الحريّة وتعدّد التعريفات

الحريّة وتعدّد التعريفات

منذ 4 أيام

الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي

يجري على الحرية في مجال التعريف، ما يجري على غيرها من المفاهيم، التي تنقسم إلى طائفتيْن:
أ ـ المفاهيم العينيّة والإنضماميّة: وهي المفاهيم التي لا يستعصي الفهم كثيراً حينما نستخدمها. من قبيل الماء، والحركة، والبرق، وغيرها من مفردات العلوم الطبيعيّة، أو العين، والأذن، والكبد، والمعدة، ونظائرها من مفردات العلوم الطبيّة، فهذه  كلّها مفاهيم عينيّة، ومُراد المتحدّث منها واضح لدى الجميع، وإن كانت هنالك موارد ربّما يلفّها الغموض أيضاً، من قبيل ما إذا كان الماء المضاف ماءً أم لا؟

ب ـ المفاهيم الذهنيّة والإنتزاعيّة: نعني بها المفاهيم الفلسفيّة، وتلك التي تُستخدم في الكثير من العلوم الإنسانيّة، نظير علم النفس، وعلم الإجتماع، والحقوق، والعلوم السياسيّة وما شابهها، فإنّ التفاهم حينئذٍ يصبح صعباً، إذ ربّما يكون للمفردة الواحدة تعاريف متعدّدة ومختلفة، ولذا قلّما تصل البحوث حول هذه المفردة إلى نتيجة موحّدة.

المفردات وغموض التعريف

على سبيل المثال، ذكروا لمفردة الثقافة (Culture) كثيرة التداول، ما بين خمسين إلى خمسمائة تعريف، وقلّما يستطيع أحدٌ أن يُقدِّم تعريفاً دقيقاً وكاملاً للثقافة، وتبعاً لذلك سيصبح مفهوم «التنمية الثقافيّة» غامضاً ومدعاة للإنزلاق، وعلى أثره ستغور الأحاديث حول الثقافة والتنمية الثقافيّة في بحبوحة من الغموض أيضاً.
وهكذا شأن مفردة الديمقراطيّة (Democracy) أيضاً، فبالرغم من أنّ هذه الكلمة تستخدم بمعنى «حاكميّة الشعب» أو «حكومة الشعب على الشعب»، لكنّ معناها ليس واضحاً على وجه الدقّة، فهل إنّ هذه المفردة تفيد نوعاً من الحكم؟ أم نمطاً معيّناً في علاج القضايا الإجتماعيّة؟
والمثال الآخر مفردة الليبراليّة (Liberalism) التي تعني تبنّي الحريّة، وبذلك تكتسب بريقاً خاصّاً، ولكن لم يتمّ بيان معناها بشكلٍ دقيق، فضلاً عن أنّ مشكلة الترجمة وتحويل المفردة إلى لغة أخرى يزيد الغموض في مثل هذه الكلمات.

تحديد الموارد أولى من التعريف

ولم تخلُ مفردة «الحريّة» من هذا الغموض والإختلاف في المعاني والإستنباطات أيضاً، فقد ذكر بعض الكتّاب في الغرب ما يقرب من مائتي تعريف للحريّة، وهذه التعريفات تتشابة تارةً وتتعارض أُخرى.
ولغرض أن يتحقّق التفاهم في البحوث الخاصّة بالحريّة، يتعيّن الوصول أوّلاً لتعريف مشترك لها، ومن ثمّ الحوار بشأن متعلِّقاتها.
ربّما تُستخدم كلمة الحريّة بمعنى الإختيار في مقابل الجبر، وقد يكون المراد منها الإنسان الحرّ في مقابل المملوك والعبد. وتارة يُقال إنّ فلاناً يتمتّع بحريّة الرأي، أي أنّه ذو رأيٍ مستقلّ في قبال التقليد بالرأي، وفي بعض الحالات تُستخدم الحريّة أيضاً بمعنى أن يفعل الإنسان ما يشاء ويقول ما يحلو له، وبعبارة أخرى أن لا يقيّده قيد أو شرط في قوله وفعله.
والنتيجة هي: نظراً لما تتّصف به مثل هذه المفاهيم الذهنيّة -ومن بينها مفهوم الحريّة- من اتّساع ومرونة، فإنّه يتعيّن بدايةً التوصّل إلى معنىً واضح ودقيق لها قبل الحديث والردّ على أيّ سؤال حولها، ومن ثمّ مواصلة البحث، لأنّنا إذا أردنا مقارنة التعاريف كلٍّ على حدة مع التعريف الإسلامي، والبحث في انسجامها أو عدم انسجامها مع الشريعة، فسنواجه بحثاً في غاية التشعّب والصعوبة.
بناءً على هذا، يبدو أنّ أسهل الطُّرق للمضيّ قُدُماً في البحث، هو تحديد موارد مفردة الحريّة ومصاديقها، بدلاً من البحث حول تعريفها ومعناها. فمثلاً يُطرح السؤال التالي: هل الصحافة حرّة في الإسلام وما هي حدود هذه الحريّة؟ هل العلاقات الجنسيّة حرّة ومطلقة في الإسلام والمجتمع الإسلامي؟ هل الإساءة للآخرين والإستهزاء بهم وإهانتهم أمر مطلقٌ ومسموح به أم لا؟
ونتيجة الكلام هي أنّ تعاريف الحريّة متنوّعة جدّاً، وليس من الضرورة والسهولة إلى حدٍّ كبير الإتفاق على تعريف واحد، وإنّما المهمّ هو إيراد الموارد الخاصّة بالحريّة والبحث فيها.


اخبار مرتبطة

  العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

العبادة تُوَلِّد الحركة والنشاط

منذ 4 أيام

  خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

خِصال أمير المؤمنين عليه السلام

منذ 4 أيام

نفحات