الموقع ما يزال قيد التجربة
غربة رسول الله صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع إلى يوم الفَجيعة الأعظم اقرأ في الملف استهلال من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام هذا الملف «شعائر» قراءة في نصوص أجواء وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله الشيخ حسين كوراني مقام الحبّ والبغض في سيرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله الشيخ عبد الحسين الأميني قدّس سرُّه البكاء عند المصيبة السيّد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرُّه |
استهلال
ومن كلام له عليه السّلام قاله وهو يلي غسل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم وتجهيزه:
بأبي أنت وأمّي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النّبوّة والإنباء وأخبار السّماء.
خصّصت حتّى صرت مسلياً عمّن سواك وعمّمت حتّى صار النّاس فيك سواء. ولولا أنّك أَمرت بالصّبر ونَهيتَ عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشّؤون، ولكان الدّاء مماطلاً والكمد محالفاً وقَلَّا لك، ولكنّه ما لا يملك ردّه ولا يُستطاع دفعه. بأبي أنت وأمّي اذكرنا عند ربّك واجعلنا من بالك.
(نهج البلاغة)
غربةُ رسول الله صلّى الله عليه وآله
قراءة في أجواء الوفاة
الثّامن والعشرون من شهر صفر هو يوم الفجيعة العظمى التي أصابت الأُمّة وسائر العالمين
بوفاة رسول الله وخاتم أنبيائه محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله.
وما لنا في هذا اليوم من كلماتٍ تليقُ بالمقام المحمّديّ سوى قول وصيّه وحبيبه ووارثه وابن عمّه أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام:
«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ».
في هذا الملفّ الذي تخصّصه «شعائر» لهذه المناسبة، سنقرأ عدداً من النصوص والمقالات أوردناها على النحو التالي:
النصّ الأوّل: محاضرة لسماحة الشيخ حسين كوراني بعنوان «غربة رسول الله صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع إلى الوفاة».
النصّ الثاني: مقتطف من محاضرة للعلّامة المحقّق الشيخ عبد الحسين الأميني ويتحدّث فيه عن مقام الحبّ والبغض في سيرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.
والنصّ الثالث: بعنوان «البكاء عند المصيبة» للإمام المرجع السيّد عبد الحسين شرف الدين.
«شعائر»
من (الإرشاد) للشيخ المفيد
قراءة في نصوص أجواء وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله
_____ الشيخ حسين كوراني _____
(غربة رسول الله صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع إلى الوفاة) هو عنوان المحاضرة التي ألقاها العلّامة الشيخ حسين كوراني في إطار سلسلة المحاضرات والدروس حول السيرة النبويّة المُقدّسة. في هذه المحاضرة يتحدّث سماحته عن معنى الغربة وأبعادها في حياة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، وتتضمّن قراءة في نصوص أجواء الوفاة للشيخ المفيد.
يوم وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله هو يوم الفجيعة الأعظم بوجهَيها المؤلمَين:
1) فقدُ سيّد النبيّين صلّى الله عليه وآله.
2) وأنّه مضى غريباً مظلوماً لم يُقدَّر حقّ قدره، كما لم يُقدَّرِ اللهُ تعالى حقّ قدره.
أن يتوفّى سرّ الوجود والرحمة واللّطف فتلك فجيعة، ولكن أن يتوفّى مظلوماً فذلك أقسى على قلب كلّ مؤمن وأمَضّ. فكيف إذا خُتمت الغربة وخُتم الظلم للنبيّ الأعظم وكلامه ﴿..وَحْيٌ يُوحَى﴾ النجم:4، بأن يقال: (إنّ الرجل لَيهجر)، أو (غلب عليه الوجع)، أي أنّه يهذي!
عذراً يا ربّ، وعذراً يا صاحب الزمانّ ويا سادتي يا أهل البيت.
السبب المركزي لكلّ هذا الأذى والغربة هو:
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، أمضى عمره يبلّغ عن الله، تعالى، أنّ بقاء الإسلام يتوقّف على وجوب حبّ أهل البيت، عليهم السلام، وعلى طاعتهم. وكانت قريش بعد أن عجزت عن القضاء على رسول الله صلّى الله عليه وآله، تعمل لصرف الخلافة عن أهل البيت. وفي روايات الفترة الأخيرة من عمره الشريف حشدٌ هائل من الأدلّة على محاولات قريش المتكرّرة التي خُتمت بقول القائل: (غلب عليه الوجع، إنّ الرجل ليَهجُر)!
كلّ هذا الظلم لرسول الله صلّى الله عليه وآله، والأذى الذي لم يؤذَ نبيٌّ بمثله، لأنه بلّغ عن الله تعالى أنّ بقاء الإسلام رهن حبّ أهل البيت عليهم السلام، وطاعتهم، وعدم تقديم أحد عليهم.
بدأ صلّى الله عليه وآله تأكيد خلافة أمير المؤمنين، ووجوب حبّ أهل البيت وطاعتهم عليهم السلام قبل الهجرة. وعندما نزلت آية الإنذار: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ الشعراء:214، يومها قال لعليٍّ عليه السلام: «أَنْتَ خَليفَتي مِنْ بَعْدي».
كانت قريش، في البداية، تريد قتل الرسول صلّى الله عليه وآله، ولم تكن تُدخل في حسابها أنّ هناك مجالاً لبقائه حيّاً ليَستخلِف.
وفي مرحلةٍ تالية - خصوصاً بعد السنة الخامسة للهجرة، أي بعد حرب الخندق - تصاعدت وتيرة العمل ضدّ أهل البيت عليهم السلام، وإيذاء النبيّ بهم. وصولاً إلى الصحيفة التي تعاقدوا وتعاهدوا فيها على منع أهل البيت عليهم السلام - أي منع عليّ عليه السلام - من استلام خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله.
وفي المقابل، كان الهدف المركزيّ في القرآن الكريم وسيرة الرسول صلّى الله عليه وآله، وحديثه على المنبر، وغيره، هو تثبيت موقع أهل البيت عليهم السلام كاستمرارٍ حصريٍّ له، صلّى الله عليه وآله.
استبطأت العربُ وفاة الرسول
أورد ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه على (نهج البلاغة) النصّ التالي:
«قال له قائل: يا أمير المؤمنين! أرأيتَ لو كان رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تركَ وَلَداً ذكراً قد بَلَغ الحُلُمَ، وآنس منه الرّشد، أكانَت العَرَبُ تُسَلِّمُ إليه أمرها؟
قال: لا، بَلْ كانَتْ تَقْتُلُهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما فَعَلْتُ، إِنَّ العَرَبَ كَرِهَتْ أَمْرْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَحَسَدَتْهُ عَلى ما آتاهُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ، وَاستطَالَتْ أَيّامَهُ حَتّى قَذَفَتْ زَوْجَتَهُ، ونَفّرَتْ بِهِ ناقَتَهُ، مَعَ عَظيمِ إِحْسانِهِ إِلَيْها، وَجَسيمِ مِنَنِهِ عِنْدَها، وَأَجْمَعَتْ مُذْ كانَ حَيّاً عَلى صَرْفِ الأَمْرِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَلَوْلا أَنَّ قُرَيْشاً جَعَلَتْ اسْمَهُ ذَريعَةً إِلى الرِّئاسَةِ، وَسُلَّماً إِلى العِزِّ وَالإِمْرَةِ، لَما عَبَدَتِ اللهَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَوْماً واحِداً، وَلارْتَدَّتْ في حافِرَتِها، وَعادَ قارِحُها جَذَعَاً، وَبازِلُها بِكْراً.
ثُمَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْها الفُتوحَ، فَأَثْرَتْ بَعْدَ الفاقَةِ، وَتَمَوَّلَتْ بَعْدَ الجُهْدِ وَالمَخْمَصَةِ، فحَسُنَ في عُيونِها مِنَ الإِسْلامِ ما كانَ سَمْجاً، وَثَبَتَ في قُلُوبِ كَثيرٍ مِنْها مِنَ الدّينِ ما كانَ مُضْطَرِباً، وَقالَتْ: لَوْلا أَنَّهُ حَقٌّ لَما كانَ كَذا!
ثُمَّ نَسَبَتْ تِلْكَ الفُتُوحَ إِلى آراءِ وُلاتِها، وَحُسْنِ تَدْبيرِ الأُمَراءِ القائِمينَ بِها، فَتَأَكَّدَ عِنْدَ النّاسِ نَباهَةُ قَوْمٍ وَخُمولُ آخَرينَ! فَكُنّا نَحْنُ مِمَّنْ خَمُلَ ذِكْرُهُ، وَخَبَتْ نارُهُ، وَانْقَطَعَ صَوتُهُ وَصِيْتُهُ، حَتّى أَكَلَ الدَّهْرُ عَلَيْنا وَشَرِبَ!
وَمَضَتِ السُّنونُ وَالأَحْقابُ بما فيها، وَماتَ كَثيرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ، وَنَشأَ كَثيرٌ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ. وَما عَسَى أَنْ يَكونَ الوَلَدُ لَوْ كانَ!
إِنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَرِّبْني - ما تَعْلَمُونَهُ مِنَ القُرْبِ - للَنَّسَبِ وَاللُّحْمَةِ، بَلْ للجِهادِ وَالنَّصيحَةِ، أَفَتراهُ لَوْ كانَ لَهُ وَلَدٌ هَلْ كانَ يَفْعَلُ ما فَعَلْتُ؟ وَكَذاكَ (كذلك) لَمْ يَكُنْ يقرُب ما قرُبت؟! ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ قُرَيْشٍ وَالعَرَبِ سَبَباً للحُظْوَةِ وَالمَنْزِلَةِ، بَلْ للحِرْمانِ وَالجَفْوَةِ!
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ إِنّي لَمْ أَرِدِ الإِمْرَةَ وَلا عُلُوَّ المُلْكِ وَالرِّئاسَةِ، وَإِنَّما أَرَدْتُ القِيامَ بِحُدوُدِكَ، وَالأَداءَ لِشَرْعِكَ، وَوَضْعَ الأُمورِ في مَواضِعِها، وَتَوْفيرَ الحُقوقِ عَلى أَهْلِها، وَالمُضِيَّ عَلى مِنْهاجِ نَبِيِّكَ وَإِرْشَادَ الضّالِّ إِلى أَنْوارِ هِدايَتِكَ».
وممّا يؤكّد استعجال (القوم) موت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بدر منهم ليلة (العقبة) عند عودة رسول الله صلّى الله عليه وآله من غزوة تبوك، قبل حجّة الوداع بِسنَتَيْن، حينما نفّروا به ناقته لتُلقي به صلّى الله عليه وآله في الوادي، ولكنّ مؤامرتهم باءت بالفشل.
لنتابع من هنا ما حصل من حجّة الوداع إلى وفاته صلّى الله عليه وآله، ليتّضح أنّ جوَّ قريش كان الإصرار على منع الخلافة عن عليٍّ وأهل البيت عليهم السلام، وكان كلّ هدف النبيّ صلّى الله عليه وآله تثبيت ولايتهم، بما هو أعمّ من السلطة الظاهرية والحكم.
حجّة الوداع
كان عليّ عليه السلام قد توجّه إلى اليمن، فكتب إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله، ليقدم إلى مكّة للحجّ. قال الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه في (الإرشاد) ما يلي:
([كان] رسول الله صلّى الله عليه وآله ".." قد أنفذه عليه السّلام إِلى اليَمَنِ لِيُخَمِّسَ زَكاتَها، وَيَقْبِضَ ما وافَقَ عَلَيْهِ أَهْل نَجْرانَ مِنَ الحُلَلِ وَالعَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (...).
[و] أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله التوجّه للحجّ وأداء فرْض الله تعالى عليه فيه، فأذّن في الناس به، وبلغت دعوته عليه السلام أقاصي بلاد الإسلام، فتجّهز الناس للخروج وتأهّبوا معه، وحضر المدينة من ضواحيها ومن حولها وبقرب منها خلقٌ كثير، وتهيّأوا للخروج معه، فخرج النبيّ صلّى الله عليه وآله بهم لخمسٍ بقين من ذي القعدة، وكاتب أمير المؤمنين عليه السلام بالتوجّه إلى الحجّ).
تعجيل الإمام لملاقاة الرسول عليهما الصلاة والسلام
يتابع الشيخ المفيد:
(فلما قارب رسول الله صلّى الله عليه وآله مكّة من طريق المدينة، قاربها أمير المؤمنين عليه السلام من طريق اليمن، وتقدّم الجيشَ للقاء النبيّ صلّى الله عليه وآله، وخلّف عليهم رجلاً منهم، فأدرك النبيَّ عليه وآله السلام وقد أشرف على مكّة، فسلّم وخبّره بما صنع وبقبض ما قبض، وأنّه سارع للقائه أمام الجيش، فسُرَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك، وابتهج بلقائه، وقال له:
«بِما أَهْلَلْتَ يا عَلِيُّ؟»
فقال له: «يا رَسولَ اللهِ، إِنَّكَ لَمْ تَكْتُبْ إِلَيَّ بِإِهْلالِكَ وَلا عَرَّفْتَنيهِ، فَعَقَدْتُ نِيَّتي بِنِيَّتِكَ، وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِهْلالاً كَإِهْلالِ نَبِيِّكَ، وَسُقْتُ مَعي مِنَ البُدْنِ أَرْبَعاً وَثَلاثينَ بُدْنَةً».
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «اللهُ أَكْبَرُ، فَقَدْ سُقْتُ، أَنا، سِتّاً وَسِتّينَ، وَأَنْتَ شَريكي في حَجّي وَمَناسِكي وَهَدْيي، فَأَقِمْ عَلى إِحْرامِكَ، وَعُدْ إِلى جَيْشِكَ فَعَجِّلْ بِهِمْ إِلَيَّ حَتّى نَجْتَمِعَ بِمَكَّةَ إِنْ شاءَ اللهُ».
فودعّه أمير المؤمنين عليه السلام وعاد إلى جيشه، فلقيَهم عن قُرب، فوجدهم قد لبسوا الحلل التي كانت معهم، فأنكر ذلك عليهم، وقال للذي كان استخلفه فيهم:
«وَيْلَكَ، ما دَعاكَ إِلى أَنْ تُعْطِيَهُمُ الحُلَلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَدْفَعَها إِلى النَّبِيِّ عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ، وَلَمْ أَكُنْ أَذِنْتُ لَكَ في ذَلِكَ؟».
فقال: سألوني أن يتجمّلوا بها، ويُحرموا فيها، ثمّ يردّونها عَلَيَّ. فانتزعها أمير المؤمنين عليه السلام من القوم، وشدّها في الأعدال، فاضطغنوا لذلك عليه.
فلمّا دخلوا مكّة كثرت شكايتهم من أمير المؤمنين عليه السلام، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله مناديه فنادى في الناس: «ارْفَعوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ، فَإِنَّهُ خَشِنٌ في ذاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، غَيْرُ مُداهِنٍ في دينِهِ»، فكفّ الناس عن ذِكره، وعلموا مكانه من النبيّ صلّى الله عليه وآله، وسخطَه على من رامَ الغميزة فيه. فأقام أمير المؤمنين عليه السلام على إحرامه تأسّياً برسول الله صلّى الله عليه وآله.
وكان قد خرج مع النبيّ صلّى الله عليه وآله كثيرٌ من المسلمين بغير سياق هَدي. فأنزل الله عَزَّ ذكره: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ..﴾ البقرة:196.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ - وشبك بين أصابع إحدى يديه بالأخرى - إِلى يَوْمِ القِيامَةِ».
ثم قال عليه وآله السلام: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْري ما اسْتَدْبَرْتُ، ما سُقْتُ الهَدْيَ».
ثمّ أمر مناديه فنادى: «مَنْ لَمْ يَسُقْ مِنْكُمْ هَدْياً فَلْيُحِلَّ وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً، وَمَنْ ساقَ مِنْكُمْ هَدْياً فَلْيُقِمْ عَلى إِحْرامِهِ».
فأطاع بعض الناس في ذلك وخالف بعض، وجرت خطوبٌ بينهم فيه، وقال منهم قائلون: إنّ
رسول الله صلّى الله عليه وآله أشعث أغبر، ونلبس الثياب ونقرب النساء وندّهن!
وقال بعضهم: أما تستحيون أن تخرجوا ورؤوسكم تقطر من الغسل، ورسول الله صلّى الله عليه وآله على إحرامه!
فأنكر رسول الله على من خالف في ذلك وقال: «لَوْلا أَنّي سُقْتُ الهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ وَجَعَلْتُها عُمْرَةً، فَمَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْياً فَلْيُحِلَّ» فرجع قومٌ وأقام آخرون على الخلاف.
وكان فيمن أقام على الخلاف للنبيّ صلّى الله عليه وآله عمر بن الخطاب، فاستدعاه رسول الله عليه وآله السلام وقال له: «ما لي أَراكَ - يا عُمَرُ – مُحْرِماً، أَسِقْتَ هَدْياً؟!»، قال: لم أسُق، قال: «فَلِمَ لا تُحِلُّ وَقَدْ أَمَرْتُ مَنْ لَمْ يَسُقِ الهَدْيَ بِالإِحْلالِ؟» فقال: واللهِ يا رسولَ الله لا أحللتُ وأنت محرِم، فقال له النبيّ عليه وآله السلام: «إِنَّكَ لَنْ تُؤْمِنَ بِها حَتّى تَموتَ!».
فلذلك أقام على إنكار متعة الحجّ، حتى رَقِيَ المنبر في إمارته فنهى عنها نهياً مُجدّداً، وتوعّد عليها بالعقاب!
في طريق العودة
لمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع، وصار بغدير خمّ، أمر الله، عزّ وجلّ، جبرئيل عليه السلام أن يهبط على النبيّ وقت قيام الظهر من ذلك اليوم، وأمره أن يقوم بولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأن ينصبه علَماً للناس بعده، وأن يستخلفه في أمّته، قال الشيخ المفيد:
ثمّ أمر مناديَه فنادى في الناس بالصلاة. فاجتمعوا من رحالهم إليه، وإنّ أكثرهم ليلفّ رداءه على قدميه من شدّة الرمضاء. فلمّا اجتمعوا صعد عليه وآله السلام، على تلك الرحال حتّى صار في ذروتها، ودعا أمير المؤمنين عليه السلام فرقي معه حتّى قام عن يمينه، ثمّ خطب للناس فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ في الموعظة، ونعى إلى الأمّة نفسَه، فقال عليه وآله السلام: «إِنّي قَدْ دُعيتُ وَيوشِكُ أَنْ أُجيبَ، وَقَدْ حانَ مِنّي خُفوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَإِنّي مُخَلِّفٌ فيكُمْ ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضلّوا أَبَداً: كِتابَ اللهِ وَعِتْرَتي أَهْلَ بَيْتي، وَإِنَّهُما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ».
ثمّ نادى بأعلى صوته: «أَلَسْتُ أَوْلى بِكُمْ مِنْكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ؟» فقالوا: اللّهمّ بلى، فقال لهم على النسق، وقد أخذ بضِبعَي [الضبْع: وسط العضد] أمير المؤمنين عليه السلام فرفعهما حتى رُئي بياض إبطيهما، وقال: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ».
ثمّ نزل صلّى الله عليه وآله - وكان وقت الظهيرة – فصلّى ركعتين، ثمّ زالت الشمس فأذّن مؤذّنه لصلاة الفرض، فصلّى بهم الظهر، وجلس صلّى الله عليه وآله في خيمته، وأمر عليّاً أن يجلس في خيمةٍ له بإزائه، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنّئوه بالمقام، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلّهم، ثمّ أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه، ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين، ففعلن.
وكان ممّن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطاب، فأظهر له المسرّة به، وقال فيما قال: بخٍ بخٍ يا عليّ، أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة.
وجاء حسّان إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له: يا رسولَ الله، إئذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه الله؟ فقال له: «قُلْ يا حَسّانُ عَلى اسْمِ اللهِ». فوقف على نشز [مرتفع] من الأرض، وتطاول المسلمون لسماع كلامه، فأنشأ يقول:
يُناديهِمْ يَوْمَ الغَديرِ نَبِيُّهُمْ |
بِخُمٍّ وَأَسْمِعْ بِالرَّسولِ مُنادِيا |
وَقالَ: فَمَنْ مَولاكُمْ وَوَلِيُّكُمْ؟ |
فَقالوا وَلَمْ يُبْدوا هُناكَ التَّعادِيا |
إِلَهُكَ مَوْلانا وَأَنْتَ وَلِيُّنا |
وَلَنْ تَجِدَنَّ مِنّا لَكَ اليَوْمَ عاصِيا |
فَقالَ لَهُ: قُمْ يا عَلِيُّ فَإِنَّني |
رَضيتُكَ مِنْ بَعْدي إِماماً وَهادِيا |
فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذا وَلِيُّهُ |
فَكونوا لَهُ أَنْصارَ صِدْقٍ مَوالِيا |
هُناكَ دَعا: اللَّهُمَّ والِ وَلِيَّهُ |
وَكُنْ للّذي عادى عَلِيّاً مُعادِيا |
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لا تَزالُ - يا حَسّانُ - مُؤَيَّداً بِروحِ القُدُسِ ما نَصَرْتَنا بِلِسانِكَ».
قال المفيد: وإنّما اشترط رسول الله صلّى الله عليه وآله في الدعاء له [لحسّان]، لعلمه بعاقبة أمره في الخلاف، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الإطلاق.
عندما تحقّق صلّى الله عليه من دنوّ أجله
تقدّم قول النبي صلّى الله عليه وآله في خطبته يوم الغدير «قَدْ حانَ مِنّي خُفوقٌ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» لذلك شدّد على جملة من الوصايا ترتبط بمستقبل الأمّة؛ قال الشيخ المفيد:
تحقّق [صلّى الله عليه وآله] من دنوّ أجله ما كان قدّم الذكر به لأمّته، فجعل عليه السلام يقوم مقاماً بعد مقام في المسلمين يُحذّرهم من الفتنة بعده والخلاف عليه، ويؤكّد وصايتهم بالتمسّك بسنّته والاجتماع عليها والوفاق، ويحثّهم على الاقتداء بعترته والطاعة لهم والنصرة والحراسة والاعتصام بهم في الدين، ويزجرهم عن الخلاف والارتداد. فكان فيما ذكره من ذلك عليه وآله السلام، ما جاءت به الرواة على اتّفاق واجتماع من قوله عليه السلام: «أَيُّها النّاسُ، إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنْتُمْ وارِدونَ عَلَيَّ الحَوْضَ، أَلا وَإِنّي سائِلُكُمْ عَنِ الثَّقَلَيْنِ، فَانْظُروا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّ اللَّطيفَ الخَبيرَ نَبَّأَني أَنَّهُما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَلْقِياني، وَسَأَلْتُ رَبّي ذَلِكَ فَأَعْطانيهِ، أَلا وَإِنّي قَدْ تَرَكْتُهُما فيكُمْ: كِتابَ اللهِ وَعِتْرَتي أَهْلَ بَيْتي، فَلا تَسْبِقوهُمْ فَتَفَرَّقوا، وَلا تُقَصِّروا عَنْهُمْ فَتَهْلِكوا، وَلا تُعَلِّموهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ.
أَيُّها النّاسُ، لا أَلْفِيَنَّكُمْ بَعْدي تَرْجِعُونَ كُفّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ، فَتَلْقوني في كَتيبَةٍ كَمَجَرِّ السَّيْلِ الجَرّارِ، أَلا وَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِبٍ أَخي وَوَصِيّي، يُقاتِلُ بَعْدي عَلى تَأْويلِ القُرْآنِ كَما قاتَلْتُ عَلى تَنْزيلِهِ».
فكان عليه وآله السلام يقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه.
جيش أسامة
ثمّ إنّه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة، وندَبه أن يخرج بجمهور الأُمّة إلى حيث أُصيب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأيه عليه السلام على إخراج جماعة من متقدّمي المهاجرين والأنصار في معسكره، حتّى لا يبقى في المدينة عند وفاته صلّى الله عليه وآله من يختلف في الرئاسة، ويطمع في التقدّم على الناس بالإمارة، ويستتبّ الأمر لمَن استخلفه من بعده، ولا ينازعه في حقّه منازع ".." وجدّ عليه وآله السلام في إخراجهم، فأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى (الجرف) [موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام]، وحثّ الناس على الخروج إليه والمسير معه، وحذّرهم من التلوّم والإبطاء عنه.
الاستغفار لأهل البقيع
فبينا هو في ذلك، إذ عرضت له الشكاة التي توفّي فيها، فلمّا أحسّ بالمرض الذي عراه أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام واتّبعه جماعة من الناس وتوجّه إلى البقيع، فقال لمن تبعه: «إِنَّني قَدْ أُمِرْتُ بِالاسْتِغْفارِ لِأَهْلِ البَقيعِ»، فانطلقوا معه حتّى وقف بين أظهرهم فقال عليه السلام: « السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ القُبورِ، لَيَهْنِئْكُمْ ما أَصْبَحْتُمْ فيهِ مِمّا فيهِ النّاسُ، أَقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يَتْبَعُ آخِرُها أَوَّلَها».
ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً، وأقبل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: «إِنَّ جَبْرَئيلَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ يَعْرِضُ عَلَيَّ القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَقَدْ عَرَضَهُ عَلَيَّ العامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أَراهُ إِلّا لِحُضورِ أَجَلي».
ثم قال: «يا عَلِيُّ، إِنّي خُيِّرْتُ بَيْنَ خَزائِنِ الدُّنْيا وَالخُلودِ فيها أَوِ الجَنَّةِ، فَاخْتَرْتُ لِقاءَ رَبّي وَالجَنَّةَ، فَإِذا أَنا مُتُّ فَاغْسِلْني وَاسْتُرْ عَوْرَتي، فَإِنَّهُ لا يَراها أَحَدٌ إِلّا أُكْمِهَ».
اشتداد مرضه صلّى الله عليه وآله
ثمّ عاد إلى منزله، عليه وآله السلام، فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً، ثمّ خرج إلى المسجد معصوب الرأس، مُعتمداً على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بيُمنى يديه، وعلى الفضل بن عبّاس باليد الأخرى، حتّى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: «مَعاشِرَ النّاسِ، قَدْ حانَ مِنّي خُفوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فمَنْ كانَ لَهُ عِنْدي عِدَةٌ فَلْيَأْتِني أُعْطِهِ إِيّاها، ومَنْ كانَ لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ فَلْيُخْبِرْني بِهِ.
مَعاشِرَ النّاسِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ شَيْءٌ يُعْطيهِ بِهِ خَيْراً أَوْ يَصْرِفُ بِهِ عَنْهُ شَرّاً إِلّا العَمَل.
أيُّها النّاسِ، لا يَدَّعي مُدَّعٍ وَلا يَتَمَنّى مُتَمَنٍّ، وَالّذي بَعَثَني بِالحَقِّ لا يُنْجي إلّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَلَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟».
ثمّ نزل فصلّى بالناس صلاةً خفيفةً ودخل بيته، وكان إذ ذاك بيت أمّ سلمة، رضي الله، عنها فأقام به يوماً أو يومين.
فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله إلى بيتها لتتولّى تعليله، وسألتْ أزواج النبيّ عليه وآله السلام في ذلك فأذِنّ لها، فانتقل صلّى الله عليه وآله إلى البيت الذي أسكنَه عائشة، واستمرّ به المرض أيّاماً وثقل عليه السلام.
فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله صلّى الله عليه وآله مغمورٌ بالمرض، فنادى: الصلاة يرحمكم الله، فأُوذِنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله بندائه، فقال: «يُصَلّي بِالنّاسِ بَعْضُهُمْ فَإِنّني مَشْغولٌ بِنَفْسي».
فقالت عائشة: مروا أبا بكر، وقالت حفصة: مروا عُمرَ.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله حين سمع كلامهما ورأى حرص كلّ واحدة منهما على التنويه بأبيها وافتتانهما بذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وآله حيّ [قال]: «أُكْفُفْنَ، فَإِنَّكُنَّ صُوَيْحِباتُ يوسُفَ» [رواه البخاري في صحيحه 1: 172 ب 46، ومسلم في صحيحه 1: 313 / 94، 95، 101، والبيهقي في دلائل النبوة 7: 186]
ثمّ قام عليه وآله السلام مبادراً خوفاً من تقدّم أحد الرجلين، وقد كان أمرَهما عليه السلام بالخروج إلى أسامة، ولم يكن عنده أنّهما قد تخلّفا.
فلمّا سمع من عائشة وحفصة ما سمع، علم أنّهما متأخّران عن أمره، فبدر لكفّ الفتنة وإزالة الشبهة، فقام عليه السلام - وإنه لا يستقلّ على الأرض من الضعف - فأخذ بيده عليّ بن أبي طالب عليه السلام والفضل بن عبّاس، فاعتمدهما ورِجلاه تخطّان الأرض من الضعف.
فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب، فأومأَ إليه بيده أن تأخَّرْ عنه، فتأخّر أبو بكر وقام رسول الله صلّى الله عليه وآله مقامه، فكبّر، فابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأ بها أبو بكر، ولم يبنِ على ما مضى من فعاله.
فلمّا سلّم انصرف إلى منزله واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممّن حضر المسجد من المسلمين، ثمّ قال:
«أَلَمْ آمُرْ أَنْ تُنْفِذوا جَيْشَ أُسامَةَ؟!» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «فَلِمَ تَأَخَّرْتُمْ عَنْ أَمْري؟» فقال أبو بكر: إنّني كنت خرجتُ ثمّ عدت لأجدّد بك عهداً. وقال عمر: يا رسولَ الله، لم أخرج لأنّني لم أحبّ أن أسأل عنك الركب. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «فَأَنْفِذوا جَيْشَ أُسامَةَ، فَأَنْفِذوا جَيْشَ أُسامَةَ» يكرّرها ثلاث مرات. ثمّ أُغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف، فمكث هنيهةً مغمًى عليه، وبكى المسلمون وارتفع النحيبُ من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومَن حضر من المسلمين.
ائْتوني بِدَواةٍ وَكَتِفٍ، أكْتُبْ لَكُمْ كِتاباً لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَداً
فأفاق عليه وآله السلام فنظر إليهم، ثمّ قال: «ائْتوني بِدَواةٍ وَكَتِفٍ، أكْتُبْ لَكُمْ كِتاباً لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَداً» ثمّ أُغمي عليه، فقام بعض مَن حضر يلتمس دواةً وكتفاً، فقال له عمر: ارجع، فإنّه يَهْجُر!!! فرجع. وندم مَن حضره على ما كان منهم من التضجيع [التقصير] في إحضار الدواة والكتف، فتلاوموا بينهم فقالوا: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لقد أشفقنا من خلاف رسول الله.
فلمّا أفاق صلّى الله عليه وآله قال بعضهم: ألا نأتيك بكَتفٍ يا رسول الله ودواة؟ فقال: «أَبَعْدَ الّذي قُلْتُم؟ لا، وَلَكِنَّني أُوصيكُمْ بِأَهْلِ بَيْتي خَيْراً» ثمّ أعرض بوجهه عن القوم فنهضوا، وبقي عنده العبّاس والفضل بن العبّاس وعليّ بن أبي طالب وأهل بيته خاصّة، فقال له العبّاس: يا رسول الله، إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً من بعدك فبشّرنا، وإن كنتَ تعلم أنّا نُغلب عليه فأوصِ بنا، فقال: «أَنْتُمْ المُسْتَضْعَفونَ مِنْ بَعْدي». فنهض القوم وهم يبكون قد أيسوا من النبيّ صلّى الله عليه وآله.
«أرددوا عليَّ أخي عليّ بن أبي طالب، وعمّي»
فلمّا خرجوا من عنده قال عليه السلام: «ارْدُدوا عَلَيَّ أَخي عَلَيَّ بْنَ أَبي طالِبٍ وَعَمّي». فأنفَذوا من دعاهما فحضرا، فلمّا استقرّ بهما المجلس قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «يا عَبّاسُ، يا عَمَّ رَسولِ اللهِ، تَقْبَلُ وَصِيَّتي وَتُنْجِزُ عِدَتي وَتَقْضي عَنّي دَيْني؟» فقال العبّاس: يا رسول الله، عمّك شيخٌ كبير ذو عيالٍ كثير، وأنت تباري الريح سخاءً وكرماً، وعليك وعدٌ لا ينهضُ به عمّك.
فأقبلَ على أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: «يا أَخي، تَقْبَلُ وَصِيَّتي وَتُنْجِزُ عِدَتي وَتَقْضي عَنّي دَيْني وَتَقومُ بِأَمْرِ أَهْلي مِنْ بَعْدي؟»
قال: نَعَمْ يا رَسولَ اللهِ. فقال له: «ادْنُ مِنّي». فدنا منه، فضمّه إليه، ثمّ نزع خاتمه من يده فقال له: «خُذْ هَذا فَضَعْهُ في يَدِكَ». ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته، فدَفع ذلك إليه، والتمس عصابةً كان يشدّها على بطنه إذا لبس سلاحه وخرج إلى الحرب، فجيءَ بها إليه، فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: «امْضِ عَلى اسْمِ اللهِ إِلى مَنْزِلِكَ».
ادْعوا لي أَخي وَصاحِبي
فلمّا كان من الغد حجَبَ الناس عنه وثقُل مرضه، وكان أمير المؤمنين لا يفارقه إلّا لضرورة، فقام في بعض شؤونه، فأفاق عليه السلام إفاقةً فافتقد عليّاً عليه السلام فقال - وأزواجه حوله: «ادْعوا لي أَخي وَصاحِبي». وعاوده الضعفُ فأصمت، فقالت عائشة: ادعوا له أبا بكر. فدُعي، فدخل عليه فقعد عند رأسه، فلمّا فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه. فقام أبو بكر وقال: لو كان له إليّ حاجة لأفضى بها إليّ. فلما خرج أعاد رسول الله صلّى الله عليه وآله القول ثانية، وقال: «ادْعوا لي أَخي وَصاحِبي». فقالت حفصة: ادعوا له عمر. فدُعي، فلمّا حضر رآه النبيّ عليه السلام فأعرض عنه فانصرف.
ثمّ قال عليه السلام: «ادْعوا لي أَخي وَصاحِبي». فقالت أمّ سلمة رضيَ الله عنها: ادعوا له عليّاً، فإنّه لا يريد غيره، فدُعي أمير المؤمنين عليه السلام.
فلمّا دنا منه أومأَ إليه، فأكبّ عليه، فناجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله طويلاً، ثمّ قام فجلس ناحيةً حتّى أغفى رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال له الناس: ما الذي أوعزَ إليك يا أبا الحسن؟ فقال: «عَلَّمَني أَلْفَ بابٍ؛ فَتَحَ لي كُلُّ بابٍ أَلْفَ بابٍ، وَوَصّاني بِما أَنا قائِمٌ بِهِ إِنْ شاءَ اللهُ».
ثمّ ثقل عليه السلام وحضره الموت وأمير المؤمنين عليه السلام حاضرٌ عنده. فلمّا قرب خروج نفسه قال له: «ضَعْ رَأْسي، يا عَلِيُّ، في حِجْرِكَ، فَقَدْ جاءَ أَمْرُ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذا فاضَتْ نَفْسي فَتَناوَلْها بِيَدِكَ وَامْسَحْ بِها وَجْهَكَ، ثُمَّ وَجِّهْني إِلى القِبْلَةِ، وَتَوَلَّ أَمْري، وَصَلِّ عَلَيَّ أَوَّلَ النّاسِ، وِلا تُفارِقْني حَتّى تُوارِيَني في رِمْسي، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ تَعالى». فأخذ عليّ عليه السلام رأسه فوضعه في حجره فأُغميَ عليه، فأكبّت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي، وتقول:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقى الغَمامُ بِوَجْهِهِ ثِمالُ اليَتامى عِصْمَةٌ للأَرامِلِ
ففتح رسول الله صلّى الله عليه وآله عينيه وقال بصوت ضئيل:
«يا بُنَيَّة، هَذا قَوْلُ عَمِّكِ أَبي طالِبٍ، لا تَقوليه، وَلَكِنْ قولي: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...﴾ آل عمران:144».
[المعنى: يا بنيّة ليس الجوّ جوَّ إقبال الناس على أبيك والتبرّك به كما قال كافلي عمّك أبو طالب، بل أقبلتِ الفتنُ كقطع اللّيل المظلم، الله خليفتي عليكم، بدأ الانقلابُ على الأعقاب فاقرَئي ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ...﴾ الآية]
فبكت طويلاً، فأومأ إليها بالدنوّ منه، فدنت فأسرّ إليها شيئاً تهلّل له وجهُها.
ثمّ قضى عليه السلام ويدُ أمير المؤمنين عليه السلام اليمنى تحتَ حنكه، ففاضت نفسه عليه السلام فيها، فرفعها إلى وجهه فمسحَه بها، ثمّ وجّهه، وغمّضه، ومدّ عليه إزاره، واشتغل بالنظر في أمره.
فجاءت الرواية: أنّه قيل لفاطمة عليها السلام: ما الذي أسرّ إليك رسول الله صلّى الله عليه وآله، فسُرّيَ عنك ما كُنت عليه من الحزن والقلق بوفاته؟ قالت: «إِنَّهُ خَبَّرَني أَنَّني أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحوقاً بِهِ، وَأَنَّهُ لَنْ تَطولَ المُدَّةُ بي بَعْدَهُ حَتّى أُدْرِكَهُ، فَسُرِّيَ ذَلِكَ عَنّي».
من محاضرة للعلّامة المحقّق الشيخ عبد الحسين الأميني
مقام الحبّ والبغض في سيرة الرسول الأعظم
_____ أعدّها للنشر: محمّد صالح _____
في هذه المقالة للعلّامة المحقّق الشيخ عبد الحسين الأميني إطلالة على واحدة من أبرز القضايا العقيديّة والأخلاقيّة، وهي المتعلّقة بالحبّ والبغض وصلتها بعقيدة التوحيد. فيها نقرأ تأصيلاً لهذه القضيّة استناداً إلى الآيات الشريفة من كتاب الله، والسنّة النبويّة والأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
نشير إلى أنّ هذا النص هو جزء من محاضرة ألقاها العلّأمة في الستينيّات، وصدرت في كتاب تحت عنوان (سيرتنا وسنّتنا).
«شعائر»
لله تعالى الأوّلية والأولوية في الحبّ، والذي يوجد لدى غيره من دواعي الحبّ وأسبابه؛ فمن رشحة فضله، وغيث جوده، ونفحة عطفه ولطفه، وإليه تنتهي حلقات الوجود، وإلى عوارف رحمته تمتدّ سلاسل الحياة، ومنه جلّ وعلا سوابغ النعم، وصفو المنائح والمنن، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ..﴾ النحل:53، فمن قدّم غيره تعالى عليه في الحبّ فقد شذّ عن حكم العقل، وقدّم الممكن على الواجب، وآثر المعلول على العلّة، وعلى الله أن يؤاخذه بذلك ويعاقبه كما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة:24.
ولمّا لم تك تحدّ تلكم الصفات - صفات الواجب تعالى - ولا تقف دون حدٍّ موصوف، فالحبّ الذي تستتبعه هي - وهو وليدها، وينبعث هو منها - لا بدّ من أن يكون غير محدود، ولا يتصوَّر فيه قطّ غلوّ، وإنْ بلغ ما بلغ، إذ الغلوّ إنّما هو التجاوز عن الحدّ، والخروج عن القياس المعيّن المعروف بحدوده ومقاديره، فما لا حدّ له لا غلوّ فيه.
وإنّما يختلف الناس في مراتب الحبّ لله على عدد رؤوسهم لاختلافهم في العلم ببواعثه، وذلك أنّ الحب المنتزع من بواعثه وموجباته يستتبعه العلم بها، وينشأ ويقدّر بقدر الاطلاع عليها، وليس جميع أفراد الفئة المسلمة في معرفة الله وصفاته على حدٍّ سواء، بل: لكلّ امرئٍ منهم نصيب يخصّ به، وحظّ لا يشاركه فيه غيره، ومبلغ من العلم بذلك لا يدانيه أحد. ولكلّ فرد شأن يغنيه.
والحبّ لله، جلّ وعلا، إنّما يثمر وينتج للعبد عندما يتحقّق التحابب من الطرفين، ولا يتأتّى ذلك إلا بعدما يوجد لدى العبد أيضاً بواعث ودواعي يحبّه الله بها، وإليها يومىء قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ..﴾ آل عمران:31. ومن أجلى أفراد تلك الفئة الصالحة عباد الله المخلصين، مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، وقد عرّفه بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله في حديث الراية الصحيح الثابت المتواتر المتّفق عليه بقوله: «لأُعْطِيَنَّ الرّايَةَ غَداً رَجًلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ، وَيُحبُّهُ اللهُ وَرَسولُهُ».
وإذا تمّ التحابب، وحصلت الصلة من الطرفين، يترتّب عندئذٍ على الحبّ كلّ فضيلة، ويستأهل العبد بذلك كلّ عناية من الله تعالى وكرامة، وتحصل له القربى والزلفى لديه حتى يكون عنده مشرّفاً بما جاء في (صحيح البخاري) من الحديث القدسي: «ما يَزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الّتي يَمْشي بِها، وَإِنْ سَأَلَني لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعاذَني لَأُعيذَنَّهُ» الحديث.
وهذا الوسيط في الحبّ الذي هو رمز الصلة بين الله وبين مَن آمن به، ووسيلة العباد إليه، وباتّباعه تدرَك سعادة الدارَين، وبه يفوز المؤمنون في النشأتين، وتنزل لهم البركات في العاجل والآجل، له الأوّلية والأولوية في الحبّ... وله السبق في ذلك إلى كافة الموجودات، وإلى جميع ما صوّرته يد القدرة في عالم الوجود، وإلى هذا يوعز ما جاء في الصحيح من قوله صلّى الله عليه وآله: «أَحِبُّوا اللهَ لِما يَغْذُوكم بِهِ، وَأَحِبّوني بِحُبِّ اللهِ، وَأَحِبّوا أَهْلَ بَيْتي لِحُبّي»، وهذه هي قاعدة الاعتبار في النسب والإضافات التي سيوافيك تفصيلها.
هذه ناحية واحدة من بواعث حبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهناك نواحٍ شتّى لا تعدّ ولا تستقصى، نظراً إلى صلته الوثيقة بالله، وانتسابه الأكيد إلى المولى سبحانه تارة، وإلى ما جعل الله له من مناقب وفضائل، وإلى شخصيّته الفذّة العظيمة وما يحمله بين جوانحه من محاسن ومحامد، وملكات ونفسيّات، يستدعي كلّ منها حبه والتعشّق به قبل كلّ شيء بعد الله تبارك وتعالى.
فهو صلّى الله عليه وآله مع قطع النظر عن فضائل طينته وعنصره ومحتده، وما في خَلقه وخُلقه، ومولده ونشأته، ومكارم أخلاقه ونفسياته الكريمة، وكراماته ومقاماته، ونعوته وصفاته المتكثّرة التي تخصّ به، لو لم يك فيه إلّا كونه غايةً للوجود، ولولا هو صلّى الله عليه وآله لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً، وما وهدت له الأرض، ولم ترفع سماء، وإنّه صلّى الله عليه وآله أَولى بالبريّة من أنفسهم بولايته العامّة الكبرى التي قورنت بولاية الله تعالى في كتابه، لكان أجدر وأحرى وأولى وأحقّ بأن يكون أحبّ لكلّ امرئ آمن به وصدّقه، من نفسه وما تحواه، ومن ذاته وممّن يمتّ به من أهله وولده ووالده وذويه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه والناس أجمعين.
وليست الأمّة المؤمنة في ذلك شرعاً سواء، بل هم فيه على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حبّ الله تعالى، قال الإمام القرطبي: «كلّ مَن آمن بالنبي صلّى الله عليه [وآله] إيماناً صحيحاً، لا يخلو عن وجدان شيءٍ من تلك المحبّة الراجحة، غير أنّهم متفاوتون: فمنهم مَن أخذ من تلك المرتبة بالحظّ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظّ الأدنى، كمن كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الفضلات في أكثر الأوقات، لكنّ الكثير منهم إذا ذُكر النبيّ صلّى الله عليه [وآله] اشتاق إلى رؤيته بحيث يُؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مَخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردّد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤْثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر في قلوبهم من محبّته، غير أنّ ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، والله المستعان».
وعلى هذا الأصل المتسالم عليه قد جاء في (الصحيح) مرفوعاً من طريق أنس بن مالك:
* «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعينَ».
* «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ».
* «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعينَ».
* وفي حديث آخر: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وفي لفظ: مِمَّنْ سِواهُما».
* وفي لفظ للبخاري: «حتّى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما».
* وأخرج النصيبي في (فوائده) من طريق أبي ليلى الأنصاري: « لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتّى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتكونَ عِتْرَتي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ عِتْرَتِهِ، وَيَكونَ أَهْلي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ».
* قال الإمام الفخر الرازي في (تفسيره): «إنّ الدعاء للآل منصبٌ عظيم، ولذلك جُعل هذا الدعاء خاتمةَ التشهّد في الصلاة، وقوله: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وارحم محمّداً وآله، وهذا التعظيم لم يوجَد في حقّ غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجبٌ». إلى أن قال: «أهل بيته صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ساووه في خمسة أشياء: في الصلاة عليه وعليهم في التشهّد، وفي السلام، وفي الطهارة، وفي تحريم الصدقة، وفي المحبّة».
وقد جاءت هذه الكلمة عن أمّة كبيرة من رجال المذاهب وأئمة الفقه والتفسير والحديث ذكرنا منها جملة كبيرة في مجلّدات كتابنا (الغدير).
فيتلو حبُّ رسول الله صلّى الله عليه وآله [حبَّ الله تعالى] في الرتبة، ويرادفه حبّ أهل بيته الطاهر بحكم الكتاب والسنّة والعقل والمنطق والاعتبار، ولا يفارق حبّهم وولاؤهم حبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وولاءه، كما لا ينفكّ حبّه وولاؤه صلّى الله عليه وآله عن حبّ الله وولائه، وقد تضافرت السنّة في ذلك وتواترت.
البكاء عند المصيبة
مشروعيّته وأحكامه في كتاب (النص والاجتهاد) للإمام شرف الدين
_____ إعداد: هيئة التحرير _____
من الأمور المهمّة التي توقّف عندها الفقهاء وبحثوا في أحكامها ما هو متعلّق بالبكاء عند المصيبة، والحدّ الذي ينبغي أن لا يتجاوزه كلّ مسلم وهو يعيش تأثّره بموت عزيز. هنا مقالة للإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه، اخترناها من كتابه المعروف (النصّ والاجتهاد).
«شعائر»
حُزنُ الإنسان عند موت أحبّته، وبكاؤه عليهم من لوازم العاطفة البشرية، وهما من مقتضيات الرحمة، ما لم يصحبهما شيء من منكرات الأقوال أو الأفعال.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في حديث عنه صحيح أخرجه الإمام أحمد عن ابن عبّاس: «مَهْما يَكُنْ مِنَ القَلْبِ وَالعَيْنِ فَمِنَ اللهِ وَالرَّحْمَة، وَمَهْما يَكُنْ مِنَ اليَدِ وَاللِّسانِ فَمِنَ الشَّيْطانِ».
والسيرة القطعية بين المسلمين وغيرهم مستمرّة على ذلك من غير نكير، وأصالة الإباحة تقتضيه.
على أنّ النبي صلّى الله عليه وآله نفسَه بكى في مقامات عديدة، وأقرّ غيره على البكاء في موارد، واستحسنه في موارد أُخر، وربّما دعا إليه.
بكى على عمّه الحمزة أسدِ الله وأسدِ رسوله؛ قال ابن عبد البرّ وغيره: «لمّا رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله حمزة قتيلاً بكى...».
وقال الواقدي: «وجعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم».
وعن أنس قال: (خطب النبيّ صلّى الله عليه وآله - إذ كان جيش المسلمين في مؤتة - فقال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» - وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لَتَذْرِفَانِ) (...)
وعن أنس من حديثٍ أخرجه البخاري في (صحيحه) قال فيه: ثمّ دخلنا عليه صلّى الله عليه وآله، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلّى الله عليه وآله تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسول الله؟ فقال: «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ» (...)
وفي ترجمة جعفر من (الاستيعاب) قال: لمّا جاء النبيَّ صلّى الله عليه وآله نعيُ جعفر، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها، قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: واعمّاه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «عَلى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ البَواكي».
وذكر أهل السِّير والأخبار كابن جرير وابن الأثير وابن كثير وصاحب (العقد الفريد) وغيرهم، ما قد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في مسنده، من أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا رجع من «أُحد» جعلت نساء الأنصار يبكينَ على مَن قُتل من أزواجهنّ، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ». قال: ثمّ نام فانتبه وهنّ يبكين، قال: «فَهُنَّ اليَوْمَ إِذا يَبْكينَ يَنْدُبْنَ حَمْزَةَ».
وفي ترجمة حمزة من (الاستيعاب) نقلا عن الواقدي، قال: لم تبكِ امرأةٌ من الأنصار على ميّت - بعد قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ» - إلى اليوم، إلّا بَدَأْنَ بالبُكاء على حمزة.
قلت: حَسْبُكَ تلك السيرة المستمرّة على بكاء حمزة من عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعهد أصحابه والتابعين لهم بإحسان، وكفى بها في رجَحَان البكاء على من هو كحمزة، وإن بعُد العهد بموته.
ولا تنسَ ما في قوله صلّى الله عليه وآله: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ» من العتَب عليهنّ لعدم نياحتهنّ عليه، والبعث لهنّ على ندبه وبكائه. وحسبك به وبقوله صلّى الله عليه وآله: «عَلى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ البَواكي» دليلاً على الاستحباب.
ومع ذلك كلّه فقد كان من رأي الخليفة عمر بن الخطّاب النهي عن البكاء على الميّت مهما كان عظيماً، حتّى أنّه كان يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة، ويحثو التُّرابَ، يفعلُ هذا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، واستمرّ عليه طيلة حياته.
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عبّاس من جملة حديثٍ ذكر فيه موت رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبكاء النساء عليها، قال: فجعل عمر يضربهنّ بسوطه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله: «دَعْهُنَّ يَبْكِينَ»، وقعد على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي، قال: فجعل النبيّ صلّى الله عليه وآله يمسح عين فاطمة بثوبه رحمةً لها.
وأخرج أيضاً في مسند أبي هريرة حديثاً جاء فيه: أنّه مرّ على رسول الله صلى الله عليه وآله جنازةٌ معها بواكي فنهرهنّ عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «دَعْهُنَّ فَإِنَّ النَّفْسَ مُصابَةٌ، وَالعَيْنَ دامِعَةٌ».
وكانت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض، فكان عمر وابنه عبد الله يرويان عن النبيّ أنّه صلّى الله عليه وآله قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». وفي رواية: «بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ». وفي ثالثة: «بِبُكاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ». وفي رابعة: «يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ». وفي رواية خامسة: «مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذَّبُ». وهذه الروايات كلّها خطأ من راويها بحكم العقل والنقل.
قال الفاضل النووي (حيث أورد هذه الروايات في باب «الميّت يعذَّب ببكاء أهله عليه» من شرح صحيح مسلم): «هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله. (قال): وأنكرتْ عائشة عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه واحتجّت بقوله تعالى: ﴿..وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..﴾ الأنعام:164».
قلت: وأنكر هذه الروايات أيضاً ابن عبّاس، وأئمّة أهل البيت كافّة، واحتجّوا على خطأ راويها، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض حتّى ناحت على أبيها يوم وفاته، فكان بينها وبينه ما قد أخرجه الطبري عند ذكر وفاة أبي بكر في حوادث سنة 13 من الجزء الرابع من (تاريخه) بالإسناد إلى سعيد بن المسيّب.
قال: لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطّاب حتّى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء عليه، فأبينَ أن ينتهينَ، فقال عمر لهشام بن الوليد: أدخل فأخرِج إليّ ابنة أبي قحافة، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إنّي أُحَرِّجُ عليك بيتي. فقال عمر لهشام: أُدخل فقد أذنتُ لك، فدخل هشام فأخرج أمّ فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرّة فضربها ضرباتٍ فتفرّق النوَّح حين سمعوا ذلك.
وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحّي الزهراء عن البلد في نياحتها على أبيها صلّى الله عليه وآله، وخروجها بولديها في لمّةٍ من نسائها إلى البقيع يندُبنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، في ظلّ أراكة كانت هناك، [أراكة: نبات شجيريّ ينبت في البلاد الحارّة، وتُتَّخذ المساويك من فروعه] فلمّا قُطعت بنى لها عليٌّ عليه السلام بيتاً في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة يُدعى بيت الأحزان، وكان هذا البيت يُزار في كلّ خلَفٍ من هذه الأُمّة، كما تزار المشاهد المُقدّسة حتّى هُدم في هذه الأيّام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود النجدي، لمّا استولى على الحجاز وهدَم المُقدّسات في البقيع عملاً بما يقتضيه مذهبه الوهّابي، وذلك سنة 1344 للهجرة، وكنا سنة 1339 تشرّفنا بزيارة هذا البيت (بيت الأحزان)؛ إذ مَنّ الله علينا في تلك السنة بحجّ بيته وزيارة نبيّه ومشاهد أهل بيته الطيّبين الطاهرين في البقيع عليهم السلام.
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.