﴿..يَرَاكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ..﴾
إبليس.. وعملُه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ ــــــــــــــــــــــــــــ
تحدّث
القرآن الكريم، في مجالٍ واسعٍ من آياته، عن مخلوقٍ سمّاه «إبليس»، ونسب إليه سعيَه
لإغواء الإنسان وصدّه عن سبيل الله تعالى بالوسائل الخفيّة، مُحذّراً منه أشدّ
التحذير، مُنبّهاً إلى وجود أعوانٍ له من الجنّ والإنس، مقرّراً أنّ سلطانه لا
يصلُ إلى ساحة أولياء الله المقرّبين.
ما
يلي مختصر بحث للعلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ رحمه الله ،
عن خصائص إبليس ووسائله المُضلّة، أورده في الجزء الثامن من موسوعته القيّمة (الميزان
في تفسير القرآن).
|
عاد
موضوع إبليس موضوعاً مُبتذَلاً عندنا لا يُعبأ به، إلّا أن نذكره أحياناً، ونلعنه
أو نتعوّذ بالله منه، أو نقبّح بعض أفكارنا بأنّها من الأفكار الشيطانية ووساوسه
ونزغاته، من دون أن نتدبّر فنحصّل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود
العجيب الغائب عن حواسّنا، وما له من عجيب التصرّف والولاية في العالم الإنساني.
وكيف
لا، وهو يصاحب العالَم الإنسانيّ على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهَر في الوجود حتّى
ينقضي أجله، وينقرض بانطواء بساط الدنيا، ثمّ يلازمه بعد الممات، ثمّ يكون قرينَه
حتّى يورده النار الخالدة.
هو
مع الواحد منّا، كما هو مع غيره، هو معه في علانيته وسرّه، يُجاريه كلّما جرى، حتّى
في أخفى خيال يتخيّلُه في زاوية من زوايا ذهنه، أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته،
لا يحجبه عنه حاجب، ولا يغفل عنه بشغلٍ شاغل.
وأمّا
الباحثون منّا، فقد أهملوا البحث عن ذلك، وبنوا على ما بنى عليه باحثو الصدر الأوّل،
سالكين ما خطّوا لهم من طريق البحث.
وصفُ
إبليس في القرآن
لم يصِف الله، سبحانه، من [طبيعة] هذا المخلوق
الشرّير الذي سمّاه إبليس إلّا يسيراً، وهو قوله تعالى: ﴿..كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..﴾ الكهف:50،
وما حكاه عنه في كلامه: ﴿..خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ..﴾ الأعراف:12، فبيّن أنّ بدء
خِلقته كان من نارٍ من سِنخ الجنّ، وأمّا ما الذي آلَ إليه أمرُه فلم يذكره صريحاً،
كما أنّه لم يذكر تفصيل خِلقته كما فصّل القول في خِلقة الإنسان.
نعم،
هناك آيات واصفة لصنعه وعمله، يمكن أن يُستفادَ منها ما ينفع في هذا الباب؛ قال
تعالى حكايةً عنه: ﴿..لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ الأعراف:16-17.
فأخبر
أنّه يتصرّف فيهم من جهة العواطف النفسانية، من خوف، ورجاء، وأُمنية، وأمل، وشهوة،
وغضب، ثمّ في أفكارهم وإرادتهم المنبعثة منها.
كما
يقارنه في المعنى قولُه: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ..﴾ الحجر:39،
أي لأزيّننّ لهم الأمورَ الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف وزينات مُهيّأة، من تعلّق
العواطف الداعية نحو اتّباعها، ولأُغوينّهم بذلك، كالزّنا مثلاً يتصوّره الإنسان،
وتُزَيِّنُهُ في نظره الشّهوةُ، ويضعُف بقوّتها ما يخطر بباله من المحذور في
اقترافه فيصدّق به فيقترفه، ونظير ذلك قوله: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ النساء:120،
وقوله: ﴿..فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ..﴾ النحل:63.
ميدان
عمل إبليس
كلّ
ذلك - كما ترى - يدلّ على أنّ ميدان عمله هو الإدراك الإنساني، ووسيلة عمله
العواطفُ والإحساساتُ الداخلة؛ فهو الذي يُلقي هذه الأوهام الكاذبة والأفكار
الباطلة في النفس الإنسانية كما يدلّ عليه قوله: ﴿..الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ الناس:4-5.
لكنّ
الإنسان مع ذلك لا يشكّ في أنّ هذه الأفكار والأوهام المُسمّاة «وساوس شيطانية»
أفكارٌ يُوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحدٍ سواه، يُلقيها إليه أو يتسبّب إلى
ذلك بشيء، كما في سائر أفكاره وآرائه التي لا تتعلّق بعملٍ وغيره، كقولنا: الواحد
نصف الاثنين، والأربعة زوجان، وأمثال ذلك.
فالإنسان
هو الذي يوجِد هذه الأفكار والأوهام في نفسه، كما أنّ الشيطان هو الذي يُلقيها
إليه ويُخطرها بباله من غير تزاحم، ولو كان تسبّبه فيها نظير التسبّبات الدائرة
فيما بيننا - كمن ألقى إلينا خبراً أو حكماً أو ما يشبه ذلك - لكان إلقاؤه إلينا
لا يجامع استقلالنا في التفكير، ولانتَفَتْ نسبةُ الفعل الاختياري إلينا، لكون
العلم والترجيح والإرادة له، لا لنا، ولم يترتّبْ على الفعل لومٌ ولا ذمٌّ ولا غيره.
وقد نسبه الشيطانُ نفسُه إلى الإنسان فيما حكاه الله تعالى من قوله يوم القيامة: ﴿وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ
وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ إبراهيم:22،
فنسَب الفعلَ والظلم واللوم إليهم وسلبها عن نفسه، ونفى عن نفسه كلّ سلطان، إلّا
السلطان على الدعوة والوعد الكاذب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ الحجر:42، فنفى سبحانه
سلطانه إلّا في ظرف الاتّباع، ونظيره قوله تعالى: ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ
وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ ق:27.
وبالجملة،
فإنّ تصرّفه في إدراك الإنسان تصرّف طولي لا ينافي قيامه بالإنسان، وانتسابه إليه
انتساب الفعل إلى فاعله، لا عرْضي ينافي ذلك.
فله
أن يتصرّف في الإدراك الإنساني بما يتعلّق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور
والتزيين، فيضع الباطلَ مكان الحقّ ويُظهره في صورته، فلا يرتبط الإنسان بشيء إلّا
من وجهه الباطل الذي يغرّه ويصرفه عن الحقّ، وهذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان
لنفسه أوّلاً، ثمّ لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته، فيحجبه ذلك عن الحقّ ويُلهيه
عن الحياة الحقيقية كما تقدّم استفادةُ ذلك من قوله المحكيّ: ﴿..بِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ..﴾ الأعراف:16،
وقوله: ﴿..رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ..﴾ الحجر:39،
ويؤدّي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحقّ، وهو الأصل الذي ينتهي ويحلّل إليه كلّ ذنب،
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ
لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ﴾ الأعراف:179.
فاستقلال
الإنسان بنفسه، وغفلته عن ربّه وجميع ما يتفرّع عنه من سيّء الاعتقاد، ورديء
الأوهام، والأفكار التي يتولّد منها كلّ شرك وظلم إنّما هي من تصرّف الشيطان، في حين
أنّ الإنسان يُخيّل إليه أنّه هو الموجِدُ لها، القائم بها، لما يراه من استقلال
نفسه، فقد صبغ نفسه صبغةً لا يأتيه اعتقادٌ ولا عملٌ إلّا صبَغه بها.
ولاية
الشيطان
وهذا
هو دخوله تحت ولاية الشيطان وتدبيره وتصرّفه من غير أن يتنبّه لشيء أو يشعر بشيء
وراء نفسه، قال تعالى: ﴿..إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الأعراف:27.
وولاية
الشيطان على الإنسان في المعاصي والمظالم على هذا النمط، نظير ولاية الملائكة عليه
في الطاعات والقربات، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..﴾ حم
السجدة:31، والله من ورائهم محيط وهو الوليّ لا وليّ
سواه، قال تعالى: ﴿..مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ..﴾ السجدة:4.
وهذا
هو «الاحتناك» أي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ
هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ
وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ الأسراء:62-64،
أي لألجمنّهم فأتسلّط عليهم تسلّطَ راكب الدابّة الملجِم لها عليها، يُطيعونني
فيما آمرُهم، ويتوجّهون إلى حيث أشيرُ، من غير أيّ عصيان وجِماح.
ويظهر
من الآيات أنّ له جُنداً يُعينونه فيما يأمر به، ويساعدونه على ما يريد، وهو «القَبيل»
الذي ذكر في الآية السابقة: ﴿..إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا
تَرَوْنَهُمْ..﴾ الأعراف:27،
وهؤلاء وإنْ بلغوا، من كثرةِ العدد وتَفنُّنِ العمل، ما بلغوا، فإنّما صُنعهم صُنع
إبليس نفسه، ووسوستُهم وسوسته نفسها، كما يدلّ عليه قوله: ﴿..وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
الحجر:39،
وغيره ممّا حكته الآيات، وهو نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العِظام من الأعمال
فتُنسب إلى رئيسهم المستعمِل لهم في ما يريده. قال تعالى في ملك الموت: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ..﴾ السجدة:11، ثمّ قال: ﴿..حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾
الأنعام:61،
إلى غير ذلك.
وتدلّ
الآية: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ الناس:5-6،
على أنّ في جنده اختلافاً من حيث كون بعضهم من الجِنّة وبعضهم من الإنس، ويدلّ
قوله: ﴿..أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ
عَدُوٌّ..﴾ الكهف:50،
أنّ له ذرّيةً هم من أعوانه وجنوده، لكن لم يفصّل كيفية نشوء ذرّيته منه.
كما
أنّ هناك نوعاً آخر من الاختلاف يدلّ عليه قوله: ﴿..وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ..﴾ الإسراء:64،
وهو الاختلاف من جهة الشدّة والضعف وسرعة العمل وبطئه، فإنّ الفارق بين الخيل
والرجِل هو السرعة في اللحوق والإدراك وعدمها.
وهناك
نوع آخر من الاختلاف في العمل، وهو الاجتماع عليه والانفراد، كما يدلّ عليه أيضاً
قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ
بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ المؤمنون:97-98،
ولعلّ قوله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ
عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ الشعراء:221-223،
من هذا الباب.