الملف

الملف

14/05/2015

رابعُ أئمّة المسلمين
الإمام السجّاد، وارثُ الحسين والنَّبيّين عليهم السّلام


رابعُ أئمّة المسلمين

الإمام السجّاد، وارثُ الحسين والنَّبيّين عليهم السّلام

 

استهلال

عيون أخبار الرضا عليه السلام

هذا الملف

        «شعائر»

وارثُ الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة الشجرة الملعونة

الشيخ حسين كوراني

الإمام السّجّاد عليه السلام: دلائلُ إمامته، وحكّام عصره

إعداد: أسرة التحرير

قبسٌ من سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام

«شعائر»

أدعية الصّحيفة السّجّاديّة

العلّامة الشّيخ محمّد رضا المظفّر

 

استهلال

وَكَانَ قَائدَهُ إلى الجَنَّةِ

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في حديثٍ طويل ورد فيه ذكرُ الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام:

«..يَكُونُ مَنِ اتّبَعَهُ رَشِيدَاً، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ هَوِيَّاً (غَوِيّاً) ".." اسمُه عَلِيٌّ، وَدُعَاؤه:

يَا دَائمُ يَا دَيمُومُ، يَا حَيُّ يَا قَيّومُ، يَا كَاشِفَ الغَمِّ وَيَا فَارِجَ الهَمِّ وَيَا بَاعِثَ الرُّسْلِ وَيَا صَادِقَ الوَعْدِ.

مَن دَعا بهذا الدّعاء حشرَهُ اللهُ عزّ وجلّ معَ عليِّ بنِ الحُسَينِ، وَكَانَ قَائدَهُ إلى الجَنَّةِ..».

(عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق)



هذا الملفّ

شعبانُ شهرُ رسولِ الله وآله صلّى الله عليهم أجمعين

ماهي العلاقة بين «شعبانُ شهري» و«حسينٌ منِّي»؟!

تزدحمُ المناسبات المحمّديّة العُظمى في شهر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومحمّديّةُ الحسين، صلّى الله عليهما وآلهما، هي المحوَر.

في الثّالث من شعبان ولادة مَن هو مِن الرسول والرسولُ منه!

ولادة الحسين هي هذه الولادة، أم ولادة رسول الله؟ أم هيَ هي، وإلّا فلا؟!

الفصل بينهما بالمباينة «ضلالٌ بعيد»، والوصل ببقاء الرّسالة بالحسين عليه السّلام سبيلُ مَن «تحرّوا رشَداً».

وفي الرابع من شعبان مولدُ أوّل الواصلين بين مشتبك القَنا إلى الحسين عليه السلام: «أبَى الفضلُ إلّا أنْ تكونَ له أباً».

سلامٌ على «السقّاء» وابن «ساقي العطاشى»..

هل يَمنعُنِي وَهُوَ السَّاقِي 

أنْ أَشْرَبَ مِنْ حَوْضِ الكَوْثَر؟!

في الخامس من شعبان - على رواية - مولدُ وارث الحسين والنبيّين..

لولا عليٌّ لما بلّغ سيِّدُ النّبيّين الرّسالة!

ولولا حفيده عليٌّ السّجّاد، لما بلّغ الحسين الرسالة!

جوهر هذه الحقيقة الصُّراح واللُّبّ: لولا زينُ العابدين «فما بلّغتَ رسالتَه»!!

ولبّ اللّبّ وجوهرُ الجوهر: الأئمّة الثّمانية من وُلد زين العابدين عليهم صلوات الرّحمن.

وقطبُ قطب ِالرّحى من بينهم – وكلٌّ منهم قطب - صاحبُ الأمر الإمام المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرج البشريّة بفرجه، عليه السّلام.

يتجلّى ببهاءٍ أنّ سرّ العظَمة في ليلة النصف من شعبان ويوم النصف، محمّديّة المهديّ، وهدى محمّدٍ صلّى الله عليه وآله.

والمرتكَز، ونقطة البدء في هذا السّنا والبهاء – بعد ظلمات قريش الأمويّة السفيانيّة - نورُ رابع الأئمّة وأوّلُ التّسعة المعوَّض بهم الحسين، وارث الحسين والنّبيّين سيّد السّاجدين وزين العابدين الإمام عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عليهم الصّلاة والسّلام.

هذا الملف بعضُ وفاءٍ من «شعائر» لهذا الإمام العظيم، ودعوةٌ إلى طول العكوف ببابه عليه السّلام، في شعبان بالخصوص. 

 

  وارثُ الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة الشجرة الملعونة

ـ الشيخ حسين كوراني

النصّ التالي، مختصر عن محاضرتَين لسماحة الشيخ حسين كوراني ألقاهما في (المركز الإسلامي) في شهر محرّم من العام 1436 للهجرة، تحت عنوان: (وارث الحسين عليه السلام في مواجهة الشجرة الملعونة)

لكي نسيرَ في خطّ معرفة الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام حقّ المعرفة، يجب أن ندقّق في أمرَين:

الأوّل: تعريف المعصومين به عليهم جميعاً سلامُ الله تعالى.

الثاني: المنهج الذي اعتمده عليه السلام لإنجاز مهمّته النوعية على أكمل وجه رغم أنها المهمّة الفائقة الحساسية المحفوفة بأصعب ظروف المعصومين الأربعة عشر.

ندقّقُ في نصوص المعصومين وفي المنهج ونحن نبحث عن إجابات على الأسئلة التالية:

1) أيّ سرٍّ في الإمام السجّاد جعله وارث الحسين عليهما السلام؟

2) أيّ سرٍّ في الإمام السجاد عليه السلام جعله والد الثمانية المعوّض بهم الحسين من شهادته عليه وعليهم السلام؟

3) أيّ سرٍّ فيه عليه السلام جعله المدّخر لإكمال مهمّة اجتثاث الشجرة الملعونة؟

4) أيّ سرٍّ فيه عليه السلام جعله المؤهّل لمواصلة روح كربلاء وقيادة الأمّة لتحقيق أهداف التوحيد والنبوّة والإمامة؟

 5) وما هي المجالات العملية التي اعتمدها عليها السلام؟ هل اكتفى بالعمل الثقافي من خلال الدعاء - على عظيم مركزيّة الدعاء - أم تعدّدت الميادين التي عمل عليه السلام فيها؟

6) وما هي الخطوط الرئيسة لأدعيته عليه السلام، وهل تشكّل منظومة ثقافية توحيدية هي ثقافة عاشوراء؟

***

ونحن نختزن هذه الأسئلة نتابع البحث في الروايات ثمّ في محاولة تحليل منهجه عليه السلام.

أوّلاً: في الروايات عن المعصومين عليهم السلام

في (أمالي) الشيخ الصدوق: «عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِيهِ عليهم السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ؟ فَكَأَنِّي‏ أَنْظُرُ إِلَى وَلَدِي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَخْطُرُ بَيْنَ الصُّفُوفِ».

هل هذا الموقع المميّز بسبب العبادة المنفصلة عن قيادة الأمّة في أحلك الظروف؟

أم بسبب عدم الفصل بين العبادة والتحلّي بمكارم الأخلاق وخدمة الناس وبين قيادة الأمّة في خطّ التوحيد كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسائر المعصومين الأربعة عشر.

ولماذا نُبتلى بمرض البُعد الواحد، فإذا صار الشخص مبلّغاً جنحَ إلى الثقافة والتدريس والكتابة بحيث يؤثّر على عبادته؟

النص على الإمام السجّاد عليه السلام

النصوص كثيرة جداً أختار منها:

1) كتاب (فرائدُ السِّمطين) لشيخ الإسلام الحَمويني الشّافعي: بالإسناد إلى ابن عبّاس في حديثٍ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله جاء فيه: «إِنَّ وَصِيِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَبَعْدَهُ سِبْطَايَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، تَتْلُوهُ تِسْعَةُ أئمّةٍ مِنْ صُلْبِ الْحُسَيْنِ».

ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: «فإذا مَضَى الْحُسَيْنُ فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإذا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَإذا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ جَعْفَرٌ، فَإِذا مَضَى جَعْفَرٌ فَابْنُهُ مُوسى، فَإِذا مَضَى مُوسى فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإِذا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَإِذا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإِذا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ الْحَسَنُ، فَإِذا مَضَى الْحَسَنُ فَابْنُهُ الْحُجَّةُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، فَهؤُلاءِ اِثْنا عَشَرَ».

2) في كتاب (كفاية الأثر) للخزّاز القمّي: «عن أبي هريرة قال: كنتُ عند النّبيِّ صلّى الله عليه وآله، وأبو بكر وعمر والفضلُ بن العبّاس وزيدُ بن حارثة وعبدُ الله بنُ مسعود، إذ دخلَ الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما السّلام فأخذَه النبيُّ صلّى الله عليه وآله وقبّلَه ثمّ قال: حبقّةٌ حبقّة، تَرَقَّ عينَ بقّة، ووَضعَ فمَه على فمه، ثمّ قال: أللّهمّ إنّي أحبُّه، فأَحِبَّه، وأحبَّ مَن يحبُّه، يا حسين، أنت الإمامُ ابنُ الإمام، أبو الأئمّة التّسعة، من ولدك أئمّةٌ أبرار.

فقال له عبدُ الله بنُ مسعود: ما هؤلاء الأئمّةُ الذين ذكرتَهم يا رسولَ الله في صُلب الحسين؟

فأَطرقَ (النبيُّ صلّى الله عليه وآله) مَليّاً ثمّ رفعَ رأسَه، وقال:

يا عبدَ الله، سألتَ عظيماً ولكنّي أُخبرُك، إنّ ابني هذا - وَوَضعَ يدَه على كَتف الحسين عليه السلام - يخرجُ من صُلبِه ولدٌ مبارك، سَمِيُّ جدِّه عليٍّ عليه السلام، يُسمَّى العابدُ ونورُ الزُّهّاد..»، إلى آخر الرواية، وفيها ذِكرُ جميع الأئمّة عليهم السلام بأسمائهم.

 

ثانياً: السياسة العامة

يُمكن تلخيص السياسة العامّة التي اتّبعها الإمام السجّاد عليه السلام بالنقاط التالية:

1) اعتماد البناء الروحي للأمة طريقاً للإصلاح والتغيير في مجالات العقيدة والأخلاق والسلوك.

2) التعالي على التجاذبات السياسية، وإفهام الحكّام أنه لا يعتقد بالعمل السياسي والعسكري على طريقتهم وبحسب السائد.

3) رعاية حركات المعارضة وفق سياسة الحياد.

ثالثاً: منهج الإمام في التزكية

وأمّا منهجه صلوات الله عليه في إنجاز المهمّة الإلهيّة الموكلة إليه فقد تضمّن عنوانَين رئيسَين:

1) التربية الفكرية والثقافية: رسائل وتوجيهات وقصار الكلمات، وفي كتاب (تُحَف العقول) لابن شعبة الحرّاني عددٌ من الرسائل والتوجيهات.

2) اعتماد محورية الدعاء:

أ) لتظهير العقيدة، وأبرز معالم الشريعة: الصّلاة، الصّوم، الجهاد، العلاقة بالمال، والموقف من الدنيا والآخرة.

ب) وتبيين مكارم الأخلاق.

ت) وتوضيح أُسس الاستقامة والسلوك.

 

الإمام عليّ بن الحسين عليهما السّلام

دلائل إمامته، وحكّامُ عصره

ـ إعداد: «أسرة التحرير»

الأدلّة النقليّة على إمامة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام متواترة في مصادر جميع المسلمين، منها ما ينصُّ على إمامته صلوات الله عليه بالخصوص، ومنها ما يرِد في سياق النصّ على جميع الأئمة عليهم السلام.

في ما يلي، إشارة إلى عددٍ من هذه النّصوص، مشفوعة بأدلّة عقلية أوردها الشيخ المفيد في (الإرشاد)، يليها تعريفٌ موجز بالأوضاع السياسية أيّام إمامة الإمام زين العابدين عليه السلام.

* قال الشّيخ المفيد، محمّد بن محمّد النعمان في (الإرشاد): «وثبتت له [أي للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام] الإمامة من وجوه:

أحدها: أنّه كان أفضل خلق الله بعد أبيه علماً وعملاً، والإمامة للأفضل دون المفضول بدلائل العقول.

ومنها: أنّه كان أوْلى بأبيه الحسين عليه السّلام، وأحقّهم بمقامه من بعده بالفضل والنَّسَب، والأوْلى بالإمام الماضي أحقّ بمقامه من غيره، بدلالة آية ذوي الأرحام، وقصّة زكريا عليه السّلام.

ومنها: وجوب الإمامة عقلاً في كلّ زمان، وفساد دعوى كلّ مدّعٍ للإمامة في أيّام عليّ بن الحسين عليهما السّلام، أو مدّعًى له سواه، فثبتت فيه، لاستحالة خلوّ الزمان من إمام.

ومنها: ثبوت الإمامة أيضاً في العترة خاصّة، بالنّظر والخبر عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وفساد قول مَن ادّعاها لمحمّد بن الحنفيّة، رضي الله عنه، بتعرّيه من النصّ عليه بها، فثبت أنّها في عليّ بن الحسين عليهما السّلام، إذ لا مدَّعى له الإمامة من العترة [هكذا] سوى محمّد رضي الله عنه، وخروجه عنها بما ذكرناه.

ومنها: نصّ رسول الله صلّى الله عليه وآله بالإمامة عليه فيما رُوي من حديث اللّوح - الّذي رواه جابر - عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله، ورواه محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام، عن أبيه، عن جدّه، عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليهم، ونصّ جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام في حياة أبيه الحسين عليه السّلام بما تضمّن (ضمن) ذلك من الأخبار، ووصيّة أبيه الحسين عليه السّلام إليه، وإيداعه أمّ سلَمة رضي الله عنها ما قبضه عليٌّ من بعده، وقد كان جعل التماسَه من أمّ سلَمة علامةً على إمامة الطّالب له من الأنام، وهذا بابٌ يعرفه مَن تصفّح الأخبار..».

* وفي (فرائد السّمطين) لشيخ الإسلام الحمويني الشافعي: بالإسناد إلى ابن عباس في حديثٍ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: جاء فيه: «إِنَّ وَصِيّي عَلَيُّ بْنُ أَبي طالِب، وَبَعْدَهُ سِبْطايَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ تَتْلُوهُ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ مِنْ صُلْبِ الحُسَيْنِ».

ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: «فإذا مَضَى الْحُسَيْنُ فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإذا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَإذا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ جَعْفَرٌ، فَإِذا مَضَى جَعْفَرٌ فَابْنُهُ مُوسى، فَإِذا مَضَى مُوسى فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإِذا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَإِذا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإِذا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ الْحَسَنُ، فَإِذا مَضَى الْحَسَنُ فَابْنُهُ الْحُجَّةُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، فَهؤُلاءِ اِثْنا عَشَرَ».

* وفي (مناقب آل أبي طالب) عن (روضة الواعظين): «..قال أبو خالد الكابلي: أتيتُ عليّ بن الحُسين عليهما السّلام، على أَنْ أَسألهُ: هَل عندكَ سلاح رسولِ الله؟ فلمّا بصر بي، قال: يا أبا خالد، أَتُريدُ أنْ أُرِيَكَ سِلاحَ رَسُولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ؟ قلتُ: والله يا ابنَ رسولِ الله، ما أَتَيْتُ إلَّا لِأَسْأَلَكَ عنْ ذَلِك، وَلَقَد أَخْبَرْتَنِي بِما فِي نَفْسِي، قال: نعم، فَدَعا بِحُقٍّ كَبيرٍ وسفطٍ، فَأَخرَجَ لِي خَاتمَ رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وآلِه، ثُمَّ أخْرَجَ لِي دِرْعَهُ، وقال: هَذا دِرْعُ رَسُولِ الله صلّى اللهُ عليه وآلِه، وأَخْرَجَ إليَّ سَيْفَهُ، وقال: هَذا واللهِ ذُو الفَقار، وأَخْرَجَ عمَامَتَهُ وقَال: هَذهِ السّحاب، وأخْرَجَ رَايَتَهُ، وقال: هذه العُقَاب... وأخْرَجَ رِداءَهُ وقال: هَذا كَان يَرتَدِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وَيَخْطبُ أَصْحابَهُ فِيهِ يومَ الجُمُعة، وأَخْرَجَ لِي شَيئاً كَثيراً، قلتُ: حَسْبي، جَعَلَني اللهُ فِداك».

طواغيت عصره

* قال السّيّد تاج الدّين بن عليّ بن أحمد الحسينيّ العامليّ [من علماء القرن الحادي عشر] في (التتمّة في تواريخ الأئمّة عليهم السّلام): «وكانَ في زمان إمامته عليه السّلام بقيّة مُلك يزيد بن معاوية إلى أن هلك سنة أربع وستيّن، وكان قد خرج عليه بعد قتل الحسين عليه السّلام عبد الله بن الزبير بالحجاز، ودعا النّاس إلى بيعته، فبايعوه وأرسل إليه يزيد عسكراً فحاصروه بمكّة، وهُدّمت الكعبة من رَمْي المجانيق في ذلك الحصار - وقيل: بل كان هدْمُ الكعبة في زمن الحجّاج، وفيه بعض الروايات - فبينما هم كذلك، إذ جاء البريد بموت يزيد فرجعوا عن ابن الزّبير، وبايع أهل الشّام لابنه معاوية، فأقام على الخلافة مدّة أربعين يوماً، ثمّ خلع نفسه خوفاً من الله تعالى. ".." وبايع النّاس بعده لمروان بن الحكم فبقي خليفةً أربعة أشهر، ثمّ توفّي وبايع النّاس بعده لابنه عبد الملك.

ولمّا هلك يزيد واضطرب أمر بني أُميّة، قَوِيَ عبد الله بن الزّبير فملَك العراق، فولّى عبد الله بن مطيع على الكوفة وولّى أخاه (مصعب) على البصرة. وفي تلك المدّة خرج المختار بن أبي عبيدة الثّقفي في طلب ثار الحسين عليه السّلام، فمال إليه النّاس وقوي حزبه، فطرد عبد الله بن مطيع عن الكوفة، واستولى هو عليها إلى أن قتل جمعاً كثيراً من قتلة الحسين عليه السّلام، فكانت الحجاز في مُلك عبد الله بن الزبير، والكوفة ونواحيها في مُلك المختار، والبصرة ونواحيها في مُلك مصعب، والشّام في مُلك عبد الملك.

ثمّ قوي بعد ذلك مصعب بن الزّبير على المختار وسار إليه بعسكر فحاربه وقتله، وصار والياً على العراق بأسره، ثمّ سار عبد الملك بعسكرٍ كثير إلى مصعب، فكان بينهما حرب إلى أن قتل مصعب ومَلَك العراق. ".."

وولّى عبد الملك الحجّاجَ بن يوسف الثّقفي على الكوفة، وكان من أبغض النّاس لأهل البيت عليهما السّلام وقتل من الشّيعة خلقاً كثيراً؛ منهم كميل بن زياد صاحب أمير المؤمنين عليه السّلام، وقنبر عبد أمير المؤمنين عليه السّلام، وسعيد بن جُبير. ثمّ سار الحجّاج في عسكر من قبل عبد الملك إلى عبد الله بن الزبير، فحاصره إلى أن ظفر به فقتله وصلبه، واستقرّ الأمر لعبد الملك وكانت خلافته إحدى وعشرين سنةً، ومات سنة ستّ وثمانين. ثمّ تولّى بعده ابنه الوليد، وكان في إمامة زين العابدين عليه السّلام، جانب مِن مُلكه..».

* وفي (تاريخ الطبري) وغيره أنّ أهل المدينة أَخرَجوا سنة ثلاث وستّين عامل يزيد بن معاوية عثمان بن محمّد بن أبي سفيان من المدينة، وأظهروا خلع يزيد لقلَّة دينه وفجوره. فجنّد لحربهم جيشاً عليه مسلم بن عُقبة، فالتقوا بظاهر المدينة.

ولمّا دخل مسلم بن عقبة المدينة بعد وقعة الحرَّة، دعا النّاسّ للبيعة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء!! وأباح المدينة ثلاثاً يقتلون النّاس ويأخذون المتاع والأموال، فسمّي بـ «مسرف بن عقبة» لكثرة ما قتل من المسلمين.

* قال السّيّد المرعشي في (شرح إحقاق الحق): «..[عن] الأمير أحمد حسين بهادرخان الحنفي البريانوي الهندي في كتابه (تاريخ الأحمدي، ص 310، ط بيروت سنة 1408)، قال: وفي (مروج الذهب) قال: وبايع الناس على أنّهم عبيد ليزيد ومَن أبى ذلك أمرَّه مُسرِف على السيف، غير عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى أن قال: فأُتي به مسرف وهو مغتاظ عليه وتبرّأ منه ومن آبائه، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له وأقعده إلى جانبه - إلى أن قال: ثمّ انصرف عنه. وقيل لمسلم (مُسرِف): رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفَه فلمّا أُتي به إليك رفعتَ منزلته. فقال: ما كان ذلك لرأيٍ منّي، لقد مُلئ قلبي منه رعباً».

وقال في موضعٍ آخر من شرحه: «..[عن] العلامة الحمزاوي في (مشارق الأنوار، ص 121، ط مصر) قال: كان سيّدي عليّ زين العابدين شديد المَهابة، ولذلك قيل في حقّه:

يُغْضِي حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ

فلا يُكلَّم إِلَّا حَينَ يَبْتَسِمُ».

 

 

من كلام الإمام زين العابدين عليه السّلام

1) خَفِ اللهَ تَعَالَى لِقُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، واسْتَحِ مِنْهُ لِقُرْبِهِ مِنْكَ.

2) لا تُعَادِيَنَّ أَحَداً وإِنْ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّكَ، وَلَا تَزْهَدَنَّ فِي صَداقَةِ أَحَدٍ وإِنْ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُك؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَتَى تَرْجُو صَدِيقَكَ، وَلَا تَدْرِي مَتَى تَخَاف عَدُوَّكَ. وَلَا يَعْتَذِر إليْكَ أَحَدٌ إلَّا قَبِلْتَ عُذْرَهُ وإِنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ كَاذِب، وليَقِلّ عَيْبُ (عتبُ) النَّاسِ على لِسانِك.

3) مَنْ رَمَى النَّاسَ بِمَا فِيهِم، رَموهُ بِمَا لَيْسَ فيه.

4) مَنْ عَتِبَ علَى الزَّمانِ طالَتْ مَعْتبَتُهُ.

5) كثْرَةُ النُّصْحِ تَدْعُو إلَى التُّهْمَة.

6) ما استَغْنَى أَحَدٌ باللهِ إلَّا افْتَقَرَ النَّاسُ إِلَيْه.

7) مَنِ اتَّكَلَ عَلى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، لَمْ يَتَمَنَّ أنَّهُ فِي غَيْرِ الحَالِ الَّتي اختَارَهَا اللهُ تَعَالَى لَه.

8) إنَّ الكَريمَ يَبْتَهِجُ بِفَضْلِهِ، واللَّئيمَ يَفْتَخِرُ بِمُلْكِه.

9) عَلاماتُ المُؤمِن خَمْس: الوَرَعُ في الخَلوةِ، والصَّدَقَةُ في القِلَّةِ، والصَّبْرُ عِنْدَ المُصِيبَةِ، والحِلْمُ عِنْدَ الغَضَب، والصِّدْقُ عِنْدَ الخَوْف.

(الدّرّة الباهرة من الأصداف الطّاهرة، الشّهيد الأوّل)

 

 

أشبهُ النّاسِ بأمير المؤمنين عليه السلام

قبسٌ من سيرة زين العابدين، وسيّد السّاجدين عليه السلام

ـ إعداد: «شعائر»

 

عن طاووس اليمانيّ أنّه قال: «إنِّي لَفي الحِجْرِ ليلةً، إذ دخلَ عَلِيُّ بن الحسين عليهما السّلام، فقلتُ: رَجُلٌ صالِحٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوّةِ لَأَسْمَعَنَّ دُعَاءَهُ، فَسَمعْتُهُ يقول: (عَبْدُكَ بِفِنَائِكَ، مِسْكِينُكَ بِفِنَائِكَ، فَقِيرُكَ بِفِنَائِكَ، سَائِلُكَ بِفِنَائِكَ)، قال: فمَا دَعَوْتُ بِهِنَّ فِي كَرْبٍ إِلَّا فَرَّجَ عَنِّي».

هذه المقالة عبارة عن مختارات من مصادر عدّة تسلّط الضوء على جوانب من سيرة الإمام زين العابدين صلوات الله عليه.

* قال الشيخ المفيد في (الإرشاد): «..عن سعيد بن كلثوم قال: كنتُ عند الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام، فذكرَ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.. [فقال الصّادق عليه السّلام]: ".." وما أَطَاقَ قَدرَ عملِ رَسُول الله صلّى الله عليه وآله من هذه الأُمّة غيرُه [أي غير أمير المؤمنين عليه السّلام] ".." وما أَشْبَهَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَلَا أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ أَقربُ شَبَهاً بِهِ فِي لِبَاسِهِ وفِقْهِهِ مِن عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ عليهما السّلام.

ولَقَد دَخَلَ أبو جَعفَر ابنُهُ عليهما السّلام عَلَيه، فإذا هو قد بَلَغَ مِنَ العِبادَةِ مَا لَمْ يَبْلغهُ أَحَدٌ، فَرَآهُ قَد اصْفَرَّ لَوْنُهُ مِنَ السَّهَرِ، وَرَمِصَتْ عَيْناهُ مِن البُكَاءِ ".." وَوَرِمَت سَاقاهُ وَقَدَماهُ مِنَ القِيَامِ فِي الصَّلاةِ. فَقالَ أبو جَعفَر عليه السّلام: فَلَم أملِك حينَ رَأَيتُهُ بِتِلكَ الحالِ البُكاءَ، فَبَكَيتُ رَحمَةً لَهُ، وإذا هُوَ يُفَكِّرُ، فَالتَفَتَ إلَيَّ بَعدَ هُنَيئةٍ مِن دُخولي، وقالَ: يا بُنَيَّ، أعطِني بَعضَ تِلكَ الصُّحُفِ الَّتي فيها عِبادَةُ عَليِّ بنِ أبي طالب عليه السّلام، فَأَعطَيتُهُ، فَقَرَأَ فيها شَيئًا يَسيرًا، ثُمَّ تَرَكَها مِن يَدِهِ تَضَجُّرًا وقالَ: مَن يَقوى عَلى عِبادَةِ عَليّ عليه السَّلام؟».

* وفي (روضة الواعظين) للفتّال النيسابوري: «قال سعيد بن المسيّب: كانَ النّاسُ لَا يَخرجُونَ مِن مكَّة حتّى يَخرجَ عليُّ بن الحُسين، فَخَرَجَ وخَرَجْتُ مَعَهُ، فنَزلَ فِي بَعْضِ المَنازل فَصَلَّى رَكْعَتَين، فسَبَّح في سُجُودِهِ، فَلَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا مَدَرٌ إِلَّا سَبَّحُوا مَعَهُ فَفَزعْنَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا سَعيد أَفَزِعْتَ؟ قلتُ: نَعَم يا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، قال: هَذَا التَّسْبِيحُ الأَعْظَم».

* وفي (الخصال) للشّيخ الصّدوق: «عن أبي جعفر محمّد بن عليِّ الباقر عليهم السّلام، قال: (كانَ عليّ بنُ الحسين عليهما السّلام يُصَلِّي فِي اليومِ واللّيلَةِ أَلفَ رَكعةٍ كَما كَان يَفْعَلُ أميرُ المُؤمنين عليهِ السَّلام ".." وَلَقَد صَلَّى ذاتَ يَوْمٍ فَسَقَطَ الرِّداءُ عَن إِحدَى مَنْكبَيْه، فَلَمْ يُسَوِّه حتّى فَرغَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَسَأَلَهُ بَعضُ أَصْحَابهِ عَن ذلك، فقال: وَيْحَكَ أَتَدْرِي بَيْنَ يَدَي مَنْ كُنْتُ، إنَّ العَبْدَ لَا يُقْبَلُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا أَقْبَلَ عَلَيهِ مِنْها بِقَلْبِهِ، فقالَ الرّجل: هَلكنا؟ فقال: كلاّ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مُتَمِّمٌ ذَلكَ بِالنَّوافِل).

وكانَ عليهِ السَّلام ليَخرُج فِي اللّيلَةِ الظَّلمَاء فَيَحمِلُ الجِرابَ علَى ظَهْرِهِ وفِيهِ الصُّرَر مِنَ الدّنانِير والدَّراهِم، ورُبّما حَمَلَ عَلَى ظَهْرِهِ الطَّعَامَ أَو الحَطَبَ حَتَّى يَأتِي باباً باباً فَيَقْرَعهُ، ثمّ يُناوِل مَنْ يَخرجُ إلَيه، وَكَانَ يُغَطِّي وَجْهَهُ إذا نَاوَلَ فقيراً لئلَّا يَعرفه. فلمّا توفِّي عَلَيه السَّلام، فَقَدُوا ذَلكَ فَعَلِمُوا أَنَّهُ كانَ عليُّ بن الحُسين عليهما السّلام، وَلَمَّا وُضِعَ عَلَيهِ السَّلام عَلَى المُغْتَسَلِ نَظَروا إلى ظَهْرِهِ وعَلَيه مثلُ ركب الإبِلِ ممّا كانَ يَحملُ عَلى ظَهْرِهِ إلى مَنازِل الفُقراء والمساكين. ".."

ولقد نَظَرَ عليه السّلام يوم عَرَفَة إلى قَوْمٍ يَسألُونَ النَّاسَ، فقال: وَيْحَكُم، أَغَيْرَ الله تَسألُونَ فِي مِثلِ هذا اليوم، إِنَّهُ لَيُرْجَى فِي هذا اليَوم لِمَا فِي بُطونِ الحبَالى أنْ يَكُونوا سُعَداء ".."

ولقد حَجَّ على نَاقَةٍ لَهُ عِشْرين حِجّةً فمَا قَرَعَهَا بِسَوطٍ، فَلَمَّا نفقت أَمَرَ بِدَفْنِها لئلَّا تأكلها السّباع.

ولقد سُئِلَت عنه مولاةٌ له، فقالت: أُطْنِبُ أوْ أَخْتَصِر؟ فقيل لها: بل اختَصِري، فقالت: ما أَتَيْتُهُ بِطَعامٍ نهاراً قطُّ، وَمَا فَرَشْتُ لهُ فِراشاً بِلَيْلٍ قَطُّ.

ولقد انتَهى ذات يومٍ إلى قومٍ يَغتَابونَهُ فَوَقَفَ عَلَيهم، فقال: إِنْ كُنْتُم صَادِقِينَ فَغَفَرَ اللهُ لي، وإِنْ كُنْتُم كَاذِبِين فَغَفَرَ اللهُ لَكُم.

فكَانَ عليهِ السَّلام إذا جَاءَهُ طَالِبُ عِلْمٍ قَال: مَرْحَباً بِوَصِيّةِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَليه وآلِهِ، ثمّ يقول: إنَّ طالِبَ العِلمِ إذا خَرَجَ مِن مَنزِلِهِ لَم يَضَعْ رِجلَهُ عَلى رَطبٍ ولا يابِسٍ مِنَ الأَرضِ إلّا سَبَّحَت لَهُ إلَى الأَرَضينَ السّابِعَةِ.

ولَقَد كَانَ يَعُولُ مَائةَ أهلِ بَيْتٍ مِنْ فُقَراءِ المَدِينةِ، وَكَان يُعجِبُهُ أنْ يَحضرَ طَعامَهُ اليَتامى والأَضرّاء والزّمْنى والمَساكين الّذينَ لا حِيلةَ لهُم، وَكانَ يُناوِلُهُم بِيَدِهِ، ومَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُم عِيَالٌ حَمَّلَهُ إِلى عِيَالِهِ مِن طَعَامِهِ، وَكَان لَا يَأكُل طَعَاماً حتّى يَبْدأ فَيَتَصدَّق بمثله. ".."

ولقد كان بكى على أبِيهِ الحُسَين عليه السّلام عِشرينَ سَنةٍ، ومَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلاّ بكى حتّى قالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: يا ابْنَ رَسُولِ اللهِ أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضي؟! فقالَ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيّ عليهِ السَّلام كانَ لَهُ اثْنَا عشر ابناً، فَغَيَّبَ اللهُ عَنْهُ واحِداً مِنْهُم فَابْيَضَّتْ عَيْنَاه مِنْ كَثْرَةِ بُكائِهِ عَلَيه، وَشَابَ رَأْسُهُ مِن الحُزْنِ، واحْدَوْدَبَ ظَهْرُه مِن الغَمِّ، وَكَانَ ابْنُهُ حيّاً فِي الدُّنْيا، وَأَنَا نَظَرْتُ إلى أَبِي وَأَخِي وَعَمِّي وَسَبْعَةَ عَشَر مِن أَهْلِ بَيْتِي مَقْتُولِينَ حَوْلِي، فَكَيْفَ يَنْقَضِي حُزْنِي؟».

* كتاب (ألقاب الرّسول وعترته عليهم السّلام) من مقتنيات مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، ومؤلّفُه من قدماء المحدّثين والمؤرّخين كما على ظهر النّسخة المخطوطة. جاء في هذا الكتاب حول الإمام الرّابع زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام:

«بابٌ في ذكر الإمام عليّ بن الحسين عليهما السّلام: هو آدمُ الثّاني، هو نوح الثّاني، هو إبراهيم الثّاني..».

* وقال الشيخ محمّد الزرندي الحنفي في (معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرّسول عليهم السّلام):  «.. أبو الحسن، عليُّ بن الحسين. ".." قال الزّهري رحمه الله: ما رأيتُ قرشيّاً أفضل منه.

وقال الشيخ العارف أبو منصور معمر بن أحمد بن زياد رحمه الله في كتاب (شواهد التّصوّف): أوّل من بدأ منه آثار التّصوّف من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، بعد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، عليُّ بن الحسين زين العابدين عليهم السّلام، وكان له أحوال ومجاهدات، وعلوم وإشارات، زاره الخضر عليه السّلام وأوْصاه، وكلّمه وناجاه. ".."

وكان كثير الصّدقات في السّرّ. قال محمّد بن إسحاق: كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشُهم، فلمّا ماتَ عليّ بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتون به في اللّيل، وكان يحمل جربَ الطعام باللّيل على ظهره، يتصدّق به على فقراء المدينة ويقول: (إنّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطفِي غَضَبَ الرّبّ). فلمّا مات رأوا بظهره آثاراً، فسألوا عن ذلك. فقيل: هذا بما كان يحملُ على ظهره من الجرب إلى بيوت المساكين باللّيل. ".."

وهو، رضي الله عنه، أصلُ السّادة الحسينيّين ".." ورُوي أنّه رضي الله عنه قال يوماً: أيُّها النّاس، إنَّ كُلَّ صَمْتٍ لَيْسَ فِيهِ فِكْرٌ فَهُوَ مَسّ (عيّ)، وكُلُّ كَلامٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللهِ فَهُوَ هَبَاءٌ، لأنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أقواماً بِآبَائِهِم فَحَفظَ الأبْنَاء بِالآبَاء، وَقَالَ اللهُ تَعالى: ﴿..وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..﴾ الكهف:82، ولَقَد حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ آبَائِهِ أَنَّهُ كَانَ العَاشِر مِنْ وُلْدِهِ، ونَحْنُ عِتْرَةُ رَسُولِ الله صلّى اللهُ عليه وآلِهِ، فَاحْفَظُونَا لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله. قال الرّاوي: فرأيتُ النّاسَ يَبْكُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.

ونظر رضي الله عنه إلى سائلٍ يبكي، فقال: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ فِي يَدِ هَذَا ثُمَّ سَقَطَتْ مِنْهُ، مَا كانَ يَنْبَغِي أنْ يَبْكِيَ عَلَيها».

* وفي (الأنوار البهيّة) للمحدّث القمّيّ: «.. عن (ربيع الأبرار) للزّمخشري، أنّه قال: لمّا وجَّه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة لاستباحة أهل المدينة، ضمَّ عليّ بن الحسين عليهما السّلام إلى نفسه أربعمائة مَنافيّة [من بني عبد مناف] بحَشمهنّ يعولهنّ إلى أن تقوَّض جيشُ مسلم، فقالت امرأة منهنّ: ما عشتُ والله بين أبوَي بمثل ذلك الشّريف.

وكان يقال له: آدمُ بَنِي حُسَين، لأنّه الذي تشعّبت منه أفنانُهم، وتفرّعت عنه أغصانهم.

 وكان إذا صلّى يبرز إلى موضعٍ خشنٍ فيصلّي فيه، ويسجد على الأرض. فأتى الجبّان يوماً، ثمّ قام على حجارةٍ خشنةٍ مُحرِقة، فأقبل يصلّي، وكان كثيرَ البكاء، فرفع رأسه من السّجود وكأنّما غُمس في الماء من كثرة دموعه، وكانت شدّةُ اجتهاده عليه السّلام في العبادة، بحيث أتتْ فاطمة بنت عليّ عليه السّلام إلى جابر الأنصاريّ، وقالت له: يا صاحبَ رَسولِ الله، إِنَّ لَنَا عَلَيكُم حُقوقاً، وَمِنْ حَقِّنَا عليْكُم إذا رَأَيْتُم أَحَدَنَا يُهْلِكُ نَفَسهُ اجتِهاداً، أنْ تُذَكِّرُوهُ وَتَدْعُوه إلى البُقْيَا عَلَى نَفْسِهِ، وهَذا عَلِيّ بنُ الحُسَين بَقِيّةُ أَبِيه ".." أذابَ نَفْسَهُ في العبادة. فأتَى جابرٌ إلى بابِه واستأذَنَ، فَلَمّا دَخَلَ عليه وَجَدَهُ في مِحْرَابِهِ قد أضنتهُ العبادة، فدعاهُ إلى البُقْيَا على نَفْسِه، فقال: يا جابر، لا أزالُ عَلى مِنهاج أبَوَيَّ متأسّياً بهما حتّى ألقاهما».

كنيتُه وألقابه عليه السّلام

قال ابن شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب): «كُنيته: أبو الحسن، وأبو محمّد، ويقال: أبو القاسم».

أضاف: «لقبُه زين العابدين، وزينُ الصّالحين، ووارثُ علم النّبييّن، ووصيّ الوصييّن، وخازن وصايا المرسلين، وإمام المؤمنين، ومنار القانتين والخاشعين؛ والمتهجّد، والزّاهد، والعابد، والعدل، والبكّاء، والسّجّاد، وإمام الأُمّة، وأبو الأئمّة، ومنه تناسل ولد الحسين عليه السّلام».

أولاده عليه السّلام

قال أبو نصر البخاري في (سرّ السلسلة العلويّة): «ولد عليّ بن الحسين تسعة بنين وسبع بنات».

وفي (الإرشاد) للشيخ المفيد: «ولد عليّ بن الحسين عليهما السّلام خمسة عشر ولداً..»، إلّا أنّه ذكر أربع بنات وأحد عشراً من البنين، أوّلهم الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السّلام، وأمّه أُمّ عبد الله بنت الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

ومن أولاد الإمام زين العابدين عليه السّلام، زيد الشّهيد وأمّه (جيداء).

مولده وشهادته عليه السّلام

* في (الكافي): «ولد عليّ بن الحسين عليه السّلام، نهار الخميس، الخامس من شعبان المكّرم في سنة ثمان وثلاثين من الهجرة، في أيّام جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قبل شهادته بسنتَين».

وأمّا تاريخ شهادته عليه السّلام، فقد قال الشّيخ الطّوسي في (مصباح المتهجّد): «وفي اليوم الخامس والعشرين منه [المحرّم] سنة أربع وتسعين كانت وفاة زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام».

* وفي (الكافي) أيضاً: «عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: قُبِضَ عليّ بن الحُسين عليهما السّلام وهو ابنُ سبعٍ وخمسين سنة، في عام خمس وتسعين، عاش بعد الحُسين خمساً وثلاثين سنة».

* وفي (الإرشاد): «فبقي مع جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام سنتين ومع عمّه الحسن عليه السّلام اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه الحسين عليه السّلام ثلاثاً وعشرين سنة، وبعد أبيه أربعاً وثلاثين سنةً، وَدُفِنَ بالبقيع مع عمّه الحسن بن عليّ عليهم السّلام».

 

أدعية الصّحيفة السّجّاديّة

صيانةُ الإسلام من طغيان الجاهليّة

ـ العلّامة الشّيخ محمّد رضا المظفّر

 

الصّحيفة السّجّاديّة للإمام زين العابدين وسيّد السّاجدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، يُوليها شيعةُ أهل البيت عنايةً بالغة؛ فقد سمّاها العلامة ابن شهرآشوب في (معالم العلماء) ب‍ (إنجيل أهل البيت). وقد خصّها العلماء بالذّكر في إجازاتهم واهتمّوا بروايتها منذ القديم، وتوارث ذلك الخلف عن السّلف وطبقة عن طبقة، وتنتهي روايتها إلى الإمام الباقر وزيد الشّهيد ابنَي الإمام زين العابدين عليه السلام.

هذه المقالة للعلامة الشيخ محمّد رضا المظفّر تُعرّف بأبرز موضوعات الصحيفة السجادية، اختصرناها عن كتابه (عقائد الإماميّة).

 

 

بعد واقعة الطّفّ المحزنة، وتملُّك بني أميّة ناصية أمر الأمّة الإسلاميّة، أوغلوا في الاستبداد وولغوا في الدّماء واستهتروا في تعاليم الدّين، وبقي الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليه السّلام لا يستطيع أن يفضي إلى النّاس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم. فاتّخذ من أسلوب الدّعاء - الذي قلنا إنّه أحد الطّرق التعليميّة لتهذيب النفوس - وسيلةً لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت عليهم السلام، ولتلقين النّاس روحيّة الدّين والزّهد، وما يجب من تهذيب النّفوس والأخلاق. وهذه طريقة مبتكَرة له في التّلقين، لا تحوم حولها شبهة المطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم، فلذلك أَكْثَرَ صلوات الله عليه من هذه الأدعية البليغة، وقد جَمعت بعضَها (الصّحيفة السّجّاديّة) التي سمِّيت (بزبور آل محمّد). وجاءت في أسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي، وفي أسمى مرامي الدّين الحنيف، وأدقّ أسرار التّوحيد والنّبوّة، وأصحّ طريقة لتعليم الأخلاق المحمّديّة والآداب الإسلاميّة. وكانت في مختلف الموضوعات التّربويّة الدّينيّة، فهي تعليم للدّين والأخلاق في أسلوب الدّعاء، أو دعاء في أسلوب تعليم للدّين والأخلاق. وهي بحقّ بعد القرآن و(نهج البلاغة)، من أعلى أساليب البيان العربيّ، وأرقى المناهل الفلسفيّة في الإلهيّات والأخلاقيّات:

فمنها ما يعلّمك كيف تمجّد الله وتقدّسه وتحمده وتشكره وتتوب إليه.

ومنها ما يعلّمك كيف تناجيه وتخلو به بسرِّك وتنقطع إليه.

ومنها ما يبسط لك معنى الصّلاة على نبيّه صلّى الله عليه وآله، ورُسله وصفوته من خلقه وكيفيّتها. ومنها ما يُفهمك ما ينبغي أن تبرّ به والدَيك.

ومنها ما يشرح لك حقوق الوالد على ولده، أو حقوق الولد على والده، أو حقوق الجيران، أو حقوق الأرحام، أو حقوق المسلمين عامّة، أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس.

ومنها ما ينبّهك على ما يجب إزاء الدّيون للنّاس عليك، وما ينبغي أن تعمله في الشؤون الاقتصاديّة والماليّة، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافّة الناس ومَن تستعملهم في مصالحك.

ومنها ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلح أن يكون منهاجاً كاملا لعلم الأخلاق.

ومنها ما يعلّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث، وكيف تلاقي حالات المرض والصّحّة.

ومنها ما يشرح لك واجبات الجيوش الإسلاميّة وواجبات الناس معهم.. إلى غير ذلك ممّا تقتضيه الأخلاق المحمّديّة والشّريعة الإلهيّة، وكلّ ذلك بأسلوب الدّعاء وحده.

 

أبرز محاور الصحيفة السجّاديّة

الظاهرة التي تطغو على أدعية الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام عدّة أمور:

(الأول): التّعريف بالله تعالى وعظَمته وقدرته، وبيان توحيده وتنزيهه سبحانه بأدقّ التعبيرات العلميّة، وذلك يتكرّر في كلّ دعاء بمختلف الأساليب، مثل ما تقرأ في الدّعاء الأوّل: (الحَمْدُ لله الاوَّلِ بِلا أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَالآخِر بِلاَ آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ، الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وَعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوهامُ اَلْوَاصِفِينَ، ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الْخَلْقَ ابتِدَاعَاً، وَاخْتَرَعَهُمْ عَلَى مَشِيَّتِهِ اخترَاعاً) فتقرأ دقيق معنى الأوّل والآخر، وتنزُّه الله تعالى عن أن يحيطَ به بصرٌ أو وهمٌ، ودقيق معنى الخلق والتكوين.

ثمّ تقرأ أسلوباً آخَر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدّعاء السّادس: (الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بِقُوَّتِهِ، وَمَيَّزَ بَيْنَهُمَا بِقُدْرَتِهِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدّاً مَحْدُوداً، يُولِجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ، وَيُولِجُ صَاحِبَهُ فِيهِ، بِتَقْدِيرٍ مِنْهُ لِلْعِبَادِ فِيمَا يَغْذُوهُمْ بِهِ وَيُنْشِئُهُمْ عَلَيْهِ، فَخَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيْهِ مِنْ حَرَكَاتِ التَّعَبِ، وَنَهَضَاتِ النَّصَبِ، وَجَعَلَهُ لِبَاساً لِيَلْبَسُوا مِنْ رَاحَتِهِ وَمَقامِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ جَمَاماً وَقُوَّةً، لِيَنَالُوا بِهِ لَذَّةً وَشَهْوَةً) إلى آخر ما يذكر من فوائد خلق النّهار واللّيل وما ينبغي أن يشكره الإنسان من هذا النِّعم.

وتقرأ أسلوباً آخّر في بيان أنّ جميع الأمور بيده تعالى في الدّعاء السّابع: (يَا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ الْمَكَارِهِ، وَيَا مَنْ يُفْثَأُ بِهِ حَدُّ الشَّدَائِدِ، وَيَا مَنْ يُلْتَمَسُ مِنْهُ الْمَخْرَجُ إلى رَوْحِ الْفَرَجِ، ذَلَّتْ لِقُدْرَتِكَ الصِّعَابُ، وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الأسْبَابُ، وَجَرى بِقُدْرَتِكَ الْقَضَاءُ، وَمَضَتْ عَلَى إرَادَتِكَ الأشْياءُ، فهِيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ، وَبِإرَادَتِكَ دُونَ نَهْيِكَ مُنْزَجِرَةٌ).

(الثاني): بيان فضل الله تعالى على العبد وعجز العبد عن أداء حقّه، مهما بالغ في الطّاعة والعبادة والانقطاع إليه تعالى، كما تقرأ في الدّعاء السّابع والثّلاثين: (اللَّهُمَّ إنَّ أَحَداً لاَ يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غَايَةً إلّا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ إحْسَانِكَ مَا يُلْزِمُهُ شُكْرَاً، وَلا يَبْلُغُ مَبْلَغاً مِنْ طَاعَتِكَ، وَإن اجْتَهَدَ، إلاَّ كَانَ مُقَصِّراً دُونَ اسْتِحْقَاقِكَ بِفَضْلِكَ، فَأَشْكَرُ عِبَادِكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ، وَأَعْبَدُهُمْ مُقَصِّرٌ عَنْ طَاعَتِكَ).

وبسبب عِظَم نعم الله تعالى على العبد التي لا تتناهى، يعجز عن شكره، فكيف إذا كان يعصيه مجترئاً، فمهما صنع بعدئذٍ لا يستطيع أن يكفِّر عن معصية واحدة. وهذا ما تصوِّره الفقرات الآتية من الدّعاء السّادس عشر: (يَا إلهِي لَوْ بَكَيْتُ إلَيْكَ حَتَّى تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ، وَانْتَحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وَقُمْتُ لَكَ حَتَّى تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وَسَجَدْتُ لَكَ حَتَّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأكَلْتُ تُرَابَ الأرْضِ طُولَ عُمْرِي، وَشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي، وَذَكَرْتُكَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَّ لِسَانِي، ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إلَى آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ، مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سَيِّئاتِي).

(الثالث): التّعريف بالثّواب والعقاب، والجنّة والنّار، وأنّ ثواب الله تعالى كلّه تفضُّل، وأنّ العبد يستحقّ العقاب منه بأدنى معصيةٍ يجتري بها، والحجّة عليه فيها لله تعالى. وجميع الأدعية السّجّاديّة تلهج بهذه النّغمة المؤثِّرة، للإيحاء إلى النفس الخوفَ من عقابه تعالى والرّجاء في ثوابه. وكلّها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبِّر الرّعب والفزع من الإقدام على المعصية. مثل ما تقرأ في الدّعاء السّادس والأربعين: (حُجَّتُكَ قَائِمَةٌ، وَسُلْطَانُكَ ثَابِتٌ لا يَزُولُ، فَالْوَيْلُ الدَّائِمُ لِمَنْ جَنَحَ عَنْكَ، وَالْخَيْبَةُ الْخَاذِلَةُ لِمَنْ خَابَ مِنْكَ، وَالشَّقاءُ الأشْقَى لِمَنِ اغْتَرَّ بِكَ. مَا أكْثَرَ تَصَرُّفَهُ فِي عَذَابِكَ، وَمَا أَطْوَلَ تَرَدُّدَهُ فِي عِقَابِكَ، وَمَا أَبْعَدَ غَايَتَهُ مِنَ الْفَرَجِ، وَمَا أَقْنَطَهُ مِنْ سُهُولَةِ الْمَخْرَجِ، عَدْلاً مِنْ قَضَائِكَ لاَ تَجُورُ فِيهِ، وَإنْصَافاً مِنْ حُكْمِكَ لاَ تَحِيفُ عَلَيْهِ، فَقَدْ ظَاهَرْتَ الْحُجَجَ، وَأَبْلَيْتَ الأعْذَارَ).

ومثل ما تقرأ في الدّعاء الحادي والثّلاثين: (اللَّهُمَّ فَارْحَمْ وَحْدَتِي بَيْنَ يَدَيْكَ، وَوَجِيبَ قَلْبِي مِنْ خَشْيَتِكَ، وَاضْطِرَابَ أَرْكَانِي مِنْ هَيْبَتِكَ، فَقَدْ أَقَامَتْنِي يَا رَبِّ ذُنُوبِي مَقَامَ الْخِزْيِ بِفِنَائِكَ، فَإنْ سَكَتُّ لَمْ يَنْطِقْ عَنِّي أَحَدٌ، وَإنْ شَفَعْتُ فَلَسْتُ بِأَهْلِ الشَّفَاعَةِ).

ومثل ما تقرأ في الدّعاء التّاسع والثلاثين: (فَإنَّكَ إنْ تُكَافِنِي بِالْحَقِّ تُهْلِكْنِي، وَإلاّ تَغَمَّدْنِي بِرَحْمَتِكَ تُوبِقْنِي.. وَأَسْتَحْمِلُكَ مِنْ ذُنُوبِي مَا قَدْ بَهَظَنِي حَمْلُهُ، وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَى مَا قَدْ فَدَحَنِي ثِقْلُهُ. فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَبْ لِنَفْسِي عَلَى ظُلْمِهَا نَفْسِيْ، وَوَكِّلْ رَحْمَتَكَ بِاحْتِمَالِ إصْرِي..).

(الرابع): سوقُ الداعي بهذه الأدعية إلى التّرفّع عن مساوئ الأفعال وخسائس الصفات، لتنقية ضميره وتطهير قلبه، مثل ما تقرأ في الدّعاء العشرين: (اللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي، وَصَحِّحْ بِمَا عِنْدَكَ يَقِينِي، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي). (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمَتِّعْنِي بِهُدىً صَالِحٍ لا أَسْتَبْدِلُ بِهِ، وَطَرِيقَةِ حَقٍّ لا أَزِيْغُ عَنْهَا، وَنِيَّةِ رُشْدٍ لاَ أَشُكُّ فِيْهَا). (اللَّهُمَّ لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاّ أَصْلَحْتَهَا، وَلا عَائِبَةً أُؤَنَّبُ بِهَا إلاّ حَسَّنْتَهَا، وَلاَ أُكْرُومَةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاّ أَتْمَمْتَهَا).

(الخامس): الإيحاء إلى الداعي بلزوم الترفّع عن الناس وعدم التذلّل لهم، وألّا يضع حاجته عند أحدٍ غير الله، وأنّ الطّمع بما في أيدي النّاس من أخسِّ ما يتّصفُ به الإنسان، مثل ما تقرأ في الدّعاء العشرين: (وَلا تَفْتِنّي بِالاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِكَ إذَا اضْطُرِرْتُ، وَلا بِالْخُضُوعِ لِسُؤالِ غَيْرِكَ إذَا افْتَقَرْتُ، وَلاَ بِالتَّضَرُّعِ إلَى مَنْ دُونَكَ إذَا رَهِبْتُ، فَأَسْتَحِقَّ بِذلِكَ خِذْلانَكَ وَمَنْعَكَ وَإعْرَاضَكَ).

ومثل ما تقرأ في الدّعاء الثّامن والعشرين: (اللَهُمَّ إنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأيِهِ وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ). ومثل ما تقرأ في الدّعاء الثّالث عشر: (فَمَنْ حَاوَلَ سَدَّ خَلَّتِهِ مِنْ عِنْدِكَ، وَرَامَ صَرْفَ الْفَقْرِ عَنْ نَفْسِهِ بِكَ، فَقَدْ طَلَبَ حَاجَتَهُ فِي مَظَانِّها، وَأَتَى طَلِبَتَهُ مِنْ وَجْهِهَا. وَمَنْ تَوَجَّهَ بِحَاجَتِهِ إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ جَعَلَهُ سَبَبَ نُجْحِهَا دُونَكَ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْحِرْمَانِ، وَاسْتَحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَوْتَ الإحْسَانِ).

(السّادس): تعليمُ الناس وجوبَ مراعاة حقوق الآخرين، ومعاونتهم والشَّفَقة والرّأفة من بعضهم لبعض، والإيثار فيما بينهم، تحقيقاً لمعنى الأُخوّة الإسلاميّة. مثل ما تقرأ في الدّعاء الثّامن والثّلاثين: (اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِنْ مَظْلُومٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْهُ، وَمِنْ مَعْرُوفٍ أُسْدِيَ إلَيَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ، وَمِنْ مُسِيءٍ اعْتَذَرَ إلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ، وَمِنْ ذِي فَاقَةٍ سَأَلَنِي فَلَمْ أُؤثِرْهُ، وَمِنْ حَقِّ ذي حَقٍّ لَزِمَنِي لِمُؤْمِنٍ فَلَمْ أوَفِّرْهُ، وَمِنْ عَيْبِ مُؤْمِنٍ ظَهَر لِي فَلَمْ أَسْتُرْهُ..).

إنّ هذا الاعتذار من أبدع ما ينبِّهُ النّفسَ إلى ما ينبغي عملُه من هذه الأخلاق الإلهيّة العالية. وفي الدّعاء التّاسع والثّلاثين ما يزيد على ذلك، فيعلّمك كيف يلزمك أن تعفوَ عمّن أساء إليك ويحذّرك من الانتقام منه، ويسمو بنفسك إلى مقام القدّيسين. (اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْدٍ نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ، فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلَتْ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي، وَلاَ تَقِفْهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِي، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِهِ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَتَبَرَّعْتُ بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ، أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ، وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ، حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِفَضْلِكَ).

وما أبدعَ هذه الفقرة الأخيرة وما أجملَ وقْعها في النفوس الخيِّرة، لتَنبيهها على لزوم سلامة النيّة مع جميع الناس، وطلب السّعادة لكلّ أحدٍ حتّى مَن يظلمُه ويعتدي عليه. ومثلُ هذا كثيرٌ في الأدعية السّجّاديّة، وما أكثر ما فيها من هذا النّوع من التعاليم السّماويّة المهذِّبة لنفوس البشر لو كانوا يهتدون.

عُلوّ مضامينها، أقوى شَاهدٍ على صحّتها

قال العلّامة السيد محسن الأمين العاملي رضوان الله عليه عند حديثه عن مؤلّفات الإمام زين العابدين عليه السلام:

«الصّحيفة [السجّاديّة] الكاملة في الأدعية، تحتوي على واحد وستّين دعاءً، في فنون الخير، وأنواع العبادة، وطلب السعادة، وتعليم العباد كيف يلجؤون إلى ربهم في الشّدائد والمهمّات، ويطلبون منه حوائجهم، ويعملون بقوله تعالى: ﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..﴾ غافر:60، من التّحميد لله تعالى، والثناء عليه، والشكر له، والتذلّل بين يديه، واللجوء إليه، والتضرّع والاستكانة له، والإلحاح عليه، وغير ذلك من فنون الدّعاء، وأفانين المناجاة.

وبلاغةُ ألفاظها، وفصاحتها التي لا تُبارَى، وعُلوّ مضامينها، وما فيها من أنواع التّذلّل لله تعالى، والثناء عليه، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه، والتوسّل إليه، أقوى شاهدٍ على صحّة نسبتها، وأنّ هذا الدّرّ من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثّمر من ذلك الشجَر، مضافاً إلى اشتهارها شهرةً لا تقبل الرَّيْب، وتعدُّد أسانيدها المتّصلة إلى مُنشئها صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطّاهرين، فقد رواها الثّقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة إلى الإمام زين العابدين عليه السّلام.

وقد كانت منها نسخة عند زيد الشّهيد رحمه الله، ثمّ انتقلت إلى أولاده، وإلى أولاد عبد الله بن الحسن المثنّى، كما هو مذكورٌ في أوّلها، مضافاً إلى ما كان عند الإمام الباقر عليه السّلام من نسختها. هذا وقد اعتنى بها العلماء الخاصّة، والنّاس عامّة، أتمّ اعتناء، روايةً وضبطاً لألفاظها، ونسخها، وواظبوا على الدّعاء بأدعيتها ليل نهار، وبالعشيّ والأبكار والغدوات والأسحار، والتّضرّع إليه تعالى، وطلب الحوائج منه، والمغفرة، والفوز بالجنّة، والنجاة من النار».

(أعيان الشيعة: 1/638، دار التعارف)

أمّا شروح الصحيفة، فقد بلغت عناية العلماء بها حدّاً كبيراً حتّى عدّ شيخ الذّريعة قدّس سرّه ما يقرب من الخمسين شرحاً باللّغتَين العربيّة والفارسيّة، منها المختصَر والذي هو بنحو التعليق، ومنها المطوَّل والموسَّع. ومنها ما هو مختصّ بجانبٍ واحد، مثل: الجانب العرفانيّ، أو الجانب الأخلاقيّ، أو الجانب اللّغويّ البلاغيّ، أو الجانب العلميّ. ومنها ما هو جامع بين الاختصار والكمال، لاحتوائه على أغلب الفنون المتعلّقة بالدّعاء المشروح، مثل (رياض السّالكين) للسّيّد علي خان المدني، و(حدائق الصّالحين) للشّيخ البهائيّ.

   

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

14/05/2015

دوريات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات