تضحية الإمام الحسين عليه السّلام
بناء ثقافة اجتماعيّة
على هَدي الوحي والعقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. نازك القبيسي* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلّ مَن قرأ عاشوراء وواقعة كربلاء، وما جرى فيها من أحداث، حَكَم بدون تردُّد
أنّ واقعة كربلاء شكّلت عنوان التّضحية، وبعبارةٍ أخرى: الجميع يتّفق أنّ الإمام الحسين
عليه السّلام ضحّى بكلّ شيءٍ بدءاً بأصحابه، ومروراً بأولاده، ونسائه، وإخوته،
وانتهاءً بنفسه.
لكن في الوقت نفسه، يغفل كثيرون عن أبعاد التّضحية الّتي قدّمها الإمام الحسين
عليه السّلام، والّتي تعني تجاوز الذّات بكلّ ظلالها ومُتعلّقاتها، للوصول إلى
الحقيقة، حيث يرونها في بعدها السّياسيّ -العسكريّ، ويستنتجون منها قِيَم الشّجاعة،
وصولات البطولة. هذا، في حين أنّ تضحية الإمام الحسين عليه السّلام لها صولات
وجولات تتجاوز البُعد العسكريّ وزمن كربلاء، لتصل اليوم في القرن الواحد والعشرين
وتجول في عولمة العالَم، لتقدّم له أسمى معنى للحياة الاجتماعيّة، في الوقت الّذي
دَمّرت فيها قِيَم العولمة - وبالذّات الثّقافة الأميركيّة - أُسُس الحياة
الاجتماعيّة؛ وذلك بما أنتجته من ثقافة تؤسِّس وتشرّع للذّات ركوبَ الشّرّ،
والمصلحة الذّاتيّة؛ خصوصاً إذا عرفنا أنّ أيّ مجتمع من المجتمعات إنّما تتشكّل
صورته الاجتماعيّة من عدّة عناصر، مادّيّة ومعنويّة؛ المادّيّة منها تصنعها التّكنولوجيا
وآليّتها، في حين أنّ المعنويّة تصنعها ثقافة المجتمع، الّتي يولّدها فلاسفته ومثقّفوه
ومفكِّروه.
والثّقافة الأميركيّة اليوم هي صنيعة الفلسفة النّفعيّة؛ أي ما يعود على
الذّات بالنّفع المحسوس ويكون محور اهتمامها. تدّعي هذه الفلسفة أنّ القِيَم في
الحياة تنشأ من الاهتمام، أي «أنّ الشّيء الّذي تطيب رؤيته وليس الشّيء الّذي يحسنُ
اعتقادُه، هو الّذي له قيمة جماليّة»، وبعبارة أخرى، كلّ ما هو محلّ اهتمام بالنّسبة
إليّ تكون له قيمة، وما ليس بمهمٍّ ليس له قيمة.
ولنتخيّل الحياة بمنظار هذه النّظريّة، سنراها خالية من قيمٍ موضوعيّة نسعى
لاعتناقها، بل القيم هي ذواتنا وما تهواها، وتصبح في صيرورة دائمة لا تعرف الثّبات،
فمن اهتمّ اليوم بالوفاء والصّدق؛ عندما تتغيّر اهتماماته تتغيّر قِيَمه، بحيث
يتحوّل الصّدق من أمرٍ مرغوب ومقدّس إلى أمر منكرٍ ومدنَّس. وهذا يعني أنّنا ندور
في حلقة الذّات، نبدأ منها؛ حيث هي الّتي تولّد القِيَم، وننتهي إليها، حيث تشبعْ
في اهتماماتِها.
من هنا نعرف عظَمة تضحية الإمام الحسين عليه السّلام، الّذي جسّد عنوان
تجاوز الذّات، وجعل معيار القِيم، ومحفّزات السّلوك والعمل أمراً آخر غير الذّات،
بل الوحي والعقل، ألا تراه يقول: «لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً، بَلْ خَرَجْتُ
لِطَلَبِ الإِصْلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي»، أليس موقفه من يزيد كان موقفَ الوحي
والعقل، وبعبارةٍ أخرى كان محوَر حركة الإمام الحسين عليه السّلام هو الحقّ، بما
لكلمة الحقّ من معنًى وأبعادٍ وظلالٍ، حيث يَستبطن معنى الحقّ الاعتراف والالتزام،
فمَن اعترف بأنّ الله سبحانه حقٌّ، التزم تجاهه بواجبات الألوهيّة والرّبوبيّة، ومَن
اعترف بالآخرين، التزم تجاههم بكلّ حقوق والتزامات الآخر.
وهذا يمثّل نقلة في صعيد الحياة الاجتماعيّة، تتجاوز المزاجيّة والذّات
والعواطف الآنيّة، لتشّكل قِيماً تعتمد على الوحي والعقل.
ولنا، والحال هذه، أن نتصوّر حياتنا الاجتماعيّة من خلال هذه النّظريّة،
حيث يلتزم كلّ فردٍ تجاه الآخر بمجموعة من الحقوق والواجبات، فالأب تجاه أبنائه،
والزّوج تجاه زوجه، والمتنافسين في الميادين الاجتماعيّة تجاه بعضهم البعض،
والأقارب في علاقاتهم العائليّة.
* باحثة وأستاذة جامعيّة
(بتصرّف)