الفقيه العَلَم،
المقدّس السّيّد محمّد مهدي بحر العلوم قدّس
سرّه
صاحبُ
الكرامات الباهرة
___________ إعداد: سليمان بيضون __________
* شخصيّة جمعت خصائص
النّبوغ العلمي، ورهافة الرّوح، وخدمة الناس.
* من أبرز تلامذة الوحيد
البهبهاني والمحقّق البحراني، وأستاذ الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء والشيخ مهدي
النراقي صاحب موسوعة (جامع السعادات).
* كان زعيم حوزة النّجف الأشرف، ومرجع
التقليد الأبرز على رأس القرن الثالث عشر الهجري.
* نُقلت عنه الكرامات
الكثيرة، وتشرّفه بلقاء الإمام المهدي عليه السّلام.
* أُعدّت هذه الترجمة استناداً إلى ما
ورد في مقدّمة كتاب (الفوائد
الرجاليّة).
|
هو السيّد محمّد مهدي،
بن السّيّد مرتضى الطباطبائي، من السادة الحسنيّين، الذين كان أجدادهم الأوائل يسكنون
الحجاز، والمدينة، والكوفة، والبصرة وغيرها من البلدان العربيّة، ثمّ وبحكم الضغط السّياسي
من قِبَل الحكومات الجائرة التجأوا إلى سكنى إيران، وصاروا يتنقّلون من ناحيةٍ إلى
أخرى فيها، حتّى استقر بهم المقام في أصفهان، ثمّ في بروجرد.
وفي مطلع القرن الثاني عشر
الهجري، تحوّل كثير من أبناء هذه الأسرة إلى العراق واستقرّوا في كربلاء والنجف الأشرف
إلى اليوم.
كان والده السيّد مرتضى
من الفضلاء الذين يُشار إليهم بالبنان، درس في كربلاء والنجف ثمّ غادر إلى موطن
آبائه بروجرد، وصار هناك مرجعاً دينياً ورئيساً اجتماعياً مدّة من الزمن، ورجع بعدها
إلى النجف.
الولادة والنشأة
العلميّة
ولد السيّد مهدي في كربلاء
سنة 1155 للهجرة ونشأ فيها، وتعلّم القراءة والكتابة قبل تخطّي سنّ السابعة من عمره،
وحضر علومه الأوّليّة من النّحو والصّرف وسائر علوم اللغة العربيّة، والمنطق والأصول،
والفقه والتفسير وعلم الكلام على علماء المدينة المقدّسة، فأكملها وعمره لم يتجاوز
الثانية عشرة.
ثمّ حضر الدّروس العليا
في أصول الفقه على والده، وعلى المحقّق الأصولي الكبير الوحيد البهبهاني، والدروس
العليا في الفقه على العلّامة الشيخ يوسف البحراني، إلى أن بلغ درجة الاجتهاد، ولمع نجمه في كربلاء، وهو في
ريعان الشّباب.
بعد ذلك انتقل من كربلاء
إلى النّجف الأشرف سنة 1169 للهجرة، فحضر هنالك على كبار علمائها - يومئذ - كالشيخ
مهدي الفتوني العاملي، والشيخ محمّد تقي الدورقي، والشيخ محمّد باقر الهزار جريبي.
وفي خلال ذلك كان السّيد
مهدي مُجِدّاً في التدريس والتأليف، وظهرت معالم شخصيّته المميّزة بتصدّيه لإدارة كثير
من القضايا الدينية، وحسم الخلافات الاجتماعيّة، ورعاية شؤون الفقراء والمعوزين، فصار
زعيماً دينيّاً واجتماعياً في النجف وعمره بعدُ لم يتجاوز الثلاثين من السنين.
بحر العلوم
وفي سنة 1186 للهجرة، دُعي
السيد مهدي من قِبل بعض علماء إيران إلى زيارة الإمام الرضا عليه السّلام في مدينة
مشهد، فخرج من النجف في طريقه إلى إيران، فلمّا وصل إلى خراسان تعرّف هناك إلى
الفيلسوف الكبير السيد ميرزا مهدي الأصفهاني الخراساني، ولازمه لسنوات يكمل عنده علوم
الفلسفة والكلام، وقد أُعجب به أستاذه أشدّ الإعجاب حتّى لقّبه ب «بحر العلوم»،
وصار هذا اللقب علَماً لهذه الأسرة الكريمة من بعد السيد مهدي إلى اليوم، ثمّ رجع إلى
النجف الأشرف سنة 1193 للهجرة.
وفي أواخر تلك السنة تشرّف
بحجّ بيت الله الحرام، وبقي في مكّة لأكثر من سنتَين، فكان يوضع له كرسيّ الكلام فيحاضر
بالمذاهب الإسلاميّة المختلفة، وتصدّى خلال تلك المدّة لتعيين المواقيت والمشاعر
وفق المأثور عن أهل البيت عليهم السّلام.
آيات الثّناء عليه
لقد اعترف العلماء الذين
عاصرهم السيّد مهدي بحر العلوم، والذين جاؤوا بعده بنبوغه العلمي وشخصيّته المتميّزة،
ومن الشّهادات بحقّه:
* قول أستاذه الوحيد البهبهاني - من إجازته له:
«..وبعد، فقد استجازني الولد الأعزّ الأمجد المؤيّد الموفّق المسدّد، والفطن الأرشد،
والمحقّق المدقّق الأسعد، ولدي الروحاني، العالم الزكيّ، والفاضل الذكيّ، والمتتبّع
المطّلع الألمعي، السيّد السند، النجيب الأيْد، محمّد مهدي الطباطبائي».
* وقول الشيخ عبد النّبي القزويني اليزدي في
إجازته له أيضاً: «..وبعد، فلمّا وفّقني الله تعالى لشرف خدمة السّيّد المطاع السند،
المحقّق في المسائل، المدقّق في الدلائل، خلاصة الأفاضل، وسلالة العلماء الأكامل، السيد
الأجلّ الأبجل، الأمير محمّد مهدي الحسني الحسيني - أدام الله ظلّه – وأحسن أمره كلّه
وجلّه، فوجدته بحراً لا ينزف، ووسيع علم لا يطرف».
* وقول أستاذه الشيخ محمّد
باقر الهزار جريبي: «..أمّا بعد، فإنّ الولد الأعزّ الأجلّ الأوحد، السيد محمّد مهدي
الطباطبائي ممّن رقى في الكلام على سنامه، وفاق في الفضائل الأدبيّة والعلوم العقليّة
والنقليّة أبناء دهره وزمانه، بسهر لياليه وكدّ أيامه..».
* ووصفه تلميذه الشيخ أبو علي الحائري في كتابه
(منتهى المقال)، فقال: «..علّامة دهره وزمانه، ووحيد عصره وأوانه، إن تكلّم في المعقول
قلتَ: هذا الشّيخ الرّئيس، وإن باحثَ في المنقول قلت: هذا العلّامة المحقّق لفنون الفروع
والأصول. وما رأيتُه يناظر في الكلام إلّا قلتُ: هذا والله علَم الهدى..».
* وقال عنه العلّامة الشيخ عباس القمّي في كتابه
(الكنى والألقاب): «..سيّد علماء الأعلام ومولى فضلاء الإسلام، علّامة دهره وزمانه
ووحيد عصره وأوانه..».
تلامذته
والمجازون منه
كان السيّد مهدي بحر
العلوم يلقي الدروس والمحاضرات في مختلف العلوم الإسلاميّة طيلة أكثر من عشرة أعوام
زعيماً في حوزة النجف، حتّى نشأ على يديه جمع غفير من روّاد الفضيلة وطلّاب العلوم
والآداب، ومن تلامذته المشهورين:
الشيخ أحمد، حفيد الوحيد
البهبهاني - الشّيخ أبو علي الحائري صاحب (منتهى المقال) في علم الرجال - الشيخ أسد
الله التستري صاحب (المقابيس) - الشيخ إبراهيم بن يحيي العاملي الطيّبي - السّيد أبو
القاسم، جدّ صاحب (الروضات) - الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء - الشيخ حسين نجف - السّيد
حسين الشقرائي العاملي - المولى زين العابدين السلماسي - الشيخ زين العابدين، جدّ آل
الزين العامليّين - السّيد صدر الدّين العاملي - السّيد عبد الله شبّر - السّيد محمّد
جواد العاملي صاحب (مفتاح الكرامة) - السّيد محمّد المجاهد صاحب (المناهل) - الشيخ
محمّد مهدي النراقي وابنه الشيخ أحمد - السّيد محسن الأعرجي الكاظمي - الشّيخ محمّد
تقي الأصفهاني صاحب (الحاشية على المعالم).
هيبة وجلالة
وَصف السّيد مهدي بعض مَن
عاصره، فقال: «كان السّيد بحر العلوم قليل الكلام، طويل الصّمت، دائب التّفكير، عميق
الإطراقة، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السّماء، إذا جلس بين الناس فكهيئة
المتشهّد للصّلاة، واضعاً يديه على فخذيه، مُطرِقاً برأسه، وبين آونة وأخرى يرفع بصره
إلى الملأ ليجيبهم على سؤالٍ وُجّه إليه، أو ليقول لهم أمراً يريد تنفيذه. وإذا مشى
فعلى هيبةٍ ووقارٍ، بحيث لا يلتفت إلى ورائه أو بين يديه إلّا لأمرٍ ضروريّ، قصير الخَطو،
متّزن النقل».
أمّا عن برنامجه في ليله
ونهاره، فقد كان السّيد بحر العلوم يقضي النّهار في التّدريس والتّأليف والقضاء بين
النّاس، فإذا جنّه الليل، تابع في قسم منه شؤون البحث والتدريس، ثم يَجدّ السير من
النّجف الأشرف إلى مسجد الكوفة ماشياً على قدميه، فيظلّ هناك مشتغلاً بالتهجّد والعبادة
والأذكار المأثورة.
صاحب الكرامات
ومن ذلك الجوّ المفعم
بالانقطاع إلى الله تبارك وتعالى، كانت للسّيّد بحر العلوم كرامات عديدة اشتهرت
عنه، كقصص تشرّفه بلقاء الإمام المهدي عليه السّلام خصوصاً في مسجد السهلة، وحوادث
فتح باب الصّحن وباب الحرم الشّريف لأمير المؤمنين عليه السّلام له حين وروده إليه،
وسوى ذلك من الكرامات. وقد نَقل بعضاً من تلك القصص المحدّث النّوري في كتابه (النّجم
الثاقب)، وهو القائل عنه في (خاتمة مستدرك الوسائل): «..وهو من الذين تواترت عنه الكرامات،
ولقائه الحجّة صلوات الله عليه، ولم يسبقه في هذه الفضيلة أحد فيما أعلم، إلّا السّيد
رضي الدين علي بن طاوس..».
وقد نُقلت عن السّيد
مهدي بحر العلوم كرامات أُخَر، كتظليل الغمامة له في الصّيف القائظ - في طريق كربلاء
- وكان بصحبته جمع من أجلّاء تلامذته، كالشّيخ حسين نجف. وقد قال تلميذه السيد محمّد
جواد العاملي من قصيدة له في مدحه:
لكَ المعجزاتُ البيّنات أقلّها
|
يقيم
على ساق الهدى كلّ مقعد
|
رعايته للفقراء
كان السّيد بحر العلوم على
جانبٍ كبير من العطف والرّحمة على الفقراء، يتحسّس مشاكلهم، ويحرص على رعايتهم رعاية
شاملة، من ذلك ما ذُكر من أنّ السّيد محمّد جواد العاملي – تلميذه المذكور آنفاً -
كان يتعشّى - ذات ليلة - إذ بعث إليه السّيد مهدي يدعوه للحضور إليه بسرعة، فترك عشاءه
وحضر بين يديه. فلمّا رآه السيّد أخذ يؤنّبه بكلمات شديدة، وذكر له أنّ أحداً من إخوانه
وجيرانه من أهل العلم - وسمّاه له - كان يأخذ كلّ ليلة من البقّال «قسباً» [تمراً
يابساً] لِقُوت عياله، وأنّ لهم قرابة الأسبوع لم يذوقوا الحنطة والأرزّ، وأنّه في
هذا اليوم ذهب إلى البقّال ليأخذ القسب، فامتنع البقّال من إعطائه لثقل دينه، فظلّ
- هذه اللّيلة - هو وعياله وأطفاله بلا عشاء. فأخذ السّيد محمّد جواد يعتذر إلى السّيد
مهدي بعدم علمه بالموضوع، فقال له السّيد: لو علمتَ بحاله - وتعشّيت ولم تلتفت إليه
كنت كافراً، وإنّما أغضبني عليك عدم تجسّسك عن إخوانك، وعدم علمك بحالهم.
فأمر له السّيد بـ «صينيّة»
كبيرة فيها أنواع الأكل، «وصرّة» من المال على أن يوصلها إلى ذلك الرجل، ويتعشّى معه
ويستقرّ، ويأتيه بالخبر حتّى يتعشّى السّيد، وبقي عشاؤه أمامه لم يتناول منه شيئاً،
حتّى رجع السّيد العاملي من عند ذلك الرّجل،
وأخبره باستقراره وفرحه بالطعام والمال، فعندئذ تناول السّيد عشاءه.
هذهِ مِن عُلاه
إحدى المَعالي
|
وعلى هَذهِ فقِسْ
ما سواها
|
مساجلاته الأدبيّة
بالرّغم من عظمة السيّد
بحر العلوم في ميادين العلم، ووصوله إلى مرتبة رفيعة من الزّهد والتّقوى، فقد كان على
جانب كبير من أريحيّة الأدب ولطف المساجلة والإخوانيّات. ومن ذلك: أنّ المولى محمّد
مهدي النراقي - صاحب (جامع السّعادات) - كتب إليه من كاشان بهذين البيتين:
ألا قُل لسكّان أرض الغريّ
|
هنيئاً لكم في الجنان
الخلودُ
|
أفيضوا علينا من
الماءِ فيضاً
|
فإنّا عطاشى وأنتُم
ورودُ
|
فأجابه السيّد مهدي:
ألا قل لمولى يرى
مِن بعيد
|
ديارَ الحبيبِ بعينِ
الشهودِ
|
لكَ الفضلُ من شاهدٍ
غائب
|
على شاهدٍ غائب
بالصّدودِ
|
فنحن - على القرب
- نشكو الظَّما
|
وفُزْتُم - على
بُعْدِكُم - بالورودِ
|
وله
قدّس سرّه في الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه الشّريف:
قالوا: سمعنا بالذي
قلتم فلِمَ
|
لمْ يستبن حتّى
يراه الناظرُ
|
قلنا لهم: سرّ الإله
ونوره
|
جُمِعا به فهو الخفيّ
الظاهرُ
|
مؤلّفاته
كان السّيد بحر العلوم على
عظمته في العلم والتّحقيق - قليل التأليف لانشغاله بالتّدريس والزعامة الدينيّة، ولكثرة
أسفاره في سبيل أداء رسالته الإسلاميّة، ولشدّة احتياطه ودقّة مسلكه وتثبّته في مباحث
النظر والاجتهاد، ولأنّه كان يهدف إلى الابتكار في التّصنيف والإبداع فيه. ومع ذلك
فقد احتفظ التأريخ العلمي له بيسير من المؤلّفات المختلفة المواضيع، منها:
1 - كتاب (المصابيح)، في العبادات والمعاملات
من الفقه، وقد أكثر النّقل عنه كبار الفقهاء والمحقّقين منذ عصره حتى اليوم.
2 – (الدرّة النّجفية)، منظومة في بابَي الطّهارة
والصّلاة من الفقه، يتجاوز عدد أبياتها الألفين، وقد أكثر صاحب (الجواهر) من الاستشهاد
بأبياتها.
3 – (مشكاة الهداية)، هي منثور (الدرّة
النجفيّة)، لم يبرز منها إلّا كتاب الطّهارة.
4 – (تحفة الكرام في تاريخ مكّة والبيت الحرام).
5 - شرح جملة من أحاديث كتاب (التّهذيب) للشّيخ
الطوسي.
6 – (الفوائد الأصوليّة).
7 - رسالة في مناسك الحجّ والعمرة.
8 - حاشية وشرح على طهارة (الشّرائع) للمحقّق
الحلّي.
9 - رسالة في قواعد أحكام الشّكوك.
10 - رسالة في انفعال الماء القليل.
11 - رسالة في الفِرق والمِلل.
12 - رسالة في الأطعمة والأشربة.
13 - الدرّة البهيّة في نظم بعض المسائل الأصوليّة.
14 - رسالة في مناظرته لليهود.
15 - ديوان شعر كبير، يناهز
الألف بيت، أغلبه في مدح ورثاء أهل البيت عليهم السّلام.
16 – (الفوائد الرجاليّة)، يحتوي على كثير من
الفوائد والتّحقيقات الرجاليّة القيِّمة، وعلى تراجم عدد كبير من رجال الحديث والرواية.
وفاته
توفّي السّيّد مهدي بحر
العلوم في شهر رجب من سنة 1212 للهجرة، وهو في ذروة عطائه العلمي والاجتماعي، وهو في
السّابعة والخمسين من عمره، وكان لخبر وفاته الصّدى الواسع في العالم الإسلامي، وكان
له تشييع مهيب في شوارع مدينة النجف، ودُفن في جوار مرقد الشّيخ أبي جعفر الطّوسي.