حكمةُ الابتلاء
قبسات نورانية من (نهج البلاغة)
ـــــــــــــــــــــــ د. محمد علي القاضي* ـــــــــــــــــــــــ
يؤكّد أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه
السلام في موارد كثيرة من خُطبه وكُتبه على قانون الابتلاء والاختبار، ويذكر أن
الدنيا مقدّرة منذ القدم على هذا القانون، فإنّه عليه السلام بعد ما يذكر هبوط آدم
عليه السلام من الجنة يقول: «وأَهْبَطَه إِلَى دَارِ
الْبَلِيَّةِ وتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ»، حيث يشير عليه السلام إلى أن
الدنيا محفوفة بالبلاء من الأوّل. وهذا المفهوم يكرّره أمير المؤمنين عليه السلام
ويؤكّده، فيقول بعد ما يوصي بالتقوى في الدنيا:
«فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ ودَارِ عِبْرَةٍ، أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا
ومُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا».
كما
أنه عليه السلام لترسيخ هذا المفهوم يستشهد بالقرآن أيضاً، ويقول:
«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّه قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ
عَلَيْكُمْ، ولَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ، وقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ:
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾». (المؤمنون:30)
وقال
عليه السلام أيضاً:
«فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه يَقُولُ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ..﴾
(الأنفال:28)، ومَعْنَى ذَلِكَ أَنَّه
سُبحانَه يَخْتَبِرُهُمْ، بِالأَمْوَالِ والأَوْلَادِ لِيَتَبَيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزْقِه،
والرَّاضِيَ بِقِسْمِه».
ثمّ
إنه عليه السلام استفاد من هذا المفهوم لموعظة الناس، وإيقاظهم من نوم الغفلة وعدم
الركون إلى الدنيا، فهو عليه السّلام يصفُ الدنيا باشتمالها على أنواع البلايا
ليزهّدَ الناس فيها، ويقول:
«دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ... وإِنَّمَا
أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ، تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وتُفْنِيهِمْ
بِحِمَامِهَا».
وقال
عليه السلام:
«لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ، إِلَّا أَعْقَبَتْه بَعْدَهَا
عَبْرَةً، ولَمْ يَلْقَ فِي سَرَّائِهَا بَطْناً، إِلَّا مَنَحَتْه مِنْ ضَرَّائِهَا
ظَهْراً، ولَمْ تَطُلَّه فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ، إِلَّا هَتَنَتْ عَلَيْه مُزْنَةُ
بَلَاءٍ».
يقول
عليه السلام ما معناه: إنّ الدنيا لم تُمطر عليه من الرخاء قليلاً، إلا وَهَتَنَتْ
- أي مطرت عليه - من البلاء كثيراً.
وقال
عليه السلام:
«وأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ، إِلَّا عَلَى مَا جَعَلَهَا
اللَّهُ عَلَيْه مِنَ النَّعْمَاءِ والِابْتِلَاءِ»، حيث يشير عليه السلام إلى التقدير الإلهي باحتواء
الدنيا على أنواع البلاء.
وقال
عليه السلام:
«واعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ، لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا
فِيهَا قَطُّ سَاعَةً، إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُه عَلَيْه حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وقال
عليه السلام في كتابه لمعاوية:
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا
لِمَا بَعْدَهَا، وابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا،
ولَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا ولَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا، وإِنَّمَا وُضِعْنَا
فِيهَا لِنُبْتَلَى بِهَا».
وأخيراً
فإن الدنيا نفسها تحذّر من نفسها، يقول عليه السلام:
«ولَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ، والنَّقْصِ
فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ».
الابتلاء بوصفه حكمة ربّانية
قال
تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ الملك:2.
وقال
تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ..﴾
سورة محمد:31.
وقال
تعالى عن لسان صاحب سليمان عليه السلام بعدما نقل عرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطَّرْف:
﴿.. هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ..﴾ النمل:40.
فهذه
الآيات تدل بوضوح على أنّ مسألة الابتلاء لم تكن جزافاً وعبثاً، بل تبتني على حكمة
ربانيّة، كما وردت الإشارة إلى جملة منها في الآيات القرآنية.
وحين
نراجع (نهج البلاغة)، نرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يذكر مجموعة من الحكم
الكامنة وراء مسألة الابتلاء، منها:
1)
مسألة الإثابة، واستحقاق الأجْر، والمنزلة عند الله، حيث لا تأتي المثوبة اعتباطاً
بل استحقاقاً، قال عليه السلام:
«أَلَا إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً، لَا
أَنَّه جَهِلَ مَا أَخْفَوْه مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ، ومَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ،
ولَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً
والْعِقَابُ بَوَاءً».
وقال
عليه السلام في قوله تعالى: ﴿.. إِنْ تَنْصُرُوا
اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ سورة محمد:7، وفي قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ الحديد:11. قال عليه السلام: «فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ
مِنْ ذُلٍّ، ولَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ، اسْتَنْصَرَكُمْ ولَه جُنُودُ السَّمَاوَاتِ
والأَرْضِ وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، واسْتَقْرَضَكُمْ ولَه خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ
والأَرْضِ، وهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ ﴿..أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا..﴾». (الملك:2)
وقال عليه السلام في حكمة كون الأنبياء أهل مسكَنَة وفقرٍ ماديّ:
«ولَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَه لأَنْبِيَائِه (بأنبيائه)، حَيْثُ
بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ، ومَعَادِنَ الْعِقْيَانِ ومَغَارِسَ
الْجِنَانِ، وأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ ووُحُوشَ الأَرَضِينَ، لَفَعَلَ،
ولَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وبَطَلَ الْجَزَاءُ، واضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ ولَمَا
وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَليْنَ، ولَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ
الْمُحْسِنِينَ... وكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى والِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ، كَانَتِ
الْمَثُوبَةُ والْجَزَاءُ أَجْزَلَ».
ثمّ يستمرّ عليه السلام ويذكر الحجّ وصعوبته، ويقول:
«.. ابْتِلَاءً عَظِيماً وامْتِحَاناً شَدِيداً، واخْتِبَاراً مُبِيناً
وتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَه اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِه ووُصْلَةً إِلَى جَنَّتِه،
ولَوْ أَرَادَ سُبْحَانَه، أَنْ يَضَعَ بَيْتَه الْحَرَامَ ومَشَاعِرَه الْعِظَامَ،
بَيْنَ جَنَّاتٍ وأَنْهَارٍ وسَهْلٍ وقَرَارٍ، جَمَّ الأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ،
مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ورَوْضَةٍ خَضْرَاءَ،
وأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ، ورِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وطُرُقٍ عَامِرَةٍ،
لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ».
وقال عليه السلام:
«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا
بَعْدَهَا، وابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».
2) ومن حِكم الابتلاء أيضاً دفعُ الكبر عن القلوب، قال عليه السلام:
«ولَكِنَّ اللَّه سُبْحَانَه يَبْتَلِي خَلْقَه بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ
أَصْلَه، تَمْيِيزاً بِالاخْتِبَارِ لَهُمْ ونَفْياً لِلاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ، وإِبْعَاداً
لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ».
وقال عليه السلام أيضاً:
«ولَكِنَّ اللَّه يَخْتَبِرُ عِبَادَه بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، ويَتَعَبَّدُهُمْ
بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ، ويَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِه، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ
مِنْ قُلُوبِهِمْ، وإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، ولِيَجْعَلَ ذَلِكَ
أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِه، وأَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِه».
3) ومنها
التّوبة والرّجوع إلى الله تعالى، قال عليه السلام:
«إِنَّ اللَّه يَبْتَلِي عِبَادَه عِنْدَ الأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ،
بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وحَبْسِ الْبَرَكَاتِ، وإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ
تَائِبٌ، ويُقْلِعَ مُقْلِعٌ، ويَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ، ويَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ».
4) ومنها
الرضا بقضاء الله تعالى، قال عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ
فِتْنَةٌ..﴾:
«ومَعْنَى
ذَلِكَ أَنَّه سُبْحَانَه يَخْتَبِرُهُمْ بِالأَمْوَالِ والأَوْلَادِ، لِيَتَبَيَّنَ
السَّاخِطَ لِرِزْقِه، والرَّاضِيَ بِقِسْمِه، وإِنْ كَانَ سُبْحَانَه أَعْلَمَ بِهِمْ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ولَكِنْ لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ
والْعِقَابُ».
5) ومنها الانتفاع بالموعظة،
قال عليه السلام:
«ومَنْ لَمْ
يَنْفَعْه اللَّه بِالْبَلَاءِ والتَّجَارِبِ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِظَةِ،
وأَتَاه التَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِه».
* أكاديمي وباحث في
الدراسات الإسلامية – العراق