الحُبّ
كلامٌ في معناه وتَعَلُّقِه بالله تعالى
____
العلّامة السيد محمّد حسين الطباطبائي رحمه الله _____
القرآن الكريم برنامج الهداية
الإلهية، والوصفة الشافية لأمراض الفرد والمجتمع، وهو يهَبُ معانيه السامية
للمتدبّرين في آياته، المستعينين لذلك بنور الفطرة السليمة والعقل المنفتح على
حقائق الوجود.
ما يلي، نموذجٌ
راقٍ للتدبّر في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ البقرة:165،
اخترناه من الجزء الأول من (تفسير الميزان) للعلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه.
هناك
عدّة نكات تجدر ملاحظتها عند التدبّر في هذه الآية، ومنها:
أوّلًا:
التعبير بلفظ: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾، فإنّ فيه
دلالة على أنّ المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط، بل يشمل الملائكة،
وأفراداً من الإنس الذين اتّخذهم الناس أرباباً من دون الله تعالى، بل يعمّ كلّ مُطاع
من دون الله من غير أن يأذن اللهُ في إطاعته، كما يشهد به ما في الآية التالية من قوله
تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا..﴾ البقرة:166.
وكما
قال تعالى: ﴿..وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ..﴾ آل
عمران:64.
وقال
تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ..﴾
التوبة:31.
المراد
بحبّ الله أعم من «إطاعة أمره» سبحانه
ثانياً:
وفي الآية دليل على أنّ الحبّ يتعلّق بالله تعالى حقيقة، خلافاً لمن قال:
*
«أنّ الحبّ - وهو وصف شهوانيّ - يتعلّق بالأجسام والجسمانيات، ولا يتعلّق به
سبحانه حقيقة.
*
وأنّ معنى ما ورد من الحبّ له تعالى، هو الإطاعة بالائتمار بالأمر والانتهاء عن النهي،
تجوّزاً، كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللهُ..﴾ آل عمران:31».
فالآية
حجّة عليهم، فإنّ قوله تعالى: ﴿أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ يدلّ على أنّ حبّه تعالى يقبل
الاشتداد، وهو في المؤمنين أشدّ منه في المُتّخذين لله أنداداً، ولو كان المراد
بالحبّ هو الإطاعة مجازاً، كان المعنى: «والذين آمنوا أطوعُ لله»، ولم يستقم معنى
التفضيل، لأنّ طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه، فالمراد بالحبّ معناه
الحقيقي.
ويدلّ
عليه أيضاً – أي على تعلّق الحبّ به سبحانه - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ..﴾ إلى قوله ﴿..أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ..﴾ التوبة:24،
فإنّه ظاهر في أنّ الحبّ المتعلّق بالله، والحبّ المتعلّق برسوله، والحبّ المتعلّق
بالآباء والأبناء والأموال، وغيرها، جميعاً من سنخ واحد، لمكان قوله ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ﴾،
وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضّل والمفضّل عليه في أصل المعنى، واختلافهما من
حيث الزيادة والنقصان.
اقتفاء
الأثر من ثمرات الحبّ
ثالثاً:
إنّه تبارك وتعالى ذَمَّ في الآية المتّخذين للأنداد، بقوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ
اللهِ﴾، ثمّ مدح المؤمنين بأنّهم ﴿أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ سبحانه، فدلّ التقابلُ بين
الفريقين على أنّ ذمّهم إنّما هو لتوزيعهم المحبّة الإلهية بين الله وبين الأنداد
الذين اتّخذوهم أنداداً. وهذا، وإن كان بظاهره يمكن أن يُستشعر منه أنّهم لو وضعوا
له سبحانه سهماً أكثر لم يُذمّوا على ذلك، لكن آخر الآية ينفي ذلك، فإنّ قوله
تعالى: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا﴾، وقوله سبحانه:
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ البقرة:166،
وقوله: ﴿..كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ..﴾ البقرة:167،
يشهد بأنّ الذمّ لم يتوجّه إلى الحبّ من حيث أنّه حبّ، بل من جهة لازمِه الذي هو
الاتّباع، وكان هذا الاتّباع منهم لهم لِزَعمِهم أنّ لهم – أي للأنداد - قوّة يتقوَّون
بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم، فتركوا بذلك اتّباع الحقّ من أصله أو في
بعض الأمر، وليس مَن اتّبع الله في بعض أمره دون بعض بمتّبِعٍ له، وحينئذٍ يندفع الاستشعار
المذكور، ويظهر أنّ هذا الحبّ يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلّا فهو الشرك،
واشتداد هذا الحبّ ملازمٌ لحصر الاتّباع وقَصره على أمر الله، ولذلك مدَح المؤمنين
بذلك في قوله: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾.
حبّ
النبيّ والوصيّ من مصاديق حبّ الله
رابعاً: وإذ كان هذا المدح والذمّ متعلّقاً
بالحبّ من جهة أثره، الذي هو الاتّباع، فلو كان الحبّ للغير بتعقيب إطاعة الله
تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأنٌ دون ذلك - لم يتوجّه إليه ذمٌّ البتّة،
كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ..﴾ إلى قوله ﴿..أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ..﴾ التوبة:25،
فقرّر لرسوله حبّاً كما قرّره لنفسه، لأنّ حبّه عليه السلام حبُّ الله تعالى، فإنّ
أثره - وهو الاتّباع - عينُ اتّباع الله تعالى: فإنّ الله سبحانه هو الداعي إلى
إطاعة رسوله والآمر باتّباعه، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ
بِإِذْنِ اللهِ..﴾ النساء:64،
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ..﴾
آل عمران:31، وكذلك اتّباعُ كلّ من يهتدي – العبد
- إلى الله باتّباعه؛ كعالِم يهدي بعلمه، أو آيةِ تُعين بدلالتها، وقرآن يقرّب
بقراءته، ونحو ذلك، فإنّها كلّها محبوبة بحبّ الله، واتّباعها تُعدُّ طاعةً مقرّبة
إليه سبحانه.
تلخيص
ما تقدّم
فقد
بان بهذا البيان:
أنّ
مَن أحبّ شيئاً من دون الله ابتغاء قوّةٍ فيه، فاتّبعه في تسبيبه – أي اتخذه أو
اعتقده سبباً من دون الله - إلى حاجة ينالها منه، أو اتّبعه بإطاعته في شيء لم
يأمر الله به، فقد اتّخذ من دون الله أنداداً وسيُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم،
وأنّ المؤمنين هم الذين لا يحبّون إلّا الله، ولا يبتغون قوّة إلّا من عند الله،
ولا يتّبعون غير ما هو من أمر الله ونَهيه، فأولئك هم المخلصون لله ديناً.
وبان
أيضاً أنّ حُبّ مَن حبُّه مِن حبّ الله، واتّباعُه اتّباعُ الله، كالنبيّ وآله
صلوات الله عليهم، والعلماء بالله، وكتاب الله وسنّة نبيّه، وكلّ ما يذكر الله
بوجه إخلاصٍ لله، ليس من الشرك المذموم في شيء، والتقرّب بحبّه واتّباعه تقرّب إلى
الله، وتعظيمه بما يُعَدّ تعظيماً هو من تقوى الله، قال تعالى: ﴿..وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحج:32،
والشعائر هي العلامات الدالّة، ولم يقيّد بشيء مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكلّ ما
هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكّرة به، فتعظيمه من تقوى الله وتشمله جميع الآيات
الآمرة بالتقوى.
نعم،
لا يخفى لذي مسكة أنّ إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والآيات في قبال الله، واعتقاد
أنّها تملك لنفسها أو غيرها نفعاً أو ضرّاً أو موتاً أو حياةً أو نشوراً، إخراجٌ
لها عن كونها شعائر وآيات، وإدخالٌ لها في حيّز الألوهيّة وشرك بالله العظيم،
والعياذ بالله تعالى.