ـــــــــــــــــــــــــ الشّيخ محمّد جعفر السّعيد* ـــــــــــــــــــــــــ
قال اللهُ تعالى: ﴿.. وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ النّساء:1.
ورد عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «صِلَةُ الأَرْحَامِ تُحَسِّنُ
الْخُلُقَ، وَتُسَمِّحُ الْكَفَّ، وَتُطَيِّبُ النَّفْسَ». لأنّه بأداء هذا
التّكليف يصبح الإنسان مُلزماً بمراعاة حُسن
السّلوك؛ وبعد التّمرين والممارسة يصبح ذا خُلُقٍ حَسَن حتّى مع الآخرين، وكذلك يُصبح
صاحبَ مَلَكَة الجود والسّخاء ببركة صِلة الرّحم، فينجو من مرض البخل المُهلك،
وتتطهَّر نفسُه من الحسد، ويرتاح من بلاء العداوة مع النّاس لأنّه يصبح بِصِلة الرَّحِم
محبوبَ المقرّبين، بل سائر النّاس، فيأمن شرَّهم.
وعن الإمام الباقر عليه السّلام: «صِلَةُ الأَرْحَامِ تُزَكِّي
الأَعْمَالَ، وتُنْمِي الأَمْوَالَ، وتَدْفَعُ الْبَلْوَى، وتُيَسِّرُ الْحِسَابَ،
وتُنْسِئُ فِي الأَجَلِ».
وعن الإمام السّجّاد عليه السّلام: «ما مِنْ خُطْوَةٍ أَحَبُّ
إلى اللهِ مِنْ خُطْوَتَيْنِ؛ خُطَوَةٍ يَسُدُّ بِها المُؤْمِنُ صَفّاً في اللهِ،
وَخُطَوَةٍ إِلى ذي رَحَمٍ قاطِعٍ».
وقال الرّسول صلّى الله عليه وآله: «إِنَّ في الجَنَّةِ دَرَجَةً
لا يَبْلُغُها إِلّا إِمامٌ عادِلٌ، أَو ذو رَحِمٍ وَصولٌ، أَو ذو عِيالٍ صَبورٌ».
وقال أيضاً صلّى الله عليه وآله: «مَنْ مَشى إِلى ذي قَرابَةٍ
بِنَفْسِهِ وَمالِهِ لِيَصِلَ رَحِمَهُ، أَعْطاهُ اللهُ تَعالى أَجْرَ مائةِ شَهيدٍ،
وَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَرْبعونَ أَلْف حَسَنَةٍ، وَيُمْحى عَنْهُ أَرْبَعونَ أَلْف
سَيِّئَةٍ، وَتُرْفَعُ لَهُ الدَّرَجاتُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّما عَبَدَ اللهَ
تَعالى مائةَ سَنَةٍ».
وعنه صلّى الله عليه وآله: «الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ، وَالْقَرْضُ
بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَصِلَةُ الإِخْوَانِ بِعِشْرِينَ، وصِلَةُ الرَّحِمِ بِأَرْبَعَةٍ
وعِشْرِينَ».
هذا بعضُ ما ورد في صِلَة الرّحِم، ولكن ما المراد
بـ «الرّحِم»، وَصِلَتِها وقَطْعِها؟
سأل عروة بن يزيد الإمام الصّادق عليه السّلام عن معنى آية:
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ..﴾ الرّعد:21. فأجاب عليه السّلام: «هِيَ قَرابَتُكَ»؛
وهذا يشملُ المَحرَم وغير المحرَم، والقريبَ والبعيد.
وقد جرت العادة لدى أهل الدّنيا بالتّقرُّب من أقربائهم
الأغنياء وعدم الاهتمام بالفقراء منهم حتّى ولو كان قرابةً قريبة، ولكن لا يوجَد
في الشّرع فرقٌ في حُكم صِلة الرّحم وقَطْعه بين الأقارب. نعم كلّما كانت القرابةُ
أقربَ وقلَّت الواسطة، كلَّما اشتدّ الحكم. وقد نسب الشّهيد الثّاني، عليه الرّحمة،
لأكثر الفقهاء قولَهم بأنّ المراد من الأرحام هم مطلَق الأقارب من جهة الأب أو
الأم، بل من جهة الأولاد أيضاً.
وأمّا بالنّسبة إلى معنى الصِّلة، فهو كلُّ عملٍ يُعتبَر في
العُرف تواصلاً، حتّى في الأمور الصّغيرة؛ كأنْ يبدأ بالسّلام، أو يُجيب بسَلامٍ
حسن. وقد ورد عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «... فَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ وبَرُّوا
بِإِخْوَانِكُمْ ولَوْ بِحُسْنِ السَّلَامِ ورَدِّ الْجَوَابِ». وعنه عليه السّلام
في حديثٍ آخَر: «صِلْ رَحِمَكَ ولَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ».
مراتبُ صِلَة الرّحم
أعظمُ مراتبِه الصِّلةُ بالنّفس، وقد ورد فيها أخبارٌ كثيرة،
وبعد ذلك دفْعُ الضّرر، أي أن يدفعَ الضّرر الّذي يتوجّه إلى الرّحِم، ويساعد بعد ذلك على انتفاعه، وبعدَه أن
يصِلَ مَن كان واجبَ النّفقة على رحِمِه؛ كزوجة أبيه. وأقلُّ مراتب الصِّلة السّلامُ
على الرّحِم، وأقلّ منه إيصالُ السّلام إليه عبر واسطة؛ كرسالةٍ مثلاً، وكذلك الدّعاء
له في غَيبتِه...
والقدَر المسلَّم من وجوب الصِّلة هو المقدار الّذي لا يصدقُ
معه قطعُ الرَّحِم عُرفاً، ومنه رفعُ حاجة الرَّحِم، إلاّ أن يكون رفعُ حاجته
موجباً للعُسر والحرَج، أو أن تكون حاجتُه غير مشروعة، أو أنّه يقع في المعصية في
طريق قضاء حاجته، وهنا لا شكّ في عدم وجوب هذا القِسم من الصّلة.
قطْع الرَّحِم أمرٌ
عُرفِيّ
إذا شكَّ في أيِّ موردٍ أنّ هذا الحجم من الصِّلة واجبٌ أم لا..
رجع إلى العُرف، فإذا اعتُبر عدم فعله في العُرف قطعاً للرّحم وَجَب عليه، وأحياناً
يُعتبر ترك السّلام أو ترك الإحسان القليل، أو عدم قضاء الحاجة الصّغيرة، أو ترك
الزّيارة في العُرف قطعاً للرّحم.
فقَطْعُ الرَّحِم عبارةٌ عن كلِّ أمرٍ يُفهَم منه عُرفاً الانقطاع.
ولا شكّ في أنّ الصّدق العرفيّ للقطع والصِّلة يختلف باختلاف الزّمان والمكان
ومراتب الأرحام وخصوصيّاتهم، فيُمكن أن يكون عملٌ ما قَطْعاً للرَّحم بالنّسبة إلى
الرّحم القريب، ولكنّه لا يكون كذلك بالنّسبة إلى البعيد، طبعاً يجب مراعاة الاحتياط
عند الشّكّ حتّى لا يقع الإنسان في هذا الذّنب الكبير؛ قطيعة الرّحم.
ومن أسوأ أقسام القطْع أن لا يهتمّ الإنسان بالرّحم الفقير، وأن
يكتفي بصِلة قريبه الغنيّ، وهذا الفعل – أي عيادةُ الغنيّ دون الفقير - ليس صلةَ
رحِمٍ في الحقيقة، بل هو اهتمامٌ بحال الدّنيا وجِيفتِها، لا بالشّخص الرّحميّ
لكونه من رحِمه، بدليل أنّه لا يهتمّ برحِمه الفقير.
قطعُ القاطع حرامٌ أيضاً
إذا قطعَ بعضُ الأشخاص صِلةَ أرحامهم مع بعض أقاربهم فلا يجوز
لهذا القريب أن يعامَلهم بالمثل، وبعبارةٍ أخرى: قطعُ الأرحام حرامٌ مع جميع
الأرحام، حتّى مع الذين قطعوا أرحامهم، يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لا
تَقْطَعْ رَحِمَكَ وَإِنْ قَطَعَكَ».
عن عبد الله بن سنان، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام:
إنّ لي ابنَ عمٍّ أَصِلُهُ فيقطعُني، وأصِلُه فيقطعُني، حتّى لقد هممتُ لقطيعته إيّايَ
أن أقطعَه، أتأذنُ لي قطعَه، قال عليه السّلام: إِنَّكَ إِنْ وَصَلْتَهُ وَقَطَعَكَ
وَصَلَكُما اللهُ، وَإِنْ قَطَعْتَهُ وَقَطَعَكَ قَطَعَكُما اللهُ تَعالى».
وقال رسول صلّى الله عليه وآله: «لا تَخُنْ مَنْ خانَكَ فَتكونَ
مِثْلَهُ، وَلا تَقْطَعْ رَحِمَكَ وَإِنْ قَطَعَكَ». وأيضاً عنه صلّى الله
عليه وآله: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى خَيْرِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ؟ قالوا
بلى يا رسول الله، قال صلّى الله عليه وآله: مَنْ وَصَلَ مَنْ قَطَعَهُ، وَأَعْطى
مَنْ حَرَمَهُ، وَعَفا عَمَّنْ ظَلَمَهُ».
________________________
* المقال مقتبَس عن الجزء الأوّل من كتاب
(الذّنوب الكبيرة) للشّهيد دستغيب