النُّخَب العربية في حضرة المال السعودي*
_____ د. فخري مشكور _____
مفهوم، وربّما مهضوم، أن
يَقتُل الإنسانُ أخاه الإنسان خشيةَ أن يُقتَل. «إن لم تَقتل قتلناك»؛ معادلة اعتمدتها الدكتاتوريّات في إدارتها لأنظمة
القتل من جيوش في السّاحات، أو قوى أمن في الزنزانات.. القتل أوامر واجبة التنفيذ،
مَن يعصها يقتله من يقف جنبه، أو من يقف فوقه في تراتبيّة النظام العسكريّ أو
الأمنيّ الذي يحمي الدكتاتور.
معادلة «إن لم تَقتل
قتلناك» عاشت عليها دكتاتوريات عريقة من ستالين النموذج إلى صدام النموذج. الجندي أو
عنصر الأمن يَقتل خشية أن يُقتل من منتسب آخر لنفس النظام، وهذا المنتسِب الآخَر
أيضاً يقتل من لم يَقتُل خشية أن يقتله منتسب ثالث.. وهكذا تستمرّ سلسلة «القتل»
مع سلسلة «الخشية من القتل» إلى أن تصل إلى الدائرة الضيّقة المحيطة بالدكتاتور
والمتكوّنة من بضعة أفراد يَقتلون خشية أن يَقتلهم الدكتاتور نفسه.. وهكذا ينتشر
القتل ليقضي على البلاد والعباد ولا يبقى إلّا الدكتاتور والأموات الأحياء، الذين
وصفهم بدويّ الجبل أروع وصف بقوله
:
نحن
موتى! وشرُّ ما يفعله الطّغيانُ
|
موتى
على الدّروبِ تسيرُ
|
نحن
موتى! وإن غدونا ورحنا
|
والقصور
المشَيّدات قبورُ
|
نحن
موتى! يُسِرُّ جارٌ لجارٍ
|
مُستريباً
مَتى يكون النّشورُ؟
|
لهذه الخطورة أباحت الشّريعة
الإسلاميّة لمَن يتعرّض للقتل أن يتحّلل من العديد من قيودها، إلّا قيداً واحداً،
هو: القتل. يجوز لك أن تفعل أشياء كثيرة لكي تنجو من القتل، لكن لا يجوز لك أن
تقتل غيرك لتنجو من القتل. المشرِّع الإسلامي يعرف أنّ إباحة القتل للنّجاة من
القتل تؤدّي إلى قتل الجميع.
لكن هناك ما هو أخطر من
القتل في إطالة عمر الدكتاتوريات واستمرار القتل والإبادة.. إنّها آليّة أخرى أقوى
تأثيراً وأوسع نطاقاً من القتل. إنّها المال، نعم المال، هذه القوة النّاعمة التي
تجعل الجياع المضطرّين كما الطّامعين المختارين يقتلون لكي يحصلوا عليه.
القتل لا يؤثّر إلّا في
الخاضعين لسلطة الدكتاتور، وداخل حدود مُلكه، أمّا المال فهو قوّة عابرة للحدود،
عابرة للقارّات، عابرة للجنسيّات والمذاهب والأديان والأيديولوجيّات.. بل عابرة
للأفراد إلى المنظّمات والحكومات..
نعم، بالمال لا بالقتل
استمرّت دكتاتوريّة معاوية التي حكمت بلداناً وشعوباً لا يستطيع القتل أن يُخضع
ربعها أو عُشرها، فكان «إسقاط العطاء» آلية سهلة لإخضاع شعوب بكاملها.
أمّا ملك الريّ، وقيادة
الجيش، والاستيزار، والأُعطيات والجوائز، فهي تجليّات أخرى لقوّة المال الناعمة
التي تحشّد
بعضُ مَن عاصرَ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله ليضعَ أحاديث تُشَرعِن اغتصاب
الحاكم للسّلطة، وتحقن الشعب بالمورفين المقدّس لكي يَخضع له، ولو جلدَ ظهره وأخذ
ماله...
والمال هو الذي جعل عمر
بن سعد يقود الجيش الذي قتل الإمام الحسين عليه السلام، وكذلك الجنود الذين شاركوا
إمّا طمعاً بالجائزة، وإمّا خشية إسقاط عطائهم.
خارج حدود سلطة
الدكتاتور يجنِّد المال لخدمة القتل آلافاً مؤلّفة من إعلاميّين ومثقّفين اشترتهم
السّعودية على مدى عقود، فإذا بهم يشكّلون اليوم ثمانين بالمائة من الإعلام العربيّ.
وبالمال اشترت فقهاء
وشيوخاً تحوّلوا من سنّة إلى وهّابيّين ينشرون الفكر الذي تحتاجه المملكة الوهّابيّة
الفلوسيّة في العالم الإسلاميّ، لكي تحوّل مرجعيّته من «الأزهر» و«الزيتونة»
وأمثالهما إلى الفقهاء البدو العميان والعوران الذين يفتون بضلال مَن يعتقد بكرويّة
الأرض، ويحرّمون الانتخابات، ويهدرون دم المعارضة داخل المملكة، ويُفتون بالجهاد
خارجها.
بالمال اشترت السعوديّة حكومات
دول كبيرة مثل مصر والباكستان والأردن والمغرب.
وبالمال اشترت «الجامعة
العربية»، و«منظّمة المؤتمر الإسلامي»، وأخيراً «مجلس الأمن» الذي يتجنّب - ولأوّل
مرة في تاريخ النزاعات - الإشارة إلى ضرورة وقف إطلاق النّار في اليمن!
بالمال اشترت السعودية
موقف بريطانيا التي يعتمد نصفُ اقتصادها
على الودائع السعوديّة، والعقود السعوديّة، والاستثمارات السعوديّة.
وبالمال اشترت موقف
فرنسا التي باعت لمملكة الشّرّ أسلحة لا تحتاجها، وهِبة سعودية للبنان لا تصلح للدّفاع
عن لبنان بقدر ما تصلح للدفاع عن سُمعة السياسيّين الذين اشترتهم من طبقة
المتعاطفين مع «إسرائيل» و«جبهة النصرة».
وبالمال السعوديّ تدور
ماكنة المصارف الأمريكيّة، التي تنهار في نهار لو سحبت المملكة الفلوسيّة جزءاً
يسيراً من أرصدتها فيها.
بالمال، وبالمال وحده
اشترت مملكة الشرّ جميع هؤلاء وغيرهم لكي تصل إلى تأييد عارم أو سكوت حاسم على
جريمتها في اليمن، فتمارس أبشع صور قتل المدنيّين وشرَّ ألوان هدْم البنية التحتيّة،
وأقسى حصار غذاء ودواء ومحروقات على شعب كامل. ولا تجد منبراً واحداً - إلّا ما
ندر- يغطّي (فقط يغطّي) هذه المجزرة الشاملة من دون أن يبرّرها.
لنترك الإعلام العربي
وعاصمته بيروت، ولنأخذ مثالاً من إذاعة لندن التي يرى كثيرون أنّها حياديّة
وموضوعيّة، وندقّق في الخبر التالي:
«مزاعم عن سقوط مدنيّين في غارات التحالف على
الحوثيّين.. في إطار ما يسمّيه الحوثيّون بالعدوان السعودي عليهم».
إذاً، سقوط المدنيّين هي
مزاعم لم يتسنَّ لمؤسسة (بي بي سي) التحقّق منها!!
والقصف السعودي على
اليمن هو عدوان فقط برأي الحوثيّين، وهو فقط يطال الحوثيّين!!
إلى هذا الحضيض تنحطّ أعرق
مؤسّسة إعلاميّة في العالم بسبب المال.
الحكّام العرب، والسياسيّون
العرب، والإعلاميّون العرب، والمحلّلون السياسيّون العرب، والفقهاء العرب، والمفكّرون
العرب و.. و.. كلّهم - إلّا القليل القليل
- إمّا ساكتون، وإمّا يتبجّحون ببطولة دولة ذاقت الذلّ والهوان بسكوتها على «الرّصاص
الإسرائيليّ المصبوب» على غزّة، والساكتة على البُصاق المسكوب في عيون ملوكها
وشيوخها، والحذاء الأمريكي المرفوع على رأسها لو تكلّمت، هؤلاء المحلّلون المتحلّلون
من كلّ القِيم يمدحون شجاعة القوات السعودية التي تقصف شعباً أعزل، وهي تعلم أنّ أخسّ
أنواع الجبن هو الاستفراد بالضعيف.. هؤلاء المتبجّحون بالحسم والعزم تجاه الشعب
اليمني ناسين الهزيمة والسّخيمة أمام العدوّ «الإسرائيلي»، كيف يفتخرون بطائرات
الفانتوم التي اشتروها بالمال، كما يفخر العنّين بفحولة أبيه.. ترى ماذا كانوا
يقولون لو كانت الفانتوم صناعة سعوديّة؟ وماذا كانوا فعلوا لو كانت السعوديّة تصنع
بنفسها طائرات من دون طيّار؟
هؤلاء المتبجّحون الذين
يتجاهلون سكوت مملكة الشرّ على احتلال جُزرها في البحر الأحمر، وسكتوا أيّام الشاه
على جزر الإمارات، ما بالهم يتباهون بقصف البنية التحتيّة والمناطق السكنيّة؟
ألا يعلمون أنّ الجبان
يعوّض هزيمته أمام الأقوياء بالانقضاض على الضعفاء؟
إذاً لماذا يقفون مع
القويّ الظالم ضدّ الضعيف المظلوم؟ هل يخافون من القتل؟ أم يطمعون بالمال، خشية أن
يسقط عطاؤهم؟
أرأيتُم أنّ المال أقوى
من القتل في خدمة الدكتاتوريّات؟ ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ
اسْتَغْنَى﴾ العلق:6-7.
___________________________
* منقول معدّل عن صحيفة
الراية: الصحيفة الدولية لأتباع أهل البيت عليهم السلام