من
كلام الإمام الباقر
عليه السّلام لجابر بن يزيد الجُعفيّ
اِحفظ ما أَستودِعُكَ من دين الله وحِكمَته
____
أعدّ النّص: عبد اللطيف زيدان ____
ما
يلي نَصّان من كلام الإمام محمّد الباقر عليه السّلام، نقلاً عن كتاب (تُحَف
العقول عن آل الرسول صلّى الله عليه وآله) للفقيه المحدِّث ابن شعبة الحرّاني، من
أعلام القرن الرّابع الهجريّ.
النَّصّ
الأوّل: وصيّة إلى جابر بن يزيد الجُعفيّ يُوصيه فيها بالحذَر من غرور الدّنيا،
ويدعوه إلى حفظ ما دخل قلبَه من دين الله تعالى وحكمته.
النَّصّ
الثاني: موعظة وتنبيه إلى جَمعٍ من الناس حضروا مجلسَه ولم يُحسنوا الاستماع
والإصغاء إلى كلامه الشريف.
جاء في بعض وصايا الإمام الباقر لمريده وتلميذه جابر بن
يزيد الجُعفيّ، قوله عليه السلام:
«..يَا جَابِرُ، مَنْ
دَخَلَ قَلْبَهُ خَالِصُ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ شُغِلَ عَمَّا فِي الدُّنْيَا مِنْ
زِينَتِهَا؛ إِنَّ زِينَةَ زَهْرَةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ لَعِبٌ ولَهْوٌ - ﴿..وَإِنَّ
الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ..﴾ العنكبوت:64.
يَا جَابِرُ، إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْكَنَ ويَطْمَئِنَّ إِلَى زَهْرَةِ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، واعْلَمْ أَنَّ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ غَفْلَةٍ
وغُرُورٍ وجَهَالَةٍ، وأَنَّ أَبْنَاءَ الْآخِرَةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
الْعَامِلُونَ الزَّاهِدُونَ، أَهْلُ الْعِلْمِ والْفِقْهِ، وأَهْلُ فِكْرَةٍ
واعْتِبَارٍ واخْتِبَارٍ، لَا يَمَلُّونَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ.
سِمات أهل التّقوى
واعْلَمْ يَا جَابِرُ
أَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى هُمُ الْأَغْنِيَاءُ، أَغْنَاهُمُ الْقَلِيلُ مِنَ
الدُّنْيَا فَمَؤونَتُهُمْ يَسِيرَةٌ؛ إِنْ نَسِيتَ الْخَيْرَ ذَكَّرُوكَ، وإِنْ
عَمِلْتَ بِهِ أَعَانُوكَ، أَخَّرُوا شَهَوَاتِهِمْ ولَذَّاتِهِمْ خَلْفَهُمْ،
وقَدَّمُوا طَاعَةَ رَبِّهِمْ أَمَامَهُمْ، ونَظَرُوا إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ
وإِلَى وَلَايَةِ أَحِبَّاءِ اللهِ، فَأَحَبُّوهُمْ وتَوَلَّوْهُمْ واتَّبَعُوهُمْ.
فَأَنْزِلْ نَفْسَكَ مِنَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَنْزِلٍ نَزَلْتَهُ سَاعَةً ثُمَّ
ارْتَحَلْتَ عَنْهُ، أَوْ كَمَثَلِ مَالٍ اسْتَفَدْتَهُ فِي مَنَامِكَ فَفَرِحْتَ
بِهِ وسُرِرْتَ ثُمَّ انْتَبَهْتَ مِنْ رَقْدَتِكَ ولَيْسَ فِي يَدِكَ شَيْءٌ.
وإِنِّي إِنَّمَا ضَرَبْتُ لَكَ مَثَلًا لِتَعْقِلَ وتَعْمَلَ بِهِ، إِنْ
وَفَّقَكَ اللهُ لَهُ.
فَاحْفَظْ يَا جَابِرُ
مَا أَسْتَوْدِعُكَ مِنْ دِينِ اللهِ وحِكْمَتِهِ، وَانْصَحْ لِنَفْسِكَ وَانْظُرْ
مَا اللهُ عِنْدَكَ فِي حَيَاتِكَ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَكَ الْعَهْدُ عِنْدَهُ
فِي مَرْجِعِكَ. وَانْظُرْ فَإِنْ تَكُنِ الدُّنْيَا عِنْدَكَ عَلَى غَيْرِ مَا
وَصَفْتُ لَكَ فَتَحَوَّلْ عَنْهَا إِلَى دَارِ الْمُسْتَعْتَبِ الْيَوْمَ، [المستعتَب:
موضع الاستعتاب، أي طلب الرِّضا] فَلَرُبَّ حَرِيصٍ
عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا قَدْ نَالَهُ، فَلَمَّا نَالَهُ كَانَ
عَلَيْهِ وَبَالًا وشَقِيَ بِهِ، وَلَرُبَّ كَارِهٍ لِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ
الْآخِرَةِ قَدْ نَالَهُ فَسَعِدَ بِهِ».
لِصٌّ من لُصوص الذّنوب
وحَضَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ جَمَاعَةٌ مِنَ النّاس،
فَوَعَظَهُمْ وحَذَّرَهُمْ وهُمْ سَاهُونَ لَاهُونَ، فَأَطْرَقَ مَلِيّاً، ثُمَّ
رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:
«إِنَّ
كَلَامِي لَوْ وَقَعَ طَرَفٌ مِنْهُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ لَصَارَ مَيِّتاً،
أَلَا يَا أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ وذُبَاباً بِلَا مِصْبَاحٍ، كَأَنَّكُمْ
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ وأَصْنَامٌ مَرِيدَةُ، أَلَا تَأْخُذُونَ الذَّهَبَ مِنَ
الْحَجَرِ؟! أَلَا تَقْتَبِسُونَ الضِّيَاءَ مِنَ النُّورِ الْأَزْهَرِ؟! أَلَا
تَأْخُذُونَ اللُّؤْلُؤَ مِنَ الْبَحْرِ؟! خُذُوا الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ
مِمَّنْ قَالَهَا وإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ..﴾ الزّمر:18.
داء
الغرور
وَيْحَكَ
يَا مَغْرُورُ، أَلَا تَحْمَدُ مَنْ تُعْطِيهِ فَانِياً ويُعْطِيكَ بَاقِياً؛
دِرْهَمٌ يَفْنَى بِعَشَرَةٍ تَبْقَى إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ مُضَاعَفَةٍ مِنْ
جَوَادٍ كَرِيمٍ، آتَاكَ الله عِنْدَ مُكَافَأَةٍ، هُوَ مُطْعِمُكَ وسَاقِيكَ
وكَاسِيكَ ومُعَافِيكَ وكَافِيكَ وسَاتِرُكَ مِمَّنْ يُرَاعِيكَ. مَنْ حَفِظَكَ
فِي لَيْلِكَ ونَهَارِكَ، وأَجَابَكَ عِنْدَ اضْطِرَارِكَ، وعَزَمَ لَكَ عَلَى
الرُّشْدِ فِي اخْتِبَارِكَ (اخْتِيَارِكَ)، كَأَنَّكَ قَدْ نَسِيتَ لَيَالِيَ أَوْجَاعِكَ
وخَوْفِكَ.
دَعَوْتَهُ
فَاسْتَجَابَ لَكَ، فَاسْتَوْجَبَ بِجَمِيلِ صَنِيعِهِ الشُّكْرَ، فَنَسِيتَهُ
فِيمَنْ ذَكَرَ، وخَالَفْتَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَيْلَكَ إِنَّمَا أَنْتَ لِصٌّ مِنْ
لُصُوصِ الذُّنُوبِ، كُلَّمَا عَرَضَتْ لَكَ شَهْوَةٌ أَوِ ارْتِكَابُ ذَنْبٍ
سَارَعْتَ إِلَيْهِ، وأَقْدَمْتَ بِجَهْلِكَ عَلَيْهِ، فَارْتَكَبْتَهُ كَأَنَّكَ
لَسْتَ بِعَيْنِ اللهِ، أَوْ كَأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَكَ بِالْمِرْصَادِ.
يَا
طَالِبَ الْجَنَّةِ! مَا أَطْوَلَ نَوْمَكَ وأَكَلَّ مَطِيَّتَكَ وأَوْهَى
هِمَّتَكَ، فَلِلَّهِ أَنْتَ مِنْ طَالِبٍ ومَطْلُوبٍ، ويَا هَارِباً مِنَ
النَّارِ! مَا أَحَثَّ مَطِيَّتَكَ إِلَيْهَا، ومَا أَكْسَبَكَ لِمَا يُوقِعُكَ
فِيهَا.
استذكار
القبر
انْظُرُوا
إِلَى هَذِهِ الْقُبُورِ سُطُوراً بِأَفْنَاءِ الدُّورِ: تَدَانَوْا فِي
خِطَطِهِمْ [الخِطّة، بالكسر، ما يختاره الإنسان
لنفسه من أرض، وهي أيضاً الموضع الذي تنزلُه ولم ينزله أحدٌ قبلَك]،
وَقَرُبُوا فِي مَزَارِهِمْ، وَبَعُدُوا فِي لِقَائِهِمْ؛ عَمَرُوا فَخُرِبُوا،
وَآنَسُوا فَأُوْحِشُوا، وَسَكَنُوا فَأُزْعِجُوا، وَقَطَنُوا فَرَحَلُوا، فَمَنْ
سَمِعَ بِدَانٍ بَعِيدٍ، وَشَاحِطٍ قَرِيبٍ [الشّاحط:
البعيد]، وَعَامِرٍ مَخْرُوبٍ، وَآنِسٍ مُوحَشٍ،
وَسَاكِنٍ مُزْعَجٍ، وَقَاطِنٍ مُرْحَلٍ، غَيْرِ أَهْلِ الْقُبُورِ.
يَا
ابْنَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ؛ يَوْمِكَ الَّذِي وُلِدْتَ فِيهِ، وَيَوْمِكَ
الَّذِي تَنْزِلُ فِيهِ قَبْرَكَ، وَيَوْمِكَ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ إِلَى
رَبِّكَ، فَيَا لَهُ مِنْ يَوْمٍ عَظِيمٍ. يَا ذَوِي الْهَيْئَةِ الْمُعْجِبَةِ،
وَالْهِيمِ الْمُعْطَنَةِ [الهِيم المعطنة:
الإبل ترتوي من الماء فتَبرُك] مَا لِي أَرَى
أَجْسَامَكُمْ عَامِرَةً وَقُلُوبَكُمْ دَامِرَةً [الدّامر:
الهالك]، أَمَا وَاللهِ لَوْ عَايَنْتُمْ مَا
أَنْتُمْ مُلَاقُوهُ وَمَا أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ لَقُلْتُمْ: ﴿.. يَا
لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
الأنعام:27،
قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾
الأنعام:28».