وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا..﴾
كلامٌ في برّ
الأبوَين وعقوقهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلامة المجلسي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في (الكافي) الشريف، وفي مستهلّ باب البرّ بالوالدين،
أورد الشيخ أبو جعفر، محمّد بن يعقوب الكليني (ت: 329 هـ) حديثاً عن الإمام الصادق
عليه السلام في معنى الإحسان إلى الوالدين، وقد استشهد الإمام صلوات الله عليه في
سياقه بآياتٍ من القرآن الكريم.
هذا المقال، هو تفسير العلّامة المجلسي (ت: 1111 هـ)
للآيات المستشهَد بها، وشرحه لفقرات الرواية - بعد أن صحّحها – وقد اخترناه من
الجزء الثامن من كتابه (مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول) الذي صنّفه في شرح
(الكافي) لثقة الإسلام الكليني.
عَنْ
أَبِي وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام، عَنْ
قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿..وبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً..﴾ مَا هَذَا الإِحْسَانُ؟
فَقَالَ:
الإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ صُحْبَتَهُمَا، وأَنْ لَا تُكَلِّفَهُمَا أَنْ يَسْأَلَاكَ
شَيْئاً مِمَّا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ وإِنْ كَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ، ألَيْسَ يَقُولُ
الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.
(..)
ثُمَّ
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: وأَمَّا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ
ولا تَنْهَرْهُما﴾، [أي] إِنْ أَضْجَرَاكَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، ولَا
تَنْهَرْهُمَا إِنْ ضَرَبَاكَ. (..)
﴿وقُلْ
لَهُما قَوْلاً كَرِيماً﴾، [أي] إِنْ ضَرَبَاكَ فَقُلْ لَهُمَا غَفَرَ اللهُ لَكُمَا،
فَذَلِكَ مِنْكَ قَوْلٌ كَرِيمٌ. (..)
﴿واخْفِضْ
لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾، [أي] لَا تَمْلأْ عَيْنَيْكَ مِنَ النَّظَرِ
إِلَيْهِمَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ وَرِقَّةٍ، ولَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فَوْقَ أَصْوَاتِهِمَا
وَلَا يَدَكَ فَوْقَ أَيْدِيهِمَا، وَلَا تَقَدَّمْ قُدَّامَهُمَا».
ما
تقدّم هو نصّ الرواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، وما يأتي شرح
العلامة المجلسي مختصراً:
*
﴿..وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..﴾ البقرة:83،
أي وأحسنوا بهما إحساناً.
*
«أَنْ تُحْسِنَ صُحْبَتَهُمَا»: أي بالملاطفة وحُسن
البِشر وطلاقة الوجه والتواضع والترحّم وغيرها ممّا يوجب سرورهما، وفي إلحاق
الأجداد والجدّات بهما نظر.
*
«وإِنْ كَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ»: أي يمكنهما
تحصيل ما احتاجا إليه بمالهما.
معنى
البرّ
*
قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ..﴾ آل
عمران:92.
ظاهر
الخبر أنّ المراد بالبرّ في الآية برّ الوالدين، ويمكن أن يكون المراد أعمّ منه
ويكون إيرادها لشمولها بعمومها له.
وعلى
التقديرين؛ فالاستشهاد إمّا لأصل البرّ، أو لأنّ إطلاق الآية شامل للإنفاق قبل
السؤال وحال الغنى، لعدم التقييد فيها بالفقر والسؤال.
ويُمكن
أن يقال: على تقدير تعميم البرّ - كما هو المشهور - أنّه لمّا استفيد من الآية أنّ
الرجل لا يبلغ درجة الأبرار إلّا إذا أنفق جميع ما يحبّ، ولم يذكر الله المنفَق
عليهم، وقد ثبت أنّ الوالدين ممّن تجب نفقته، فلا بدّ من إنفاق كلّ محبوب عليهم،
سألوا أم لم يسألوا.
قال
الطبرسي قدّس سرّه في (مجمع البيان): «البِرّ أصله من السعة، ومنه البَرّ خلاف
البحر، والفرق بين البرّ والخير، أنّ البرّ هو النفع الواصل إلى الغير ابتداء مع
القصد إلى ذلك، والخير يكون خيراً وإن وقع عن سهو؛ وضدّ البرّ العقوق، وضدّ الخير
الشرّ، أي لن تدركوا برّ الله تعالى بأهل الطاعة.
واختُلف
في البرّ هنا، فقيل: هو الجنّة عن ابن عبّاس وغيره، وقيل: هو الثواب في الجنّة،
وقيل هو الطاعة والتقوى، وقيل: معناه: لن تكونوا أبراراً، أي صالحين أتقياء».
في
معنى الإنفاق
وفي
(مجمع البيان) أيضاً في تفسير قوله تعالى:
*
﴿..حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ..﴾ آل
عمران:92،
قال
الطبرسي: «أي حتى تنفقوا المال، وإنّما كنّي بهذا اللفظ عن المال، لأنّ جميع الناس
يحبّون المال، وقيل: معناه ما تحبّون من نفائس أموالكم دون رُذّالها كقوله تعالى: ﴿..وَلَا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ..﴾ البقرة:276.
وقيل:
هو الزكاة الواجبة وما فرضه الله في الأموال.
وقيل:
هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات».
وقال
بعضهم: دلّهم، سبحانه، بهذه الآية على الفتوّة، فقال: لن تنالوا برّي بكم إلّا ببرّكم
إخوانكم، والإنفاق عليهم من مالكم وجاهكم وما تحبّون، فإذا فعلتم ذلك نالكم برّي
وعطفي.
*
قوله تعالى: ﴿..وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ آل
عمران:92، فيه وجهان:
أحدهما
أنّ تقديره: وما تنفقوا من شيء فإنّ الله يجازيكم به، قلّ أو كثر، لأنّه عليمٌ لا
يخفى عليه شيء منه.
والآخر:
أنّ تقديره: فإنّه يعلمه الله موجوداً على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النيّة أو قُبحها.
فإن
قيل: كيف قال سبحانه ذلك والفقير ينال الجنّة وإن لم يُنفق؟
قيل:
الكلام خرج مخرج الحثّ على الإنفاق وهو مقيّد بالإمكان، وإن أُطلق على سبيل
المبالغة في الترغيب، والأولى أن يكون المراد: لن تنالوا البرّ الكامل الواقع على
أشرف الوجوه حتّى تنفقوا ممّا تحبون.
النهي
عن التضجّر من الوالدين
*
الأفّ: في الأصل وَسَخُ الأظفار، ثمّ استُعمل
فيما يستقذر، ثمّ في الضجر، وقيل: معناه الاحتقار.
وقال
الطبرسي قدّس سرّه: «روي عن الرضا، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليهم السلام، قال: (لَوْ
عَلِمَ اللهُ لَفْظَةً أَوْجَزَ في تَرْكِ عُقوقِ الوالِدَيْنِ مِنْ أُفٍّ لَأَتى بِهَا).
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام، قال: (أَدْنى
العُقوق أُفّ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئاً أَيْسَرَ مِنْهُ وَأَهْوَنَ مِنْهُ لَنَهى
عَنْهُ)، فالمعنى لا تُؤذِهما بقليل ولا كثير».
*
قوله تعالى: ﴿..وَلا تَنْهَرْهُما..﴾ الإسراء:23،
أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح، وقيل: معناه لا تمتنع من شيء أراداه منك، كما قال
تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ الضحى:10.
القول
الكريم وخفض الجناح
*
قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً﴾
الإسراء:23، أي خاطبهما بقول رفيق لطيف حسن جميل
بعيد عن اللّغو والقبيح، يكون فيه كرامة لهما.
*
قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..﴾ الإسراء:24،
أي وبالغ في التواضع والخضوع لهما قولاً وفعلاً برّاً بهما وشفقةً لهما. والمراد
بالذلّ، ههنا، اللِّين والتواضع دون الهوان، من خفض الطائر جناحه إذا ضمّ فرخه
إليه، فكأنّه سبحانه قال: ضمّ أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير، وإذا
وصفتِ العربُ إنساناً بالسهولة وترك الإباء قالوا: هو خافض الجناح.
وقال
البيضاوي: «واخفض لهما، أي تذلّل لهما وتواضع فيهما، جعل للذلّ جناحاً وأمر بخفضها
مبالغةً. وأراد جناحه كقوله: ﴿.. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الحجر:88،
وإضافته إلى الذلّ للبيان والمبالغة، كما أُضيف حاتم إلى الجود، والمعنى: واخفض
لهما جناحك الذليل، وقًرئ الذِّلّ بالكسر، وهو الانقياد»، انتهى.
*
والضَّجر والتضجّر: التبرّم.
*
قوله: «لَا تَمْلأْ عَيْنَيْكَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ ورِقَّةٍ،
ولَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فَوْقَ أَصْوَاتِهِمَا»:
المراد بملء العينين حدّة النظر، والرقّة رقّة القلب، وعدم رفع الصوت نوع من الأدب
كما قال تعالى: ﴿..لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..﴾ الحجرات:2.
*
«ولَا يَدَكَ فَوْقَ أَيْدِيهِمَا»: الظاهر أنّ
المراد أنّه عند التكلّم معهما لا ترفع يدك فوق أيديهما كما هو الشائع عند العرب؛
أنّه عند التكلّم يبسطون أيديهم ويحرّكونها، وقال الوالد، قدّس الله روحه: «المراد
أنّه إذا ناولتهما شيئاً، فلا تجعل يدك فوق أيديهما وتضع شيئاً في يدهما، بل أبسط
يدك حتى يأخذا منها، فإنّه أقرب إلى الأدب»، وقيل: المعنى لا تأخذ أيديهما إذا
أرادا ضربك.
* «ولَا تَقَدَّمْ قُدَّامَهُمَا»: أي في
المشي أو في المجالس أيضاً.
ثمّ
اعلم أنّه لا ريب في رعاية تلك الأمور من الآداب الراجحة، لكنّ الكلام في أنّها هل
هي واجبة أم مستحبّة، وعلى الأوّل هل تركها موجبٌ للعقوق أم لا، بحيث إذا قال لهما
(أُفّ) خرج من العدالة واستحقّ العقاب؟
فالظاهر
أنّه بمحض إيقاع هذه الأمور نادراً لا يسمّى عاقّاً ما لم يستمرّ زمانُ ترْك برّهما،
ولم يكونا راضيين عنه لسوء أفعاله وقلّة احترامه لهما، بل لا يبعد القول بأنّ هذه
الأمور إذا لم تصبح سبباً لحزنهما، ولم يكن الباعث عليها قلّة اعتنائه بشأنهما
واستخفافه بهما، لم تكن حراماً، بل هي من الآداب المستحبّة، وإذا صارت سبب غيظهما
واستمرّ على ذلك يكون عاقّاً، وإذا رجع قريباً وتداركهما بالإحسان وأرضاهما لم تكن
في حدّ العقوق، ولا تُعدّ من الكبائر.
ويؤيّده
ما رواه الصدوق في (الصحيح)، قال: «سأل عمر بن يزيد أبا عبد الله عليه السلام عن
إمامٍ لا بأس به في جميع أموره، عارف، غير أنّه يُسمع أبويه الكلامَ الغليظ الذي يُغيظهما:
أقرأُ خلفه؟ [أي أقرأ لنفسي ولا أئتمّ به؟]
قال: لَا تَقْرَأْ خَلْفَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَاقَّاً قَاطِعَاً»، والأحوط
ترك الجميع.
وقد
روى الصدوق بأسانيد عن الرضا عليه السلام، أنّه قال: «أَدْنى العُقوقِ أُفّ، ولَو
عَلِمَ اللهُ عزّ وجلّ شيئاً أهونَ من أُفٍّ لنَهى عنه».
وروي
في (الخصال) بسند معتبر عن الصادق عليه السلام، قال: «قالَ أميرُ المؤمنينَ عَليه
السّلام: مَن أحزنَ والدَيه فقَد عَقَّهُما».
ورأيت
في بعض كُتب الحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن أبي عبد الله
عليه السلام، قال: «لَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئاً أَدْنى مِنْ أُفٍّ لَنَهى عَنْهُ؛
وَهُوَ مِنَ العُقوقِ، وَهُوَ أَدْنى العُقوقِ، وَمِنَ العُقوقِ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ
إِلى أَبَوْيهِ ويُحِدَّ إِلَيْهِما النَّظَرَ».