الملف

الملف

منذ 5 أيام

السّبط الأكبر، ثاني أئمّة المسلمين الاثنَي عشرالإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام


 

اقرأ في الملف

استهلال

سيكونُ بَعدي هادياً مَهْدِيَّاً

«نحلتُه حِلمي وهيَبتي»

الشيخ حسين كوراني

خصائص حسنيّة

الشيخ راضي آل ياسين رحمه الله

صلح الإمام الحسن عليه السلام

آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه

 

استهلال

حدَّث أبو يعقوب يوسُفُ بنُ الجرّاح عن رجاله عن عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ:

بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله فِي جَبَلٍ (أَظُنُّهُ حَرَى أَوْ غَيْرَهُ) وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ عليه السّلام، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ،

وَأَنَسٌ حَاضِرٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَحُذَيْفَةُ يُحَدِّثُ بِهِ.

 إِذْ أَقْبَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهما السّلام يَمْشِي‏ عَلَى‏ هُدُوءٍ وَوَقَارٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله، وَقَالَ:

 إِنَّ جَبْرَئِيلَ يَهْدِيهِ، وَمِيكَائِيلُ يُسَدِّدُهُ، وَهُوَ وَلَدِي ".." وَضِلْعٌ مِنْ أَضْلَاعِي، هَذَا سِبْطِي، وَقُرَّةُ عَيْنِي بِأَبِي هُوَ.

فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وَقُمْنَا مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ:

 أَنْتَ تُفَّاحَتِي وَأَنْتَ حَبِيبِي وَمُهْجَةُ قَلْبِي

وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَمَشَى مَعَهُ وَنَحْنُ نَمْشِي حَتَّى جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ،

نَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وَهُوَ لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ:

 أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي هَادِياً مَهْدِيّاً

هَذَا هَدِيَّةٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِي يُنبِئ عَنِّي،

وَيُعَرِّفُ النَّاسَ آثَارِي وَيُحْيِي سُنَّتِي وَيَتَوَلَّى أُمُورِي فِي فَعْلِهِ،

 يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِ فَيَرْحَمُهُ، رَحِمَ اللهُ مَنْ عَرَفَ لَهُ ذَلِكَ وَبَرَّنِي فِيهِ وَأَكْرَمَنِي‏ فِيهِ..

(انظر: الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي؛ والعدد القوية لابن يوسف الحلي)

 


«نَحَلْتُهُ حِلْمي وَهَيْبَتِي»

السِّبطُ الأكبر الإمام الحسن عليه السلام*

§     الشيخ حسين كوراني

في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك ذكرى ولادة السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ولأن الواجب على المؤمن معرفة المعصومين حقّ المعرفة، يتركّز الحديث هنا حول الخطوط العامّة لمعرفة الإمام الحسن عليه السلام حقّ المعرفة.

 

أيّ سرٍّ في الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فإذا الأمّة بأجيالها خاشعة في محراب عظَمته المحمدية الإلهية؟

قد يتصوّر البعض أنّ السبب في حبّ الأمّة للإمام الحسين عليه السلام هو مواقفه في كربلاء، وأن هذا هو السبب في تعلّق قلوب الأجيال بالإمام الحسين عليه السلام؟

لكنّ الإمام الحسن عليه السلام لم يقف مثل هذه المواقف الجهادية، وشاركه الإمام الحسين عليه السلام مواقفَه كلّها، والتزم بإمامته، وظلّ بعده عشر سنين ملتزماً بما سُمّي الصلح مع معاوية؟

فما هو السرّ في الإمام الحسن عليه السلام الذي أسقطَ من القلوب كلّ بهارج الإمبراطورية الأموية، وكلّ زخارف وإغراءات تسلّط آل أبي سفيان، وكلّ دهاء الشيطان معاوية، فإذا الأمة بأجيالها مع الإمام الحسن ضدّ معاوية وآل أبي سفيان؟

يعمّق السؤال ويزيده إلحاحاً:

1) أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله في حوالي السابعة من عمره.

2) وأنّه عليه السلام استُشهد في السابعة والأربعين من عمره الشريف.

3) وأبرز ما يعرَف عنه هو الصلح مع معاوية.

4) وقد تعرّض لأعتى حملات التحريف والوضع والافتراء.

 

والجواب: نجد السرّ في أمرَين:

الأول: المقوّمات الشخصية للإمام الحسن عليه السلام.

الثاني: الإعجاز النبويّ في التعريف به عليه السلام.

ولا شكّ أنّ المقوّمات الشخصية، والخصائص النفسيّة هي الأصل، فلولاها لما ركّز عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ما المقصود بالمقوّمات الشخصية؟ المقصود هو العلم والعمل:

والمقصود بالعِلم:

1) هو معرفة الله تعالى؛ وحدانيّته سبحانه، وأخلاقه أي صفاته، وقدرته عزّ وجلّ، وأنّ إليه الرُّجعى، وكلٌّ آتٍ الرحمنَ فرداً، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن.

2) ومعرفة النفس والإنسان.

3) ومعرفة الوجود كلّه.

والمقصود بالعمل:

1) عبادة الله تعالى حقّ عبادته.

2) التخلّق بأخلاقه سبحانه حقّ التخلّق.

ويجمعهما قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ الحجر:99.

كما يجمع العلم والعمل ومتفرّعاتهما مصطلح التقوى: ﴿.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..﴾ الحجرات:13. لا علاقة لهذا المقياس بالعمر إلّا في علم الناس، أما في علم الله تعالى فلا، هو سبحانه بكلّ شيءٍ عليم.

عَلِمَ بوجود مقياس التقوى في نبيّ الله عيسى فأوحى إليه ليَقول، وقال سبحانه على لسانه: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ مريم:30.

وأمر رسولَه صلّى الله عليه وآله أن يقول في الحسنَين عليهما السلام وهما - بِالسِّنِّ - صغيران:

- «إِمَامَانِ قَامَا أَوْ قَعَدَا».

- «أَذْهَلَنِي حُبُّ هَذَيْنِ الغُلَامَينِ أَنْ أُحِبَّ أَحَدَاً بَعْدَهُمَا».

 

الخطوط العامّة لمعرفة الإمام الحسن عليه السلام حقّ المعرفة

الأوّل: أن عظَمة الإمام الحسن محمّدية، ويتفرّع عليها خطّان مركزيان:

1) البدء بالتعرّف عليه من مرحلة ما قبل خلق النبيّ آدم على نبيّنا وآله وعليه السلام.

2) وأنّ الإمام الحسن - لمحمّديّته وبسببها - أعظمُ من جميع الأنبياء، باستثناء جدّه سيّد النبيّين صلّى الله عليه وآله.

الثاني: أن لعظَمة الإمام الحسن المحمّدية بُعدَين: بُعد العبودية لله تعالى والقرب منه سبحانه، وبُعد المهمّة التي أوكلها الله تعالى إليه في دعوة الناس – بأجيالها - إلى عبادة الله تعالى وحِفظ استمرار التوحيد.

الثالث: موقع صلح الإمام الحسن عليه السلام ممّا عُرف بالصلح مع معاوية، وسيكشف البحث الموضوعيّ: أنّ بقاء الإسلام حَسَنيٌّ حُسَينيّ، ولولا صبرهما عليهما السلام في زمن معاوية لما كانت كربلاء. كان الخطر الذي ستواجهه الأمّة سيمنع من إمكان الإصلاح الذي قام به الإمام الحسين، ومهّدا له معاً عليهما السلام.

في النشأة الأولى

 

* الأنوار الخمسة برواية صفوان الجمال عن الإمام الصادق عليه السلام:

تحت عنوان (توبة آدم)، أورد القاضي النعمان في (شرح الأخبار):

«صفوان الجمّال، قال: دخلتُ على أبي عبد الله، جعفر بن محمّد عليه السلام، وهو يقرأ هذه الآية: ﴿ فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ البقرة:37.

ثمّ التفت إليّ فقال: يا صفوان، إنّ الله تعالى ألهمَ آدمَ عليه السلام أن يرميَ بطَرْفِه نحو العرش، فإذا هو بخمسة أشباحٍ من نور، يُسبّحون الله ويقدّسونه.

فقال آدم: يا ربّ مَن هؤلاء؟

قال: يا آدم، صَفوتي من خِلقي، لولاهم ما خلقتُ الجنّة ولا النار، خلقتُ الجنّةَ لهم ولمَن وَالاهم، والنارَ لمَن عاداهم. لو أنّ عبداً من عبادي أتى بذنوبٍ كالجبال الرواسي، ثمّ توسّل إليّ بحقّ هؤلاء لعَفوتُ له.

فلمّا أن وقعَ آدم في الخطيّة، قال: يا ربّ بحقّ هؤلاء الأشباح اغفِر لي، فأوحى اللهُ عزّ وجلّ إليه: إنّك توسّلتَ إليّ بصَفوتي وقد عفوتُ لك.

قال آدم: يا ربّ بالمغفرة التي غفرتَ إلّا أخبرتني مَن هم.

فأوحى الله إليه: يا آدم، هؤلاء خمسةٌ من وُلدك، لعظيمِ حقّهم عندي اشتققتُ لهم خمسةَ أسماءٍ من أسمائي، فأنا المحمود وهذا محمّد، وأنا العليّ وهذا عليّ، وأنا الفاطرُ وهذه فاطمة، وأنا المُحسن وهذا الحسن، وأنا الإحسانُ فهذا الحسين».

في هامشه: (في فرائد السمطين 1 / 37: وأنا الإحسانُ وهذا الحسَن، وأنا المُحسِن وهذا الحسين).

(القاضي النعمان، شرح الأخبار: ج 3/ ص 7)

* الأنوار الخمسة برواية أبي هريرة:

تحت عنوان (الأنوار الخمسة)، أورد القاضي النعمان في كتابه (شرح الأخبار) عن أبي هريرة الرواية:

«عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول:

لمّا خلقَ الله ُعزّ وجلّ آدمَ عليه السلام ونفخَ فيه من روحه، نظرَ آدم عليه السلام يمنةَ العرش، فإذا من النور خمسةُ أشباحٍ على صورته رُكَّعا سُجَّداً.

فقال: يا ربّ هل خلقتَ أحداً من البشر قبلي؟

قال: لا.

قال: فمَن هؤلاء الذين أراهم على هَيئتي وعلى صورتي؟

قال: هؤلاء خمسةٌ من وُلدك، لولاهم ما خلقتُك، ولا خلقتُ الجنّة ولا النار، ولا العرشَ ولا الكرسيّ، ولا السماءَ ولا الأرض، ولا الملائكةَ ولا الإنسَ ولا الجنّ.

هؤلاء خمسةٌ اشتققتُ لهم أسماءَ من أسمائي. فأنا المحمود وهذا محمّد، وأنا الأعلى وهذا عليّ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا الإحسانُ وهذا حسن، وأنا المحسِن وهذا الحسين. آليتُ بعزّتي أن لا يأتيني أحدٌ بمثقال حبّةٍ من خردلٍ من حبّ أحدٍ منهم إلّا أدخلتُه جنّتي، وآليتُ بعزّتي أن لا يأتيني أحدٌ بمثقال حبّةٍ من خردلٍ من بُغضِ أحدٍ منهم إلّا أدخلتُه ناري، ولا أُبالي.

يا آدم، وهؤلاء صَفوَتي من خَلقي، بهم أُنجي وبهم أُهلك».

في الهامش: (وأضاف في فرائد السمطين 1 / 37: فإذا كان لكَ إليّ حاجة فبهؤلاء توسّل. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: نحن سفينةُ النجاة، مَن تعلّقَ بها نجا، ومَن حادَ عنها هلك، فمَن كان له إلى الله حاجة؛ فليَسأل بنا أهلَ البيت).

(القاضي النعمان، شرح الأخبار: ج 2/ ص 500)

في هذه النشأة

الولادة:

* في (أُسد الغابة) لابن الأثير: «.. وُلِدَ الحسنُ بن عليّ بن أبي طالب، وأمّه فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، في النصف من رمضان، سنة ثلاث من الهجرة..».

(ج 2/ ص 10)

* وفي (عِلل الشرائع) للشيخ الصّدوق: «عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلّام، قال: أَهدى جبرئيلُ إلى رسول الله صلّى اللهُ عليه وآلِه اسمَ الحسن بن عليّ عليه السلام، وخُرقةَ حريرٍ من ثياب الجنّة، واشتَقَّ اسمَ الحسَين من اسمِ الحَسن عليهما السّلام».

(ج 1/ ص 139)

الشهادة:

في (أسد الغابة) لابن الأثير: «وقد اختُلف في وقت وفاته، فقيل: تُوفّي سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وكان يخضبُ بِالوَسْمَة، وكان سببُ موته أنّ زوجته جُعدة بنت الأشعث بنِ قيس سقَتْه السّمَّ، فكان تُوضَع تحته طستٌ وتُرفَعُ أخرى نحو أربعين يوماً، فمات منه».

(ج 2/ ص 14)

 

 

مختارات من حديث الرّسول صلّى الله عليه وآله

(لَقَدْ أَذْهَلَنِي هَذَانِ الْغُلَامَانِ)

* في (كامل الزيارات) لابن قولويه:

1) «عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ يَقُولُ: يَا عَلِيُّ، لَقَدْ أَذْهَلَنِي هَذَانِ الْغُلَامَانِ - يَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عليهما السلام - أَنْ أُحِبَّ بَعْدَهُمَا أَحَداً أَبَداً، إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُحِبَّهُمَا، وَأُحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا».

2) «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ لِي: يَا عِمْرَانُ، إِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْقِعاً مِنَ الْقَلْبِ، وَمَا وَقَعَ مَوْقِعَ هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ مِنْ قَلْبِي شَيْ‏ءٌ قَطُّ. فَقُلْتُ: كُلُّ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَا عِمْرَانُ، وَمَا خَفِيَ عَلَيْكَ أَكْثَرُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِحُبِّهِمَا».

3) «عَنْ‏ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ بِحُبِّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَلَيهِمَا السّلَامُ، فَأَنَا أُحِبُّهُمَا وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا لِحُبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ إِيَّاهُمَا».

(ص 112 – 113)

* ومن صحيح مسلم:

4) «.. بإسناده عن أبي هريرة، عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ، قال للحَسن: إِنِّي أُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه‏».

5) «وعنه، بإسناده عن البراء بن عازب، قال: رأيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ، والحَسنُ عَلَى عاتقِه، وهو يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ».

***

(.. فَلَهُ هَيْبَتِي وَسُؤْدُدِي)

* في (شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور)، قال:

6) «روى ابن عساكر، وابن مندة، عن فاطمة عليها السّلام أنّها أَتَتْ بابنَيها، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَانِ ابْنَاكَ فَوَرِّثْهُمَا شَيْئاً: فَقَالَ: أَمَّا حَسَنُ، فَلَهُ هَيْبَتِي وَسُؤْدُدِي، وَأَمَّا حُسَيْنُ فَلَهُ جُرْأَتِي وَجُودِي»‏.

وفي رواية: «أَمَّا الْحَسَنُ فَقَد نَحَلْتُهُ حِلْمي وَهَيْبَتِي، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَقَد نَحَلْتُهُ نَجْدَتِي وَجُودِي». (ج 1/ ص 160)

* وفي (اللّمعة البيضاء) للتبريزي:

7) رُوي أنّ فاطمة عليها السّلام أَتَتْ بِهما إلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه، فَقَالتْ: يَا رسولَ اللهِ وَرِّثْ وَلَدَيْكَ، فَقَالَ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ: أَمّا الحَسَنُ فَلَهُ سُؤدُدِي وَعَلائي، وأمّا الحُسَين فَلَهُ سَخاوَتِي وَشَجَاعَتِي ». (ص 210)

***

(ابْنِي هَذا سَيّدٌ)

* في (مناقب الإمام علي عليه السلام) لابن المغازلي:

8) «قوله عليه السلام للحَسن: إِنَّ ابْنِي هَذا سَيّدٌ، يُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْن فِئَتَينِ». (ص 302)

* وفي (المؤتلف من المختلف بين أئمّة السَّلف) للشيخ الطبرسيّ:

9) «عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: إِنَّ ابْنِي هَذا سَيّدٌ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ». (ج 2/ ص 6)

 

* وفي (بحار الأنوار):

10) «من صحيح البخاري، عن صدقة، عن ابن عيينة، عن أبي موسى، عن الحسن أنّه سمع أبا بكرة، قال: سمعتُ النبيّ صلّى الله عليه وآله على المنبر، والحسن إلى جنبه، ينظرُ إلى الناس مرّةً وإلى الحسن مرّة، ويقول: ابْنِي هَذا سَيّدٌ».

(ج 37/ ص 72)

* في (الكافي):

11) «كان نقشُ خاتَم الحسنِ عليه السّلام: العِزَّةُ للهِ».

الإعجاز الإلهي في الإمام الحسن عليه السلام

المعجزة الكبرى في سيرة الإمام الحسن عليه السلام هي إجماعُ الأمّة عبر أجيالها على الوقوف معه ضدّ معاوية والشجرة الملعونة في القرآن.

ومصبّ هذا الإجماع: أنّه الخليفة الشرعيّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله، بل هو من أهل البيت الذين هم:

* من رسول الله صلّى الله عليه وآله.

* عَظَمتُهم محمديّة.

* بهم يُقاس إيمان المؤمن، وصُحبة الصحابيّ.

 * فَهُم حُجَجُ الله تعالى على الخلْق.

عقبات تجاوزتها الأمّة فتحقّق هذا الإجماع

1) صِغَرُ سنّه عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

2) تَولّيه الخلافة الظاهريّة في مرحلة شديدة الحراجة، استُشهد فيها أمير المؤمنين عليه السلام غريباً.

3) اضطراره عليه السلام للصّلح.

4) احتفالُ الشجرة الملعونة في القرآن بأعظم نصرٍ موهومٍ على رسول الله والتوحيد.

5) إطلاقُ الشجرة الملعونة أضخمَ حملة تحريف وتزوير وترهيب وترغيب، كان المستهدف الأوّل خلالها هو الإمام الحسن عليه السلام.

وحول ظروف اضطراره عليه السلام للصّلح: فقد كانت فتنة الأمّة بالمال في أيّام حرب الجمل كبيرة، إلّا أنّها استشرتْ وبضراوة في حرب صفّين إلى حدّ أنّ دنيا الأمّة - أي المال الذي هو مادّة الشّهوات - أصبح أمامَ دينها، أي فضّلت الأمّة المال على الدِّين، أي عبادة المال على التوحيد وعبادة الله تعالى:

يقول الإمام الحسن مؤكّداً هذه الحقيقة:

«.. إِنَّا وَاللَّهِ مَا ثَنَانَا عَنْ أَهْلِ الشَّامِ شَكٌّ وَلَا نَدَمٌ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ أَهْلَ الشَّامِ بِالسَّلَامَةِ وَالصَّبْرِ، فَسُلِبَتِ (فَشِيبَت) السَّلَامَةُ بِالْعَدَاوَةِ، وَالصَّبْرُ بِالْجَزَعِ. وَكُنْتُمْ فِي مُنْتَدَبِكُمْ إِلَى صِفِّينَ وَدِينُكُمْ أَمَامَ دُنْيَاكُمْ، وَقَدْ أَصْبَحْتُمُ الْيَوْمَ وَدُنْيَاكُمْ أَمَامَ دِينِكُم‏، أَلَا وَإنّا لَكُمْ كَمَا كُنّا، وَلَسْتُم لَنَا كَمَا كُنْتُم».

 (إبن الأثير، أُسد الغابة: ج 2/ ص 13)

 

* مختارات من سلسلة من الدروس ألقاها الشيخ حسين كوراني في «المركز الإسلامي» في شهر صفر 1436

كلامُه عليه السلام في القدَر

«كَتَبَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ، إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيهِمَا السَّلامُ:

مِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، إِلَى الْحَسَنِ بْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ - مَعَاشِرَ بَنِي هَاشِمٍ - الْفُلْكُ الْجَارِيَةُ فِي اللُّجَجِ الْغَامِرَةِ، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَأَعْلَامُ الْهُدَى، وَالْأَئِمَّةُ الْقَادَةُ الَّذِينَ مَنِ اتَّبَعَهُمْ نَجَا، وَالسَّفِينَةُ الَّتِي يَؤُولُ إِلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَيَنْجُو فِيهَا الْمُتَمَسِّكُونَ.

قَدْ كَثُرَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ عِنْدَنَا الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ وَاخْتَلَفْنَا فِي الاسْتِطَاعَةِ، فَعَلِّمْنَا مَا الّذِي عَلَيْهِ رَأْيُكَ وَرَأْيُ آبَائِكَ، فَإِنَّكُمْ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلِمْتُمْ، وَهُوَ الشَّاهِدُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، وَالسَّلَامُ.

فَأَجَابَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا:

مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدِ انْتَهَى إِلَيَّ كِتَابُكَ عِنْدَ حَيْرَتِكَ وَحَيْرَةِ مَنْ زَعَمْتَ مِنْ أُمَّتِنَا، وَكَيْفَ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا وَأَنْتُمْ مَعَنَا بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ‏؟

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ لَا مَا تَنَاهَى إِلَيَّ مِنْ حَيْرَتِكَ وَحَيْرَةِ الْأُمَّةِ قِبَلَكَ لَأَمْسَكْتُ عَنِ الْجَوَابِ، وَلَكِنِّي النَّاصِحُ وَابْنُ النَّاصِحِ الْأَمِين.

وَالَّذِي أَنَا عَلَيْهِ: أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ - خَيْرِهِ وَشَرِّهِ - فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ حَمَلَ الْمَعَاصِيَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ فَجَرَ.

إِنَّ اللَّهَ لَا يُطَاعُ بِإِكْرَاهٍ وَلَا يُعْصَى بِغَلَبَةٍ، وَلَمْ يُهْمِلِ الْعِبَادَ سُدًى مِنَ الْمَمْلَكَةِ، وَلَكِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَالِكُ لِمَا مَلَّكَهُمْ، وَالْقَادِرُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَقْدَرَهُمْ، فَإِنِ ائْتَمَرُوا بِالطَّاعَةِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ صَادّاً وَلَا عَنْهَا مَانِعاً، وَإِنِ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَشَاءَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا إِجْبَاراً، وَلَا أَلْزَمَهُمْ بِهَا إِكْرَاهاً. بَلِ احْتِجَاجُهُ، جَلَّ ذِكْرُهُ، عَلَيْهِمْ أَنْ عَرَّفَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلَى فِعْلِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالسَّلَامُ».

(كنز الفوائد، الكراجكي)




خصائصُ حَسَنيّة

أوصافه، عبادته، أخلاقه عليه السلام

الإمام الشيخ راضي آل ياسين (1314 - 1372 هجرية)

لعلّ أبرز ما كُتب حول الإمام الحسن عليه السلام، هو كتاب العالم الجليل الراحل الشيخ راضي آل ياسين، ولفرادته قدّمَ له الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّهما.

من هذا الكتاب المميّز (صلح الحسن عليه السلام) اختارت «شعائر» بعض الخصائص الحَسنيّة.

 

أوصاف الإمام الحسن عليه السلام

«لم يكن أحدٌ أشبهَ برسول الله صلّى الله عليه وآله من الحَسن بن عليّ عليهما السلام خَلْقاً وخُلُقاً وهيئةً وهَدْياً وسُؤدداً».

بهذا وصفه واصفوه. وقالوا:

«كان أبيضَ اللّون مُشرباً بحُمرة، أدعجَ العينَين، سهلَ الخدّين، كثّ اللّحية، جَعْدَ الشَّعر ذا وَفْرَة، كأنّ عُنقَه إبريقُ فضّة، حسَنُ البَدن، بعيدُ ما بين المنكبَين، عظيمُ الكراديس، دقيقُ المَسربة، رَبْعَةٌ ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً».

أو كما قال الشاعر:

ما دبَّ في فــِـــطَنِ الأوهامِ من حَسَنٍ

إلا وكـــــانَ لـــــه الحظُّ الخصوصيُّ

كـــــأنَّ جبهتـــَـه مــــن تحـتِ طُرّته

بـــــدرٌ يتـــــوّجه اللّيـــــل البهــيميُّ

قد جلّ عن طِيبِ أهلِ الأرضِ عنبرُه

ومِسكـــُــهُ فهــــو الطِّيبُ السماويُّ

 

وقال ابن سعد: «كان الحسن والحسين يَخضبان بالسَّواد».

وقال واصل بن عطاء: «كان الحسن بن عليّ عليهما السلام، عليه سيماءُ الأنبياء وبَهاءُ الملوك».

عبادته عليه السلام

حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً، والنجائب لَتُقاد معه، وإذا ذكرَ الموت بكى، وإذا ذكر القبرَ بكى، وإذا ذكر البعثَ بكى، وإذا ذكر الممرَّ على الصّراط بكى، واذا ذكر العرضَ على الله تعالى ذِكرُه شهقَ شهقةً يُغشى عليه منها، وإذا ذكر الجنّة والنار اضطربَ اضطرابَ السليم، وسأل الله الجنّة، وتَعوّذ بالله من النار.

وكان اذا توّضأ، أو إذا صلّى ارتعدتْ فرائصُه واصفرّ لونُه.

وقاسمَ الله تعالى ماله ثلاث مرّات. وخرج من ماله لله تعالى مرّتَين. ثمّ هو لا يمرّ في شيءٍ من أحواله إلا ذكر الله عزّ وجلّ.

قالوا: «وكان أعبدَ الناس في زمانه، وأزهدَهم بالدنيا».

أخلاقه

كان في شمائله آيةَ الانسانية الفضلى، ما رآه أحدٌ إلّا هابَه، ولا خالطَه إنسانٌ إلا أحبّه، ولا سمعَه صديقٌ أو عدوٌّ وهو يتحدّث أو يخطب فهانَ عليه أن يُنهي حديثه أو يسكت.

وقال محمّد بن إسحاق: «ما بلغ أحدٌ من الشّرف بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ما بلغ الحسنُ بن عليّ. كان يُبسَط له على باب داره، فإذا خرجَ وجلس انقطع الطّريق، فما يمرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له، فإذا عَلِمَ قام ودخل بيتَه، فيمرّ الناس».

ونزل عن راحلته في طريق مكّة فمشى، فما من خلق الله أحدٌ إلا نزل ومشى، حتّى سعد بن أبي وقّاص، فقد نزل ومشى إلى جنبه.

وقال مدرك بن زياد لابن عبّاس، وقد أمسكَ للحسن والحسين بالركاب وسوّى عليهما ثيابهما: «أنت أسَنّ منهما تُمسِكُ لهما بالركاب؟». فقال: «يا لُكَع! وما تدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله، أوَليس ممّا أنعمَ الله عليّ به أن أمسكَ لهما وأُسوّي عليهما؟!».

وكان من تواضعه على عظيم مكانته أنه مرّ بفقراء وضعوا كُسَيرات على الأرض، وهم قعودٌ يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: «هَلُمَّ يا ابنَ رسول الله إلى الغداء!»، فنزل وقال: «إنّ اللهَ لا يُحِبّ المتكبّرين». وجعل يأكلُ معهم. ثمّ دعاهم إلى ضيافته فأطعمَهم وكساهم.

وكان من كرمه أنه أتاه رجلٌ في حاجة، فقال له: «اكتُب حاجتَك في رُقْعَةٍ وارفَعها إلينا». قال: فرفعَها إليه فأضعفَها له، فقال له بعضُ جلسائه: «ما كانَ أعظمَ بركة الرّقعة عليه يا ابنَ رسول الله!».

فقال: «بركتُها علينا أعظَم، حينَ جُعِلْنَا للمَعروفِ أهلاً. أمَا علمتَ أنّ المعروفَ ما كان ابتداءً مِنْ غَيرِ مَسْأَلَة، فَأَمّا مَنْ أَعْطَيتَه بعدَ مسألة، فإنّما أعطيتَه بما بذلَ لكَ من وجهِه. وعَسى أن يكونَ باتَ ليلتَه مُتَمَلْمِلاً أَرِقاً، يَميلُ بينَ اليأسِ والرّجاء، لا يعلمُ بما يرجِعُ من حاجتِه: أَبِكآبَةِ الرّدِّ، أم بِسُرورِ النُّجْحِ، فَيَأتيكَ وفرائصُه تَرعد، وقلبُه خائفٌ يَخفُق، فإنْ قضيتَ له حاجتَه فيما بذلَ من وجهِه، فإنّ ذلكَ أعظمُ ممّا نالَ من معروفِك».

وجاءه بعض الأعراب. فقال: «أَعطُوه ما في الخزانة!». فوُجد فيها عشرون ألف درهم. فدُفعت إليه، فقال الأعرابيّ: «يا مولاي، ألا تركتَني أبوح بحاجتي، وأنشرُ مِدحتي؟». فأنشأ الحسن يقول:

نحـــــنُ أُنـــــاسٌ نَوالُنا خُضْل

يَرتَعُ فيــــه الرّجاءُ والأمَلْ

تَجـــــودُ قبـــلَ السّؤالِ أنفسُنا

خوفاً على ماءِ وجهِ مَن يَسَلْ

 

وروى المدائنيّ، قال: «خرج الحسنُ والحسين وعبدُ الله بن جعفر حُجّاجاً ففاتَتهم أثقالُهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا عجوزاً في خِباء فاستسقوها، فقالت: هذه الشُّوَيهة احلبوها وامتذقوا لبنَها، ففعلوا. واستطعموها، فقالت: ليس إلّا هذه الشاة، فليَذبحها أحدُكم. فذبحها أحدُهم، وكشطَها. ثمّ شَوتْ لهم من لحمها فأكلوا. وقالوا [من نوم القيلولة] عندَها، فلمّا نهضوا، قالوا: نحن نفرٌ من قريشٍ نريدُ هذا الوجه، فاذا عدنا فأَلِمّي بنا، فإنّا صانعون بك خيراً. ثمّ رحلوا.

فلمّا جاء زوجها، أخبرته، فقال: ويحك! تذبحين شاتي لقومٍ لا تعرفينهم، ثمّ تقولين: (نفرٌ من قريش). ثمّ مضتِ الأيام، فأضرّتْ بها الحال، فرحلت حتّى اجتازت بالمدينة، فرآها الحسنُ عليه السلام فعرفَها، فقال لها: أَتعرفينَني؟ قالت: لا. قال: أَنَا ضَيْفُكِ يَوْمَ كذا وكذا، فأمرَ لها بألف شاةٍ وألف دينار، وبعثَ بها إلى الحسين عليه السلام فأعطاها مثلَ ذلك، ثمّ بعثَها إلى عبد الله بن جعفر، فأعطاها مثل ذلك».

من مناقبه عليه السلام

أنّه سيّد شباب أهل الجنة، وأحد الاثنَين اللّذَين انحصرتْ ذريّة رسول الله صلّى الله عليه وآله فيهما، وأحدُ الأربعة الذين باهلَ بهم النبيُّ نصارى نجران، وأحد الخمسة (أصحاب الكساء)، وأحد الاثنَي عشر الذين فرضَ الله طاعتَهم على العباد، وهو أحد المطهَّرين من الرّجس في الكتاب، وأحد الذين جعلَ الله مودّتهم أجراً للرّسالة، وجعلَهم رسولُ الله أحدَ الثّقلَين اللّذَين لا يضلّ مَن تمسّك بهما. وهو ريحانةُ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحبيبه الذي يحبّه ويدعو اللهَ أن يحبَّ مَن أحبَّه. وله من المناقب ما يطول بيانه، ثمّ لا يُحيط به البيان، وإن طال.

يا بُنيّ، أنتَ وليُّ الأمرِ، ووَليُّ الدّم

وأمره أبوه أمير المؤمنين - منذ اعتلّ - أن يصلّي بالنّاس، وأوصى إليه عندَ وفاته قائلاً: «يا بُنيّ، أنتَ وليُّ الأمر، ووَليّ الدّم»، وأشهدَ على وصيّته الحسين ومحمداً وجميعَ وُلده ورؤساءَ شيعته وأهلَ بيته، ودفع إليه الكتابَ والسّلاح، ثمّ قال له: «يا بُنَيّ، أمرَني رسولُ الله أنْ أُوصِي إليكَ، وأنْ أدفعَ إليك كُتُبي وسِلاحِي، كَما أوصَى إليّ رسولُ الله ودفعَ إليّ كُتُبَه وسلاحَه. وأمرَني أن آمرَك، اذا حضركَ الموتُ أنْ تدفعَها إلى أخيكَ الحسين». ثمّ أقبل على الحسين، فقال: «وأمرَك رسولُ الله أن تدفعَها إلى ابنِك هذا». ثمّ أخذ بيد عليّ بن الحسين، وقال: «وأمرَك رسولُ الله أن تدفعَها إلى ابنك محمّد. فَأَقْرِئه من رسول الله ومنّي السّلام».

 

البَيعة

وبُويع بالخلافة بعد وفاة أبيه عليهما السلام، فقام بالأمر - على قِصَر عهده - أحسنَ قيام، وصالح معاوية في الخامس عشر من شهر جُمادى الأولى سنة 41 - على أصحّ الروايات - فحفظَ الدِّين، وحقنَ دماء المؤمنين، وجرى في ذلك وفق التعاليم الخاصّة التي رواها عن أبيه، عن جدّه صلّى الله عليهما. فكانت خلافته «الظّاهرة» سبعة أشهر وأربعةً وعشرين يوماً.

ورجع بعد توقيع الصّلح إلى المدينة، فأقام فيها، وبيتُه حَرَمُها الثاني لأهلها ولزائريها.

والحسن من هذَين الحرمَين، مشرقُ الهداية، ومعقلُ العلم وموئلُ المسلمين. ومن حوله الطوائفُ التي نفرتْ من كلّ فرقة لتتفقّه في الدين ولتُنذرَ قومَها إذا رجعت إليهم. فكانوا تلامذتَه وحملَة العلم والرواية عنه. وكان بما أتاحَ اللهُ له من العلم، وبما مكّنَ له في قلوب المسلمين من المقام الرفيع، أقدرَ إنسانٍ على توجيه الأمّة وقيادتها الروحيّة، وتصحيح العقيدة، وتوحيد أهل التوحيد.

وكان اذا صلّى الغداةَ في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله جلسَ في مجلسِه، يذكر الله حتّى ترتفعَ الشمس، ويجلسُ إليه مَن يجلس من سادات الناس يحدّثهم. قال ابن الصبّاغ (الفصول المهمة ص 159): «ويجتمعُ الناس حوله، فيتكلّم بما يشفي غليلَ السائلين، ويقطع حُجَجَ المجادلين».

ادْفِنُونِي عِنْدَ أَبِي

روى سبط ابن الجوزيّ بسنده إلى ابن سعد، عن الواقدي: «أنه لمّا احتضر الحسنُ قال: ادْفِنُونِي عِنْدَ أَبِي - يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله - فقامتْ بنو أميّة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وكان والياً على المدينة فمَنعوه!! قال ابن سعد: ومنهم عائشة، وقالت: لا يدفَن مع رسول الله أحد».

وروى أبو الفرج الأمويّ الأصفهاني، عن يحيى بن الحسن أنه قال: «سمعتُ عليّ بن طاهر بن زيد يقول: لمّا أرادوا دفنَه - يعني الحسن بن عليّ - رَكِبَتْ بغلاً واستَعوَنتْ بني أميّة ومروانَ ومَن كان هناك منهم ومن حَشَمِهم، وهو قولُ القائل: فيوماً على بغلٍ، ويوماً على جَمَل».

وذكر المسعودي ركوبَ عائشة البغلةَ الشّهباء، وقيادتَها الأمويّين ليومها الثاني من أهل البيت عليهم السلام. قال: «فأتاها القاسمُ بن محمّد بن أبي بكر فقال: يا عمّة، ما غسلنَا رؤوسَنا من يوم الجمل الأحمر. أتريدين أن يُقال: يوم البَغْلَة الشهباء؟ فرجعتْ».

واجتمع مع الحسين بن عليّ خلقٌ من الناس فقالوا له: «دَعْنا وآلَ مروان، فواللهِ ما هم عندنا إلّا كَأَكْلَةِ رأس». فقال: «إنّ أَخِي أَوْصَى أَنْ لَا أُرِيقَ فِيهِ مِحْجَمَةَ دَمٍ.. وَلَولا عَهْدُ الحَسَنِ هَذَا، لَعَلِمْتُم كَيفَ تَأخُذُ سُيوفُ اللهِ مِنْهُم مَأْخَذَها. وَقَد نَقَضُوا العَهْدَ بَيْنَنا وَبَينَهُم، وَأَبْطَلوا مَا اشْتَرَطْنا عَلَيهِم لِأَنْفُسِنا». - يُشير بهذا إلى شروط الصلح.

ومضوا بالحسن فدَفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. قال في الإصابة: «قال الواقديّ: حدّثنا داود بن سنان، حدّثنا ثعلبة بن أبي مالك: شهدتُ الحسنَ يوم مات ودُفن بالبقيع، فلقد رأيتُ البقيعَ ولو طُرحت فيه إبرةٌ ما وقعتْ إلّا على رأس إنسان».

 

كريمُ أهل البيت عليهم السلام

اشتهر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بهذا اللقب (كريم أهل البيت عليهم السلام) من دون سائر الرجال، ولهذا اللّقب دلالة بعيدة الغور، لأن أهل البيت عليهم السلام قد جمعوا غرّ الفضائل والمناقب وجميلَ الصفات، ومن أبرز تلك الخصال الكرم، وقد عرّفوه: «بأنه إيثار الغير بالخير»، ولا تستعمله العرب إلاّ في المحاسن الكثيرة، ولا يقال كريم حتى يظهر منه ذلك.

والكريم هو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، ومن ذلك يُعلم أن للكرم معنى واسعاً لا ينحصر في بذل المال أو إقراء الضيف أو حسن الضيافة، فإنها من مصاديق الكرم لا تمام معناه، وعلى ضوء هذا المعنى الشامل للكرم تجلّى لنا المراد من وصف أهل البيت عليهم السلام بأنهم أكرم الناس على الإطلاق،  لما اشتملوا عليه من أنواع الخير والشرف والفضائل، وقد حفظ لنا التاريخ شيئاً من ذلك وحدّث به الرواة، كما يتجلّى لنا أيضاً من خلاله اتصاف الإمام الحسن عليه السلام بهذه الخصلة واشتهاره بها، فإنّه كان كثير الإنفاق على الفقراء وقد خرج لله عن ماله مرات عديدة، وكان يُؤْثِر بالمال كلّ طالب له منه، ولم يؤثَر عنه أنه ردّ سائلاً يوماً ما.

وخلاصة ما يمكن أن يقال في هذا المجال هو: إن اختصاص بعض الأئمة عليهم السلام بألقاب معينة واشتهارها فيهم، يُحتمل فيه وجهان:

الأول: أن تلك الألقاب توقيفية، أُطلقت عليهم من قِبل رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويؤيّده بعض الأخبار كحديث اللّوح وغيره.

الثاني: أن تلك الألقاب اشتُهروا بها نتيجة لظروف موضوعية اتّفقت لكلٍّ منهم في الأزمنة التي عاشوا فيها. وهو لا يدلّ بأي حال من الأحوال على أن يكون مفاد الشهرة (وهو الخَصلة المشتهر بها لكلّ منهم) غير موجودة لدى سائرهم، بل كلّ إمام كريم، وكاظم، وعالم، وصادق، وجواد، ورضا، لأنّ مداليل هذه الألقاب من مكارم الأخلاق، وقد كمُلت لديهم جميعاً. فتأمّل.

 


صلحُ الإمام الحسن عليه السلام

شهادةُ الطّفّ حَسَنيّةٌ أوّلاً، وحُسَينيّةٌ ثانياً

§        آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين* قدّس سرّه

كان صلح الحسن عليه السلام مع معاوية، من أشدّ ما لقيَه أئمة أهل البيت عليهم السلام من هذه الأمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. لقيَ به الحسن عليه السلام مِحناً يضيق بها الوُسع، لا قوّة لأحد عليها إلا بالله عزّ وجلّ. لكنه رضخ لها صابراً محتسباً، وخرج منها ظافراً بما يبتغيه من النصح لله تعالى، ولكتابه عزّ وجلّ، ولرسوله، ولخاصّة المسلمين وعامّتهم، وهذا الذي يبتغيه ويحرص عليه في كلّ ما يأخذ أو يدَع من قول أو فعل.

ولا وزن لمَن اتّهمه بأنه أخلدَ بصُلحه إلى الدَّعة، وآثَرَ العافية والراحة، ولا لمَن طوّحت بهم الحماسة من شيعته فتمنّوا عليه لو وقف في جهاد معاوية فوصل إلى الحياة من طريق الموت! وفاز بالنصر والفتح من الجهة التي انطلق منها صِنوه يوم الطفّ إلى نصره العزيز، وفتْحه المبين.

ومن الغريب بقاءُ الناس في عشواء غمّاء من هذا الصلح إلى يومهم هذا، لا يقوم أحد منهم في بيان وُجهة الحسن عليه السلام في صلحه، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيّناتها، عقلية ونقلية، وكم كنت أحاول ذلك، لكنّ الله عزّ وجلّ شاء بحكمته أن يختصّ بهذه المأثرة مَن هو أولى بها، وأحقّ بكلّ فضيلة، ذلك هو مؤلّف هذا السِّفر البِكر (صلح الحسن عليه السلام). ".."

ومَن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب، من أحوال الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، علم أنهما لم ترتجِلهما المعركة ارتجالاً، وإنما كانا في جبهتَيهما خليفتَين، استخلفهما الميراث على خُلُقَين متناقضَين: فخُلق الحسن عليه السلام إنّما هو خُلق الكتاب والسنَّة، وانْ شئتَ فقل: خلُق محمّدٍ وعليٍّ صلوات الله عليهما.

 وأما خُلق معاوية، فإنّما هو خُلق (الأمويّة)، وان شئتَ فقل: خلُق أبي سفيان وهند، على نقيض ذلك الخُلق. والمتوسّعُ في تاريخ البيتَين وسيرة أبطالهما من رجال ونساء يدركُ ذلك بجميع حواسّه. لكن لمّا ظهر الاسلام، وفتح الله لعبده ورسوله فتحَه المبين، ونصره ذلك النصر العزيز، انقطعتْ نوازي الشرّ (الأموي)، وبطلت نزَعات أبي سفيان ومن إليه مقهورةً مبهورة، متواريةً بباطلها من وجه الحقّ الذي جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله عن ربه عزّ وجلّ، بفُرقانه الحكيم، وصراطه المستقيم، وسيوفه الصارمة لكلّ من قاومه. وحينئذٍ لم يجِد أبو سفيان وبنوه ومَن إليهم بدّاً من الاستسلام، حقناً لدمائهم المهدورة يومئذٍ لو لم يستسلموا، فدخلوا فيما دخل فيه الناس، وقلوبهم تنغلُ بالعدواة له، وصدورهم تَجيش بالغلّ عليه، يتربّصون الدوائر بمحمد صلّى الله عليه وآله ومَن إليه، ويبغون الغوائلَ لهم.

لكنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان - مع علمه بحالهم - يتألّفهم بجزيل الأموال، وجميل الأقوال والأفعال، ويتلقّاهم بصَدرٍ رَحْبٍ، ومُحيّا منبسط، شأنه مع سائر المنافقين من أهل الحقد عليه، يبتغي استصلاحَهم بذلك. وهذا ما اضطرّهم إلى إخفاء العداوة له، يَطوون عليها كَشْحَهم خوفاً وطَمَعاً، فكاد الناس بعد ذلك ينسون (الأمويّة) حتّى في موطنها الضيّق: مكّة.

أما في ميادين الفتح بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلم تعرَف (الأمويّة) بشيء، سوى أنّها من أُسرة النبيّ ومن صحابته. ثمّ أُتيح بعد النبيّ لقوم ليسوا من عِترته، أن يتبّوؤا مقعده، وأُتيح لمعاوية في ظلّهم أن يكون من أكبر ولاة المسلمين، أميراً من أوسع أمرائهم صلاحيةً في القول والعمل. ومعاويةُ إذ ذاك يتّخذ بدهائه من الإسلام سبيلاً يزحف منه إلى المُلك العضوض، ليتّخذ به دينَ الله دَغَلاً، وعباد الله خَوَلاً، ومال الله دُوَلاً، كما أنذر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان ذلك من أعلام نبوّته.


تأريخ التمهيد للأمويّة

نشط معاوية في عهد الخليفتَين الثاني والثالث، بإمارته على الشام عشرين سنة، تمكّن بها في أجهزة الدولة، وصانعَ الناس فيها وأطمَعهم به، فكانت الخاصّة في الشام كلّها من أعوانه، وعَظُم خطرُه في الإسلام، وعُرف في سائر الأقطار بكونه من قريش - أُسرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأنه من أصحابه، حتّى كان في هذا أشهرَ من كثيرٍ من السابقين الأوّلين الذين رضيَ الله عنهم ورضوا عنه، كأبي ذر وعمّار والمقداد وأضرابهم.

هكذا نشأت (الأموية) مرّةً أخرى، تغالب الهاشميّةَ باسم الهاشميّة في علَنِها، وتكيدُ لها كيدَها في سرّها، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدعُ العامّة بدهائها، وتشتري الخاصّة بما تُغدقه عليهم من أموال الأمّة، وبما تُؤْثِرهم به من الوظائف التي ما جعلها الله للخَونة من أمثالهم، تستغلّ مظاهر الفتح وإحراز الرضا من الخلفاء.

حتّى إذا استتبّ أمر (الأمويّة) بدهاء معاوية، انسلّت إلى احكام الدين انسلالَ الشياطين، تدسّ فيها دسَّها، وتُفسد إفسادها، راجعةً بالحياة إلى جاهلية تبعثُ الاستهتارَ والزندَقَة، وفقَ نهجٍ جاهليّ، وخطّةٍ نفْعية، ترجوها (الأموية) لاستيفاء منافعها، وتًسخّرها لحفظ امتيازاتها. والناس - عامّة - لا يفطنون لشيء من هذا، فإنّ القاعدة المعمول بها في الإسلام - أعني قولهم: الإسلام يَجُبُّ ما قبله - ألقت على فظائع (الأموية) ستراً حجبَها، ولا سيّما بعد أنْ عفا عنها رسول الله وتألّفَها، وبعد أن قرّبَها الخلفاء منهم، واصطفوها بالولايات على المسلمين، وأعطوها من الصلاحيات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم. فسارت في الشام سيرتَها عشرين عاماً: ﴿.. لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ..﴾ (المائدة:79) ولا يَنهون. وقد كان الخليفة الثاني عظيمَ المراقبة لعمّاله، دقيقَ المحاسبة لهم ".." لكنّ معاوية كان أثيرَه وخلّصَه.. ما كفَّ يده عن شيء ولا ناقشَه الحساب في شيء، وربّما قال له: (لا آمرُك ولا أنهاك)، يفوّض له العملَ برأيه. وهذا ما أطغى معاوية، وأرهف عزمَه على تنفيذ خططه (الأموية). وقد وقف الحسن والحسين عليهما السلام من دهائه ومكره إزاء خطر فظيع، يهدّدالإسلام باسم الإسلام، ويطغى على نور الحقّ باسم الحقّ، فكانا في دفع هذا الخطر، أمام أمرَين لا ثالث لهما: إما المقاومة، وإما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن عليه السلام تؤدّي لا محالة إلى فناء هذا الصفّ المدافع عن الدين وأهله، والهادي إلى الله عزّ وجلّ، وإلى صراطه المستقيم. إذ لو غامر الحسن عليه السلام يومئذٍ بنفسه وبالهاشميّين وأوليائهم، فواجه بهم القوّة التي لا قِبَلَ لهم بها مصمّماً على التضحية، تصميمَ أخيه يوم (الطفّ)، لانكشفت المعركة عن قتلِهم جميعاً، ولانتصرت (الأمويّة) بذلك نصراً تعجز عنه إمكانياتها، ولا تنحسر عن مثله أحلامها وأمنياتها. إذ يخلو بعدهم لها الميدان، تُمعن في تيهها كلّ إمعان، وبهذا يكون الحسن عليه السلام - وحاشاه - قد وقع فيما فرّ منه على أقبح الوجوه، ولا يكون لتضحيته أثر لدى الرأي العام إلا التنديد والتفنيد.

ومن هنا رأى الحسن عليه السلام أن يترك معاوية لطغيانه، ويمتحنه بما يصبو إليه من المُلك، لكنْ أخذ عليه في عقد الصلح، أن لا يعدو الكتاب والسنّة في شيءٍ من سيرته وسيرة أعوانه ومقوّية سلطانه، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنبٍ أذنبَه مع الأموية، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين، وأن، وأن، وأن. إلى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عليه السلام عالماً بأنّ معاوية لا يفي له بشيء منها، وأنه سيقوم بنقائضها.

هذا ما أعدّه عليه السلام لرفع الغطاء عن الوجه (الأموي) المموّه، ولصَهر الطِّلاء عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرزَ حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأموية) كما هم: جاهليّين، لم تخفق صدورُهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمُه شيئاً من أحقاد بدر وأُحد والأحزاب.

وبالجملة، فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفةٌ في سِلم لم يكن منه بدّ، أملاه ظرفُ الحسن عليه السلام، إذ التبسَ فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرة مسلّحة ضارية.

 

يومُ ساباط، ويوم الحُدَيبيَة

ما كان الحسن عليه السلام ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه. فهو كغيره من أئمة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه. امتُحن بهذه الخطّة فرضخ لها صابراً محتسباً، وخرج منها ظافراً طاهراً، لم تنجّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدْلَهِمّات ثيابها. أخذ هذه الخطة من صلح (الحديبية) فيما أُثر من سياسة جدّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وله فيه أُسوَةٌ حَسَنة، إذ أنكرَ عليه بعضُ الخاصّة من أصحابه، كما أنكر على الحسن عليه السلام صلحَ (ساباط) بعضُ الخاصّة من أوليائه، فلم يهِن بذلك عزمُه، ولا ضاقَ به ذَرعُه. وقد ترك هذه الخطّة نموذجاً صاغَ به الأئمّة التسعة - بعد سيدَي شباب أهل الجنة - سياستَهم الحكيمة، في توجيهها الهادئ الرصين، كلّما اعصوصبَ الشرّ. فهي إذاً جزءٌ من سياستهم الهاشميّة الدائرة أبداً على نُصرة الحقّ، لا على الانتصار للذات فيما تأخذُ أو تدَع.

تهيّأَ للحسن عليه السلام بهذا الصلح أن يغرسَ في طريق معاوية كميناً من نفسه يثورُ عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أن يُلغِم نصر الأموية ببارود الأموية نفسها. فيجعل نصرَها جفاءاً، وريحاً هباءاً. لم يطُل الوقت حتّى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يومَ نشوته بنصره، إذ انضمّ جيش العراق إلى لوائه في النُّخَيلة. فقال - وقد قام خطيباً فيهم: (يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتُصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتُزكّوا، ولا لتَحجّوا، وإنما قاتلتكم لأَتَأَمّر عليكم، وقد أعطاني اللهُ ذلك وأنتم كارهون! ألا وإنّ كلّ شيءٍ أعطيتُه للحسن بن عليّ، جعلتُه تحتَ قدميَّ هاتَين)! فلمّا تمّت له البيعة خطبَ فذكر عليّاً عليه السلام فنالَ منه، ونالَ من الحسن عليه السلام، فقام الحسين عليه السلام ليَرُدَّ عليه، فقال له الحسن عليه السلام: (عَلَى رَسْلِكَ يَا أَخِي). ثمّ قام عليه السلام فقال: (أَيُّهَا الذّاكِرُ عَلِيَّاً! أَنَا الحَسَنُ وَأَبِي عَلِيٌّ، وَأَنْتَ مُعَاوِيَةُ وَأَبُوكَ صَخْرٌ، وَأُمّي فَاطِمَةُ وَأُمُّكَ هِنْد، وَجِدّي رَسُولُ اللهِ وَجَدُّكَ عُتْبَة، وَجَدّتِي خَدِيجَة وَجَدَّتُكَ فَتِيلَة، فَلَعَنَ اللهُ أَخْمَلَنَا ذِكْرَاً، وَأَلْأَمَنَا حَسَبَاً، وَشَرَّنَا قَدِيمَاً، وَأَقْدَمَنَا كُفْرَاً وَنِفَاقَاً)! فقالت طوائفُ من أهل المسجد: (آمين).


معاوية يتوّج مُنكراته بتنصيب ابنه الماجن

ثمّ تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يخالف الكتاب والسّنّة من كلّ مُنكَرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهَتْكَاً للأعراض، وسَلْبَاً للأموال، وسَجناً للأحرار، وتشريداً للمُصلحين، وتأييداً للمُفسِدين الذين جعلَهم وزراءَ دولته، كابن العاص، وابن شُعبة، وابن سعيد، وابن أرْطَأة، وابن جندب، وابن السّمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عُقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعيّ عُبيد، وألحقَه بالمُسافح أبيه أبي سفيان ليجعلَه بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يَسومُهم سوءَ العذاب، يذبّحُ أبناءَهم، ويَستحيي نساءَهم، ويفرّقهم عباديدَ تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يَأْلو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق. ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المَهتوك على رقاب المسلمين، يَعيثُ في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطفّ، ويوم الحَرّة، ويوم مكَة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق! هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتُلائم كلّ الملاءمة فاتحةَ أعماله القاتمة. وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغطُ شدائد، وتدور خطوب، وتزدحم مِحَن، ما أدري كيف اتّسعت لها مسافة ذلك الزمن، وكيف اتّسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي - في الحقّ - لو وُزّعت على دهرٍ لضاقَ بها، وناءَ بحملها، ولو وزّعت على عالَمٍ لكان جديراً أن يحول جحيماً لا يُطاق. ومهما يكن من أمر، فالمهمّ أنّ الحوادث جاءت تفسّر خطّة الحسن عليه السلام وتجلوها. وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أن يرفع اللّثام عن هؤلاء الطغاة، ليحولَ بينهم وبين ما يُبيّتون لرسالة جدّه من الكيد. وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء، والحمد لله ربّ العالَمين.


ثورة الطّفّ

وبهذا استتبّ لصِنوه سيّد الشهداء عليه السلام أن يثور ثورته التي أوضح اللهُ بها الكتاب، وجعله فيها عبرةً لأولي الألباب. وقد كانا عليهما السلام وجهَين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخرَ في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها. فالحسن عليه السلام لم يبخلْ بنفسه، ولم يكن الحسين عليه السلام أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادةً حَسَنيّة، قبل أن تكون حُسينيّة. وكان يوم ساباط أعرقَ بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أُولي الألباب ممّن تعمّق. لأنّ الحسن عليه السلام، أُعطي من البطولة دورَ الصابر على احتمال المكاره في صورةِ مُستَكينٍ قاعد. وكانت شهادة (الطفّ) حَسنيّة أولاً، وحسينيّة ثانياً، لأن الحسن عليه السلام أنضجَ نتائجها، ومهّد أسبابها.

كان نصرُ الحسن عليه السلام الدامي موقوفاً على جِلو الحقيقة التي جلاها - لأخيه الحسين - بصبره وحكمته، وبجلوها انتصر الحسين عليه السلام نصره العزيز، وفتح الله له فتحه المبين. وكانا عليهما السلام كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أن يكون للحسن عليه السلام منها دورُ الصابر الحكيم، وللحسين عليه السلام دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدّورَين خطّة كاملة ذات غرَض واحد.


فضحُ الأمويّة على حقيقتها

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطفّ - يُمعنون في الأحداث فيرون في هؤلاء الأمويّين عصبة جاهليّة منكَرة، بحيث لو مُثّلت العصبيّات الجِلفة النّذِلة الظَّلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونَهم في الخطر على الإسلام وأهله. رأى الناس من هؤلاء الأمويّين، قردةً تَنزو على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، تكشِّر للأمّة عن أنياب غول، وتصافحها بأيدٍ تمتدّ بمخالب ذئب، في نفوس تدبّ بروح عقرب. رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة، لم تخفّف من شرها التربية الاسلامية، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمديّة. فمضغُ الأكباد يوم هند وحمزة، يرتقي به الحقد الأموي الأثيم، حتّى يكون تنكيلاً بربريّاً يوم الطفّ، لا يكتفي بقتل الحسين عليه السلام، حتّى يُوطئ الخيل صدَره وظهرَه. ثمّ لا يكتفي بذلك، حتى يُترك سليباً بالعراء، لوحوش الأرض وطير السماء، ويُحمل رأسه ورؤوس الشهداء من آله وصحبه على أطراف الأسِنّة إلى الشام. ثمّ لا يكتفي بهذا كلّه، حتّى يُوقف حرائر الوحي من بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله على دَرَجِ السَّبي!!!

رأى الناس الحسن عليه السلام يُسالم، فلا تنجيه المسالمة من خطر هذه الوحشية اللئيمة، حتّى دسّ معاوية إليه السّمّ فقتله بَغياً وعدواناً. ورأوا الحسين عليه السلام يثور في حين أُتيح للثورة الطريقُ إلى أفهامهم تتفجّر فيها باليَقظة والحرية، فلا تقِفُ الوحشية الأموية بشيء عن المظالم، بل تبلغ في وحشيّتها أبعدَ المدى.

وكان من الطبيعيّ أن يتحرّر الرأي العام على وهج هذه النار المحرقة منطلقاً إلى زوايا التاريخ وأسراره، يستنزلُ الأسباب من هنا وهناك بلَمعان ويقظَة، وسيرٍ دائبٍ يُدنيه إلى الحقيقة، حقيقة الانحراف عن آل محمّد صلّى الله عليه وآله، حتّى يكون أمامها وجهاً لوجه، يسمعُ همسَها هناك في الصدر الأوّل، وهي تسارّ وراءَ الحجب والأستار، وتدبّر الأمر في اصطناع هذا (الداهية الظَّلوم الأموي) اصطناعاً يُطفئ نور آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، أو يحولَ بينه وبين الأمّة.

نعم! أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين عليهما السلام، وحِكمة تدبيرهما كلّ خافيةٍ من أمر (الأموية)، وأمور مسدّدي سَهمِها على نحوٍ واضح. أدرك - فيما يتّصل بالأمويين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عداءٍ مستحكم، ضرورة أنه إذا كان المُلك هو ما تهدف إليه الأموية، فقد بلغه معاوية، وأتاح له الحسن عليه السلام، فما بالها تلاحقُه بالسّمّ وأنواع الظلم والهَضْم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصلَ شأفتَهم وتقتلع بذرتَهم؟!... وإذا كان المُلك وحدَه هو ما تهدف اليه الأموية، فقد [قُتل] الحسين عليه السلام، وتمّ ليزيد ما يريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنما تسرف أقسى ما يكون الإسراف والإجحاف في حركة من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهَد في تاريخ الجزّارين والبرابرة؟؟..

أمّا ما أنتجته هذه المحاكمة لأُولي الألباب، فذلك ما نترك تقديره وبيانه للعارفين بمنابع الخير، ومطالع النور في التاريخ الإسلامي، على أنّا فصّلناه بآياته وبيّناته في مقدّمة (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) فليُراجع، ولنَكتفِ الآن بالإشارة إلى ما قلناه في التوحيد بين صلح الحسن وثورة الحسين عليهما السلام، والتعاون بين هذَين المظهرَين، على كشف القناع عن الوجه الأمويّ المظلِم، والإعلان عن الحقيقة الأموية، فأقول عوداً على بدء: كانت شهادة الطفّ حَسنيّةً أولاً، وحُسينيّةً ثانياً. وكان يوم ساباط، أعرقَ بمعاني الشهادة والتضحية من يوم الطّفّ عند مَن تعمّقَ واعتدلَ وأنصف.

حُرّر في صور (جبل عامل).

في الخامس عشر من رجب، سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة.

عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي. 

* مقدّمته على كتاب (صلح الإمام الحسن عليه السلام) للشيخ راضي آل ياسين

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ 5 أيام

دوريات

نفحات