التفكُّر في القرآن.. حياةُ قلب البصير
الهدف من تلاوة القرآن الكريم هو ارتسامُ صورته في القلب، وتأثيرُ الأوامر والنواهي فيه، وتثبيتُ الأحكام والتعاليم الإلهية.
ولا يتحقّق هذا إلّا في ظلّ مراعاة آداب القراءة.
وليس الهدف من الآداب ما هو المعروف لدى بعض القُرّاء من الاهتمام الزائد
بمخارج الألفاظ، وأداء الحروف.. فإنّ كثيراً من الكلمات القرآنية، نتيجة مثل هذا
التجويد، تفقد صورتها الخلاّبة الأصيلة، وتتحوّل إلى صورة أخرى.. تختلف عما أراده
الله تعالى. وهذا يُعتبر من مكائد الشيطان؛ حيث يتلهّى الإنسان المؤمن إلى آخر
عمره بألفاظ القرآن.. بل ينكشف لديه بعد مضيّ خمسين عاماً أنّه من جرّاء تغليظ بعض
الحروف، والتشديد فيها، قد أخرج صورة بعض الكلمات كليّاً عن حالتها الطبيعية
وأصبحت ذات صورة غريبة.
الهدفُ المنشود من وراء آداب قراءة القرآن، تلك الآداب التي وردت في الشريعة
المقدّسة، والتي يعدّ من أفضلها وأعظمها التفكّر والتدبّر في آيات القرآن.
في الكافي الشريف بسنده إلى الإمام الصادق عليه السّلام، قال: «إنَّ هذاَ
القُرْآنَ فِيهِ مَنَارُ الهُدى وَمَصَابِيحُ الدُّجى، فَلْيَجْلُ جَالٍ بَصَرَهُ
وَيَفْتَحْ لِلضِّيَاءِ نَظَرَهُ، فَإِنَّ التَّفَكُّرَ حَياةُ قَلْبِ البَصِيرِ؛
كَمَا يَمْشِي المُسْتَنِيرُ فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ».
وفي (المجالس) بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في كلامٍ طويل في وصْف
المتّقين: «.. وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْويفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا
مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَاقَشَعَرَّتْ مِنْهَا جُلُودُهُمْ
وَوَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّ صَهِيلَ جَهَنَّمَ وَزَفِيرَهَا
وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْويقٌ
رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً،
وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ».
من الواضح أنّ مَن يتمعّن ويتدبر في معاني القرآن الكريم، يتأثّر قلبه، ويبلغ
مقام المتّقين شيئاً فشيئاً. وإن حَظِيَ بتوفيقٍ وسَدادٍ من الله تعالى، لَتجاوز
هذا المقام أيضاً ولَتحوّل كلّ عضوٍ وجارحةٍ وقوّةٍ منه إلى آيةٍ من الآيات
الإلهية، ولعلّ جَذَوَات خطاب الله وجذَباته ترفعُه وتبلغُ به إلى مستوى إدراك
حقيقة «اقْرَأْ وارقَ» في هذا العالم، وانتهى إلى مرحلة سماع الكلام من
المتكلّم من دون واسطة، وتحوّل إلى موجودٍ لا يسَعُ الإنسانَ فهمه واستيعابُه.