﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا
للهِ..﴾
أسباب تحليل الطيّبات وتَحريم الخبائث
____
المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ____
تناول
المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في الجزء الأول من كتابه (الأمثل في كتاب
الله المنزل)، كيفيّة وجوب استثمار النِّعَم من الأطعمة، وأسباب تحليل الطيّبات
وتحريم الخبائث، وذلك في سياق شرحه للآيتين من سورة البقرة، وهما قوله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا
للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة:172-173.
اقتطفت
«شعائر» هذا النصّ من كتابه المشار إليه لأهميّته في الإضاءة العميقة على الأسباب
الشرعيّة الداعية إلى التحليل والتحريم في الطعام والشراب.
يعتمد
القرآن الكريم أسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته الانحرافات
المزمنة. وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية بعضَ الأطعمة
دونما دليل. مع فارقٍ هو أنّ الخطاب يتوجّه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما
خاطبت الآيات السابقة جميع الناس. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ...﴾ البقرة:168.
تقول
الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾. لو قارنّا هذه الآية بقوله
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ..﴾، لفهمنا نُكتَتين:
1)
تقول الآية هنا: ﴿..مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ..﴾، بينما تقول تلك: ﴿..مِمَّا فِي الْأَرْضِ..﴾.
ولعلّ هذا الاختلاف يشير إلى أنّ النِّعم الطيّبة مخلوقة أصلاً للمؤمنين، وغير
المؤمنين يتناولون هذه الأطعمة ببركة المؤمنين، كالماء الذي يستعمله البستاني لسَقي
أشجاره وأغراسه، بينما تستفيد من هذا الماء أيضاً الأعشاب والنباتات الطفيلية.
2)
والأخرى، أنّ الآية تقول لعامّة الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ البقرة:168،
وهذه الآية تخاطب المؤمنين وتقول: ﴿..كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا
للهِ..﴾ البقرة:172،
أي لا تكتفي هذه الآية بالطلب من المؤمنين أن لا يسيئوا الاستفادة من هذه النعم،
بل تحثّهم على حُسن الاستفادة منها. فالمتوقّع من الناس العاديين أن لا يُذنبوا في
استهلاك هذه النعم، بينما المتوقّع من المؤمنين أن يستثمروها في أفضل طريق.
وقد
يثير تكرار التأكيد في القرآن الكريم الاستفادةَ من الأطعمة الطيبة تساؤلاً عن سبب
هذا التكرار. أما لو عدنا إلى تاريخ العصر الجاهلي لفهمنا السبب. فالجاهليّون قد
حرّموا على أنفسهم بعض الأطعمة دونما دليل، وتناقلت أجيالهم هذا التحريم وكأنّه
وحي منزَل، ونسبوه أحياناً بصراحة إلى الله، والقرآن استهدف اقتلاع جذور هذه
الأفكار الخرافية من أذهانهم. ثم إنّ التركيز على كلمة «طيِّب» يتضمّن أيضاً دعوة
إلى اجتناب ما خبُث من الأطعمة، كالمَيْتَة والوحوش والحشرات، وكالمسكرات السائدة
بين الناس بشدّة آنذاك.
الآية
التالية تبيّن بعض ألوان الأطعمة المحرّمة، وتقول: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ..﴾ البقرة:173.
تذكر الآية ثلاثة أنواع من اللحوم المحرّمة إضافة إلى الدّم، وهي من أكثر المحرّمات
انتشاراً في ذلك العصر، في بعضها خُبث ظاهر لا يخفى على أحد كالمَيْتَة والدم ولحم
الخنزير، وفي بعضها خُبث معنوي كالتي ذُبحت من أجل الأصنام.
الحصر
في الآية بكلمة «إنّما» هو «حصر إضافي»، لا يستهدف منه بيان جميع المحرّمات، بل
نفي ما ابتدعوه بشأن بعض اللحوم المحلّلة.
الوجه
الجاهلي للتحريم
بعبارة
أخرى، هؤلاء الجاهليون حرّموا بعض الأطعمة الطيبة استناداً إلى ما توارثوه من
خرافات وأوهام، لكنهم بدلاً من ذلك كانوا يعمدون عند قلّة الطعام إلى أكل المَيْتَة
أو الخنزير أو الدم. القرآن يقول لهؤلاء: إنّ هذه هي الأطعمة المحرّمة لا تلك
(وهذا هو معنى الحصر الإضافي).
ولمّا
كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرّمة حفظاً لحياته، فقد
استثنت الآية هذه الحالة وقالت: ﴿..فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ..﴾. ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام مَن يتذرّع بالاضطرار، أكّدت
كونَ المضطرّ «غير باغٍ» و«لا عاد». والباغي هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة،
والعادي هو المتجاوز للحدّ، أي المتجاوز حدّ الضرورة، فالرخصة هنا، إذاً، لمن لا
يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حدّ الضرورة اللازمة لنجاته من
الموت.
ولأنّ
معنى البغي الظلم أيضاً، ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الرخصة ممنوحة لأولئك الذين
يضطرون خلال سفر محلّل، لا خلال سفر المعصية. فالمسافرون لهدف غير مشروع قد يجب
عليهم تناول الأطعمة المحرمة لحفظ النفس من التلف، إلّا أن هذا العمل يكتب في
صحيفة أعماله من الذنوب.
بعبارة
أخرى: هؤلاء العاصون قد يجب عليهم عقلاً في أسفارهم المحرّمة أن يتناولوا شيئاً من
الأطعمة المحرّمة لدى الاضطرار، لكنّ هذا الوجوب لا يرفع عنهم المسؤولية، لأنّهم أُجبروا
على ذلك وهم على مسير خاطئ. وهناك روايات تذكر أن الآية تشير إلى السائرين على
طريق الخروج على إمام المسلمين، فهؤلاء مستثنون من هذه الرخصة. وهذه الروايات تشير
في الواقع إلى نفس الحقيقة المذكورة، وهكذا الأمر في أحكام صلاة المسافر، فالمسافر
يقصر الصلاة في السفر إلا ما كان سفراً حراماً، ولذلك يستدل بعبارة ﴿..غَيْرَ بَاغٍ
وَلَا عَادٍ..﴾ للحُكمَين معاً، حكم صلاة المسافر، وحكم ضرورة تناول اللحوم المحرّمة.
وفي الختام تقول الآية: ﴿..إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فإن الله الذي حرّم تلك
الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.
المحرّمات
من الأطعمة، وفلسفة النهي عنها
الأغذية
المحرّمة التي ذكرتها الآية الكريمة أعلاه لها - كسائر المحرّمات الإلهية -
فلسفتها الخاصّة. وقد شرِّعت انطلاقاً من خصائص الإنسان جسمياً وروحياً. والروايات
الإسلامية ذكرت عِلل بعض هذه الأحكام، والعلوم الحديثة أماطت اللثام أيضاً عن بعض
هذه العلل. من هذه المحرّمات:
1) المَيْتَة: روي
عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «..أَمّا المَيتَةُ فَإِنَّهُ لَا يُدْمِنُهَا
أَحَدٌ إِلّا ضَعُفَ بَدَنُهُ، وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ، وَانْقَطَع نَسْلُهُ، وَلا يَموتُ
آكِلُ المَيتَةِ إِلّا فَجْأَةً». ولعلّ هذه المفاسد تعود إلى أنّ جهاز الهضم
لا يستطيع أن يصنع من المَيْتَة دماً سالماً حيّاً، إضافة إلى أنّ المَيْتَة مرتع
أنواع الميكروبات، والإسلام اعتبر المَيْتَة نجسة، كي يبتعد عنها المسلم، فضلاً عن
عدم تناولها.
2) الدّم: المحرَّم الثاني في
هذه الآية هو «الدم»، وشرب الدم له مفاسد أخلاقية وجسديّة، فهو وسط مستعدٌّ تماماً
لتكاثر أنواع الميكروبات. الميكروبات التي تدخل البدن تتّجه أوّل ما تتّجه إلى
الدم، وتتّخذه مركزاً لنشاطهم، ولذلك اتّخذت الكريات البيضاء مواقعها في الدم
للوقوف بوجه توغّل هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكلّ أجزاء الجسم. وحين
يتوقّف الدم عن الحركة وتنعدم الحياة فيه، يتوقف نشاط الكريات البيضاء أيضاً،
ويصبح الدم بذلك وسطاً صالحاً لتكاثر الميكروبات دون أن تواجه عقبة في التكاثر.
ولذلك نستطيع القول إنّ الدم - حين يتوقّف عن الحركة - يكون أكثر أجزاء جسم
الإنسان والحيوان تلوّثاً.
ومن
جهةٍ أخرى، ثبت اليوم في علم الأغذية، أنّ الأغذية لها تأثير على الأخلاق
والمعنويات عن طريق التأثير في الغُدد وإيجاد الهورمونات. ومنذ القديم ثبت تأثير
شرب الدم في تشديد قسوة الإنسان، وأصبح ذلك مضرب الأمثال. لذلك نرى الرواية عن
الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، تقول: «أَمّا الدَّمُ، فَإِنَّهُ يُورِثُ
آكِلَهُ الماءَ الأصَفْرَ".." وَالقَسْوَةَ في القَلْبِ، وَقِلَّةَ الرَّأْفَةِ
وَالرَّحْمَةِ، حَتّى لا يُؤْمَنَ أَنْ يَقْتُلَ وَلَدَهُ وَوالِدَيْهِ، وَلا يُؤْمَنَ
عَلى حَميمِهِ، وَلا يُؤمَنَ عَلى مَنْ يَصْحَبُهُ».
3) لحم الخنزير: ثالث المحرّمات
المذكورة في الآية «لحم الخنزير». الخنزير - حتّى عند الأوروبيين المولعين بأكل
لحمه - رمز التحلّل الجنسي. وهو حيوان قذر للغاية، وتأثير تناول
لحمه على التحلّل الجنسي لدى الإنسان مشهود. حرمة تناول لحمه صرحّت بها شريعة موسى،
عليه السلام أيضاً، وفي الأناجيل شُبِّه المذنبون بالخنزير، كما أنّ هذا الحيوان
مظهر الشيطان في القصص.
ومن
العجيب أنّ أناساً يرون بأعينهم قذارة هذا الحيوان حتى إنّه يأكل عذرته، ويعلمون احتواء
لحمه على نوعين خطرين من الديدان، ومع ذلك يصرّون على أكله. دودة «التريشين» Treichine التي تعيش في لحم هذا
الحيوان تتكاثر بسرعة مدهشة، وتبيض في الشهر الواحد خمسة عشر ألف مرّة، وتسبّب
للإنسان أمراضاً متنوّعة كفقر الدم، والغثيان، وحمّى خاصّة، والإسهال، وآلام
المفاصل، وتوتّر الأعصاب، والحكّة، وتجمّع الشحوم داخل البدن، والإحساس بالتعب،
وصعوبة مضغ الطعام وبلعه، والتنفس و... وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير
(400) مليون دودة من هذه الديدان!! ولذلك أقدمت بعض البلدان الأوروبية في السنوات
الماضية على منع تناول لحم هذا الحيوان.
وهكذا
تتجلّى عظمة الأحكام الإلهية بمرور الأيّام أكثر فأكثر. يقول البعض إنّ العلم تطوّر
بحيث استطاع أن يقضي على ديدان هذا الحيوان، ولكن على فرض أنّنا استطعنا بواسطة
العقاقير، أو بالاستفادة من الحرارة الشديدة في طبخه، إلّا أنّ أضراره الأخرى
ستبقى. وقد ذكرنا أنّ للأطعمة تأثيراً على أخلاق الإنسان عن طريق تأثيرها على الغُدد
والهورمونات وذلك الأصل علمي مسلّم، وهو أنّ لحم كل حيوان يحوي صفات ذلك الحيوان
أيضاً. من هنا تبقى للحم الخنزير خطورته في التأثير على التحلّل الجنسي للآكلين،
وهي صفة بارزة في هذا الحيوان. ولعلّ تناول لحم هذا الحيوان أحد عوامل التحلل
الجنسي في أوروبا.
4) الذبائح على غير اسم الله تعالى: رابع،
المحرّمات في الآية ﴿.. وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ..﴾ هي الحيوانات التي تُذبح
على غير اسم الله، كالتي كانت تقدَّم للأصنام في الجاهلية. وتحريم لحوم هذه
الحيوانات لا يلزم بالضرورة أن تكون لها أضرار صحّيّة
حتى يقال: إنّ ذكر اسم الله أو غير الله حين الذبح لا ربط له بالأمور الصحّيّة.
فليس من الحتم أن تكون للّحم آثار صحيّة حتى تكون محرّمة، لأنّ المحرّمات في الإسلام
لها أبعاد مختلفة، فتارةً بسبب الصحّة وحفظ البدن، وأخرى يكون للتحريم جانب معنوي
وأخلاقي وتربوي، فهذه اللحوم تبعد الإنسان عن الله، ولها تأثير نفسي وتربوي سلبي في
الآكل، لأنّها من سُنن الشرك والوثنية وتعيد إلى الذهن تلك التقاليد الخرافية.