كتاب (روح الإيمان في الإسلام) للعلاّمة السيّد عبد
الصاحب الحسني العاملي رحمه الله
التَّوحيد الخالص
من كلّ شَوْب*
____ محمود إبراهيم ____
لو كان لي من رأي يقال بكلمات في كتاب، المغفور له،
الفقيه العارف السيّد عبد الصاحب الحسني العاملي، رحمه الله، لرحتُ إلى القول: إنّه
هندسة معرفيّة متقنة لمشروعٍ موسوعيٍّ حول فهم «روح الإيمان» في الإسلام.
في هذا الكتاب الذي يطابق عنوانُه حقيقتَه، وظاهرُه باطنه،
سنكون مع صاحبه يصحبنا إلى رحلة تعرُّف على رسالة الوحي لا تتوقّف عند حدّ. رحلة
لا تتناهى بفرعٍ من فروع الدين، أو بأصلٍ من أصوله. كلّ فرعٍ فيها يعود إلى أصله،
وكلّ أصلٍ يؤول إلى الأحد الصمد. فمَن لا يدرك الربط والوصل بين الخلق والبعث،
وبين المبدأ والمعاد وبين البعثة النبويّة الشريفة ومقاصدها، فليس له ممّا في روح
الإيمان من حظٍّ عظيم...
كذلك تتعرّفون على السيّد في مقالته الجامعة. فلو دخلتم
عالمه المعرفيّ لألفيتم أنفسكم وسط مدينة فاضلة تعدّدت منازلها، وتكثّرت محاريبها،
وكان للمتعرّفين فيها أحوال ومقامات، كما لكلّ متعرّف حال ومقام.. وكلّ بحسبه وسعَة
فهمه.
وكذلك نقرأ السيّد. فإنّ له إلينا من روح الإيمان منزلاً
أو حالاً أو مقاماً. فمن يقرأ يجد، ومن يجد، فسيُفلح بالوارد الإلهي الطالع من
الكلمات المؤيَّدة بالآيات، أو من الأحرف المسدّدة بتنزّلات الأملاك.
أفاض السيّد في تظهير مدارج الوحي من التوحيد إلى العدل.
ومنهما إلى عالم الناس عبر النبوّة والإمامة، ثمّ إلى ربّ العالمين عبر الرجعى
بالمعاد.
فسيلقى القارئ من ذلك كلّه، من كلّ أصل هداية، لكأنّما
ابتغى المؤلّف بيان ما ينبغي أن يُبيَّن. وما ذاك عنده إلّا للتذكير بالنافع من
الذكرى، وبالمُحكم من قواعد السلوك، وبالدقيق من لطائف العرفان؛ كما لو كان عليه
أن يؤدّي تكليفاً من الحقّ في عالمنا. فكتب للناس ما شاء له ربّ الناس. حتّى إذا
أتمّ ما أمر به الربّ استأمن. فكانت الكتابة عنده سعياً إلى الإنفاق والمجاهدة.
والسيّد على سيرة أهل اليقين، عارفٌ بما للإنفاق من
العلم من زيادة. فإنّه لآخذٌ ما وصّى به إمام الأئمة أهل العلم.
فالإنفاق من العلم عين العطاء والجود، به يُنال البرّ.
والبرّ عين المجاهدة وحصادها. وبالإنفاق يتحقّق الوصول إلى مقام الأولياء والصدّيقين
وأئمّة الهدى وأنبياء الرحمة. و«إذّاك يتحقّق البارّ» بالعلم ما لا يتحقّق بغير
الإنفاق من العلم. وهو الخلوص للحقّ عن طريق العناية بالخلق. وذلكم هو الإيمان
الأعظم. كما في قوله تعالى: ﴿..لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
آل عمران:92، وفي آيةٍ متّصلة: ﴿..وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا﴾ العنكبوت:69.
هنالك إذاً، وصلٌ إلهيٌّ وثيق بين الإنفاق من العلم،
والمجاهدة في طلبه، فإذا تحقّق ذلك من العالِم المُنفِق من علمه على الناس، حظيَ
بالقربى ونال مقام البرّ.
من هذا النحو نفهم ما جاد به السيّد، رحمه الله، من علوم
ومعارف وإضاءات، فإنّك لو توسّعت في القراءة والمطالعة والتلقّي، لكدت ترى مفاتيح
الغيب وقد صارت بين يديك. فعلى امتداد مئة وثلاثة عشر بحثاً في الأصول والفقه
والحديث والفلسفة والعرفان والأخلاق والفكر السياسي، سوف تفتّح لك نوافذ الاستهداء
إلى سُبل الحقّ.
بهذه النوافذ على الجملة، أراد، رضوان الله عليه، أن يقدّم
لنا هديّته المعرفية النادرة تحت عنوانٍ أصيل هو «روح الإيمان في الدين الإسلامي».
ولقد أفلح بالغاية إذ توّج أبحاثه بهذا العنوان، ذلك بأنّك لو قرأت البحث لألفيته
ينفرد بذاته، ثمّ لا يلبث أن يعود أدراجه إلى منشأه الأصليّ. فالإيمان هو جوهر
الدين وحقيقته، وهو الجامع بين الشريعة والحقيقة، بين فقه العبادات وفقه التخلّق،
وبين العقل والنقل.. حتّى ليكتمل الدين القيّم كما في قول الرسول الأعظم صلّى الله
عليه وآله: «إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخْلاقِ». ومن أجل
ذلك دار كلام الأوصياء، عليهم السلام، من أنّ لله على الناس حجّتَين: حجّة ظاهرة
وحجّة باطنة. فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول.
ولسوف يبيّن لنا السيّد كيف يكون العقل دليلَ المؤمن
ليتجلّى فيه روح الإيمان.
ولقد ظهر لي وأنا في «لجّة الاستقراء»، كيف أفاد
العلاّمة الحجّة من مدينة العلم حقيقة الإيمان. فقد تحصَّل لنا على وجه المعاينة،
أنّ للإيمان عند السيّد منازل ومراتب تتدرّج من الأدنى إلى الأعلى بحسب مقادير
المؤمنين وإدراكاتهم وأعمالهم. وهي التي رتّبها المحقّقون من العرفاء على ثلاثة.
1) إيمان أهل البداية: وهو عبارة عن تصديق مَشوب بالشكّ والشبهة والمعارضة،
لقوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ يوسف:106. والإيمان
في منزلة الابتداء قابل للزيادة والنقصان، وقد يؤدّي إلى الدخول في النار والخروج
منها بعد مدّة؛ أحقاباً أو أقل منها أو بقدر المعصية.
2) إيمان الوسط: وهو عبارة عن التصديق بما جاء به النبيّ صلّى الله عليه
وآله وسلّم تصديقاً لا يشوبه شكّ ولا شبهة، وهذا الإيمان قابل للزيادة وغير قابل
للنقصان، بخلاف الأوّل.
3) أمّا إيمان أهل النهاية: وهم الأنبياء والأولياء والعارفون، فإنّما هو عبارة عن تصديق
مجموع ذلك من حيث الكشف والشهود والذوق والعَيان، بحيث لا يخالجهم شكّ ولا شبهة مع
محبّة كاملة لمُوجدهم، وشوق تامّ لحضرته العالية المعبَّر عنه باللقاء والوصول
وغيرهما.
وإيمان أهل النهاية ليس بقابل للزيادة. إلّا أنّه يتضاعف
على نحو التسديد والتأييد والتثبيت من خلال الأعمال الحسنة. أو ما يعرَف بالإحسان،
وهو المسمّى بالحقّ اليقين لقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الإِحْسانُ
أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَراهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَراكَ».
وأمّا تحصيل الإيمان الكامل فعلى أربع دعائم كما يقول
أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وهي: «..الصَّبْرُ، وَاليَقينُ،
وَالعَدْلُ، وَالجِهادُ».
ولئن كان الصبر واليقين والعدل أسفاراً ومراحل يقطعها
السالك كضرورة لتحقيق الإيمان، فإنّ بلوغ الحدّ الأقصى من الإيمان يلزم القيام
بالسفر الرابع وهو «الجهاد الأعظم». والجهاد في هذا السفر لا يتيسّر إلّا لمَن قطع
تمهيدات الوصول إلى مرتبة الوليّ، واستقام بما أُمر به. وهذا سفر سياسيّ بامتياز،
وهو مقام عالٍ ليس يقدر على القيام بأمره إلّا أولو العزم. وهؤلاء هم الذين آلوا
على أنفسهم، بالاختيار والإرادة، أن ينالوا الشهادة وهم على يقين ممّا يفعلون.
وغالب الظنّ أنّ المؤلف، رحمه الله، ما كان ليطرق هذا
الركن الأعظم من أركان الإسلام، إلّا ليحمل قارئه على استذكار الفطرة الأولى، فإنّنا
بها ندرك روح الإيمان. وبالاستذكار يُكتب لنا الفهم بأنّ الإيمان واقع أصيل مُتحقّق
في زمن الإنسان، حيث الإيمان تلبية واستجابة لكلام الله تعالى وأوامره ونواهيه.
من محاضرة ألقيت في الذكرى السنوية
لرحيل العلاّمة الحجّة السيّد عبد الصاحب الحسني العاملي في بلدة مركبا (21 أيلول
2013)