مقالة الزائر

مقالة الزائر

04/05/2011

عرفتُ السيدة بالغَيب

محمود حيدر

إلى السيّدة زينب بنت عليّ عليهما السلام
في غيبها وشهادتها وغيبتها العظمى

ما كان عهدي بالمقام، عهدي بما آنستُ به من الأمكنة. ولا كان عهدي بِمَن في المقام، كمثل من حَبَبْتُ من الأحبّةِ وأمسوا طيَّ الترابَ. كأنَّ المطرحَ ومن فيه ظهورٌ تعشّقَهُ الغيبُ. فإذا هو على صورةٍ بعدَ صورةٍ، لَبْسٍ فوق لَبْسٍ، أو تجلٍّ تِبْعَ تجلًٍّ. فلا يسري الحالُ في الحال إلى أحوال أُخَرْ، إلّا كنفس واحدة: متى جُعِلَتْ وجِدَتْ. ومتى وُجِدَتْ وُجِدْتَ بحُبٍّ. ومتى وُجِدَتْ بالحُبِّ ظهرتْ في العِليِّين. ثمّ لَتظهرنَّ على النشأةِ نفسِها. ثمّ لَتعودَنَّ إلى أصِلها فلا يبقى في العَوْدِ إلّا الأصل.
كان المقام من قبل أنْ لم يَكُنْ. كان في المحلِّ البعيدِ، البعيدِ، البعيد .. القريبِ، القريبِ، القريب. بَعُدَ المقامُ وغابَ. ثمّ دنا وأشرق. بَعُدَ بأمرٍ، ودنا بأمرٍ. قد غدا في آنٍ مُبَتَدِياً مُبتعِداً. حتى صِرْتَه وصارَكَ. سكنتَهُ، فأسكنكَ القلب. فلن تلبث أنْ تفارقَهُ على سبيل السهو، حتى تعود إليه كتائهٍ أخذَتهْ الغفلةُ ثمّ نجا.
كان المقامُ على القُرب وكنتُ بعدُ طِفلاً. أمسكتِ الأمُّ باليمين ومضتْ بابنِها في سماءِ الدعاء. قالت لـه، قُل ما شئتَ أن تقول. اهتُفْ بالحرف يُفتحُ لك بابُ الكون. وقالت، سيُفتح لك. وستجد الصورةَ غير الصورة. فلا تعود ترى، وقتئذٍ، غير المعنى.
وقالت، كُن كمَن سَمِعَ الكلماتِ أوّلَ مرّةٍ فتدثَّر بها، فسكن القلبُ وأمِنْ. وقالت، ادْعُهُ به، أو بالاسم يُستجبْ لك. قل ما تشاء. فأنت هنا على الصراطِ. قد استمسك  به من احتجبَ عنك وراءَ الجدار. فإنّ مَنْ في المقام يؤيِّدكَ. فها أنتذا تحت أظَّلةِ الأخضر المصفَّى. مؤتنسٌ جوار المعدن القديم. فلو أنت شئتَ الجمالَ فهذا الطريقُ إلى الدار.
حفظ الطفلُ الكلماتِ عن ظهِر قلب. نَثَرهَا في الأرجاء وفوق القبر. وهو صَدَّق مَيْلَ القلب: أنْ إذا سألَ سائلُ القلبِ أجيبَ. وإذا قَصَدَ الأمرَ بلغَ نَفْسَ الأمرِ. وإذا استفهمَ شُقَّ لـه بابُ الفَهْم. وكان ساعتئذٍ كالناظر بحسْنِ الظنّ، أنْ قد أتاه اليقينُ على بهائه وحُسنِه.


 
*** *** ***

ما كان عهدي بمَن في المقامِ يومئذٍ، عهدي بمَن آنستُ بهم في أمكنةِ الأنْس. ما عرفتُ إلّا بعدَ عمْرٍ أنَّ عَهْدَ السيّدةِ على الطفل كمِثْلِ طائرٍ حطَّ على كَتِفَيهِ من محلًّ رفيعٍ. جاءه العهدُ كمسًّ مَلَكيٍ لا شِيَةَ فيه. لا قِبَلَ للقُرب به ولا للبُعْد، ولا كذلك للجوارح، أو حساب الحواس. كأنّ خيطاً من نورٍ شقّ الحاجبَ الفضيَّ، ثمّ سرى كومَضٍ في الصدر.
ما عَلِمَ الطفلُ يومئذٍ ماذا حلَّ في الصدْرِ. حتى إذا انتبه بعد سنينَ، عرف أنّ المقامَ تعلَّقَ بزاويةٍ ما في القلب.
وأنّ مَن في المقام دعاه بالاسم.
وأنّه استأذن لـه بالدخول.
وأنّ محلّاً حُفِظَ لـه للقيام، والقعود، والمؤانسة.
وأنّ الطريق إليه عُرِفْ.
وأنّ مَن به، وفيه، وإليه، أخَذوا بناصية الطالِب إلى المطلوب . . فإذَّاك يعلمُ من هو، وأين هو، ومن أين جاء، وإلى أيّ مآلٍ يؤول.

*** *** ***

سيكون لي أن عرفتُ السيّدةَ بالغيبِ. فلا تُعرفُ السيّدةُ في المحلِّ المعروف إلّا بالغيب. فهي حافظةُ الغيب. أخلصتْ إلى السرَّ فاستودَعَها الغيبُ السرَّ. واستودَعَ نَفَسَهُ نَفْسَها فَمَنَحَها البقاءَ في الجوار . .
فمَن جاوَرها جاورهُ . .
ومَن أحبّها أحبَّه . .
ومَن قرُبَ المقامَ قرُبَ الميزان . .
ومَن وَزَنَ بالميزان فقد أقامه بالقسطِ . .
ومَن استقام على النشأة الأولى أدركته النشأة الأخرى. فما حادَ وما ضَلّ.
رفع الزائر الميزانَ فرفعه الميزانُ، فتعشَّق الزائر حالئذٍ الوزنَ فتعشّقه الوازن والموزون.
صار الواحد في الكُلّ، والكُلّ في الواحد. فقد غدوت الآن أيّها الساري في مستهلّ الطريق؛ منه إلى الباب، ومن الباب إلى المدينة. وفي المدينة الكلامُ كلّه . . مبتدأ الحرف، ومصدر الإشارة وأوّل المطر. فيها عُلِمَتُ الأسماءُ، وبها تعلّم آدمُ الأسماء كلّها.
في المدينة المسرّة والنجاةُ من الغمّ.
وفيها استعصم الذين حفظوا القول الثابتَ، بالقولِ الثابتِ.
وفيها يُمسي من يعمل بما تعلَّم، كنجمٍ أضاءَ البرّ والبحر.
وفيها يعرج في السموات السبع، مَن صدَّقَ الكتاب، وهَاَم بالعبارة.
وفيها مَن إذا همَّ بالحرفِ صارت باؤه نقشاً كشمس الضحى فوق باب المدينة، وصار هو نقطة الباءِ من غير سوء.

*** *** ***


علمتِ السيّدةُ بما علَِمَتْ. فزيَدتْ من العلم علماً بالعلم. وحَفِظَتْ المدينةَ وأهَلَها ببابِ العلمِ. وبقيت المدينةُ ومن عليها ما بقيت الأزمنة . . .
ترتحلُ السيّدةُ بالحقِّ من الحقِّ في الحقيقة. وتعرُجُ في الحقِّ من المدينة، إلى الباب، فالأهل. وتحفظ بعد رأس الحسين وجَهَ الحق من أيّ شَوْبٍ. وبعد هنيهة، سيكون للسجّاد بعد أبيه بعد جدّه، بعدَ المدينةِ حفظُ السفينة.
إنّها هنا الآن. كأنّها القَبْلُ والبَعدُ، فإن نظَرْتَ المقام وجَدْتَ ما لَمْ تجد . . ولئن وجَدْتَ من فيه أحَضَرْتَ ما لا يقدرُ أن يُحضِرَهُ التائهون في العتمة.
ثمّ إنّك لو قَصَدْتَ حصَّلتَ. فمتى هي قالت دلَّت، وإذا أقبلتِ للصلاة هفَّت الأملاكُ إلى الجماعة. كأنّ الولاية للسيّدة محفوظة هناك في جوار العرشِ. فلا يَشْهُدها إلّا حَمَلَةُ العرشِ، والمقرَّبون، فالأولياءُ. ثمّ أولئك الذين استغرقوا في المقام فاستشفَّ الفؤادُ، وانقشعت الرؤية فحقَّت لهم مطالع الشمس، وتبيّنت إليهم مواقعُ النجوم.

*** *** ***
قالت لي، أُنظرُ المقام، تدخل المقام.
وقالت لي، لو ارتَدَيْتَ حزني لألِفتَهُ . . ولو قَرَعْتَ بابي لغدوت مِن فَوْرك بين أهلي . .
ولو حَلَلْتَ في أبحُرِنا لركبتَ السفينةَ وأمسكتَ خيوط الشمس . . والأقمارُ أمست طيَّ يديك . .
والأنجمُ أضحت تحت سطوة الأصابع . .
وقالت: إنّك لو سَمَوْتَ قليلاً، وفارقت الشمسَ، والأنجمَ، وفردوسَ البرِّ والبحرِ لكُنْتَنَا، وكنّا معاً معه في سمائه الأعظم.
وقالت لي، لا تَقنط لحزنك. فاجعله كما جعلناه، جَنَّةً.
وسيُنبئُِكَ مَن معنا أن كنْ من أصحاب الحزن، فإنّ «صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر ما لا يقطعه فاقد حزنه في دهر».
ثمّ قالت: قد علمنا أنّ حزنَنَا هو حقيقة الحزن، وأنّ الحزن معنا حقيقة من حقيقة. وأنّ المحزون في حقائقنا كشجرة حلا تفّاحُها، فكان لآكلها القيام في دِرعِنا الحصينة.

*** *** ***


أيّتها السيدة.. يا أمّي.
قد أَشهدتني المقام بالمقام.
حتى لقد أوشكتُ أن أَعبرَ بالحواسِ الخمس، السمواتِ السبع. فإنّي لأُشْهِدَهُ بعد كلّ وترٍ ﴿والشفع والوتر﴾ ﴿هل في ذلك قسمٌ لذي حجرٍ﴾. .؟


اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

04/05/2011

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

04/05/2011

نفحات