خطيئة
دعاة التمدُّن
تغليبُ الفضول على القِيم الأخلاقية
____
العلامة الشيخ محمّد تقي فلسفي رحمه الله ____
تقصد
هذه المقالة لعالم الدين والمفكّر الإيراني الراحل الدكتور الشيخ محمّد تقي فلسفي،
الإضاءة على خطورة إهمال التكامل الروحي، وحصر الاهتمام بتنمية القوى الفكرية
والذهنية، وبعبارة تغليب «الذكاء» على القِيم الأخلاقية، أو تركه متفلّتاً منها، وما
يترتّب على ذلك من انتكاسات اجتماعية حادّة.
يُشار
إلى أن المقال مختصر من أحد فصول كتاب الشيخ فلسفي (الطفل بين الوراثة في التربية).
مثلما
يسعى الإنسان إلى إحياء مواهبه الفكرية، وإدراك الحقائق العلمية ويُحرز تقدماً
جديداً في كلّ يوم... عليه أن يسعى أيضاً في سبيل تزكية نفسه وتطهيرها؛ يُحيي بذلك
إنسانيته، ويُرضي عواطفه النبيلة بالفضائل الأخلاقية.
إن
المجتمع الذي يقوم على العلم فقط، ويكون فاقداً للفضيلة والأخلاق، لا يُطاق. لأنه
لا يوجد في ذلك المجتمع اطمئنان وارتياح بال، والناس يكونون كراكبي سفينة في وسط
بحر هائج يشعرون بخطر الغرق والسقوط في كلّ آن. وبغضّ النظر عن الجانب الديني، فإنّ
الفضائل الخُلقية والملَكات الطاهرة من الضروريات الحيوية لمجتمع سعيد فاضل.
عن
أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال: «لَوْ كُنّا لا نَرْجو جَنَّةً وَلا
نَخْشى ناراً وَلا ثَواباً وَلا عِقاباً لَكانَ يَنْبَغي لَنا أَنْ نُطالِبَ بِمَكارِمِ
الأَخْلاقِ، فَإِنَّها مِمّا تَدُلُّ عَلى سَبيلِ النَّجاحِ».
إن
شطراً مهماً من سعادة المجتمع مرتبط بالفضائل الخُلقية، كما أن شطراً مهماً من شقاء
المجتمع وفساده له ارتباط وثيق بالانحطاط الخُلقي والصفات البذيئة.
يقول
الإمام عليّ عليه السلام: «رُبّ عزيزٍ أذلَّه خُلُقه، وذليلٍ أعزّه خُلُقه». وعنه
عليه السلام: «في سَعَةِ الأَخْلاقِ كُنوزُ الأَرْزاقِ»، و«حُسْنُ الخُلُقِ
خَيْرُ رَفيقٍ». وعن الامام الصادق عليه
السلام: «حُسْنُ الخُلُقِ يَزيدُ في الرِّزْقِ».
إن
من أهم الخصائص الكبرى التي يمتاز بها الأنبياء، والتي كانت السبب المباشر في تأثيرهم
في المجتمع ونفوذهم إلى عقول الأفراد وأفكارهم هي ملَكاتهم الطاهرة وسجاياهم العظيمة.
عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ اللهَ خَصَّ الأَنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ
بِمَكارِمِ الأَخْلاقِ». وبهذا الصدد جاء الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، ذاكراً
الهدف الأسمى من بعثته وظهوره بين ظَهراني المجتمع الجاهلي آنذاك، قائلاً: «إنّما
بُعِثتُ لأُتَمّمَ مكارمَ الأخلاق».
«إنه
خطأٌ فظيع ارتكبه دعاةُ التمدّن والتجدّد في إهمالهم للتكامل الروحي. إنّ العمر
الروحي للأغلبية العظمى من الناس لا يتجاوز الثانية عشرة أو الثالثة عشرة.... إن
الخطيئة الاجتماعية الكبيرة في عصرنا الحالي هي الإعراض عن اتّباع قانون التكامل
الروحي، وحصر الروح بصورة استبدادية عنيفة بالقوى العقلانية، وتربية القوى الفكرية
فقط. ذلك أن الفكر يستطيع بمساعدة العلم أن يضمن السيطرة على جميع الأشياء، لكنّه
تناسى النشاطات الروحية الأخرى. إن الإنسان المعاصر لم يفهم بعد خطر الخروج على
قانون التكامل الروحي، ويظنّ أن التنمية الفكرية تعادل التربية الروحية، ولم يعلم
بعد أن إلى جانب العقل توجد النشاطات المعنوية اللازمة للسير الصحيح في الحياة. إن
السيطرة التدريجية للفساد، وقلّة الأدب، والانحراف، والإدمان على الخمر، والكسل،
والحسد، والحقد، والتزوير، والكذب، والخيانة، تحصل عندما يُسحَق قانون التكامل
الروحي». [هذه الفقرة نقلها المؤلف عن كتاب
(راه ورسم زندكى) وهو ترجمة فارسية لأحد مؤلفات الطبيب والفيلسوف الفرنسي ألكسيس
كارل]
تنمية
العقل والعاطفة
يشكّل
العلم والأخلاق جناحين قويّين لتحليق الإنسان إلى أوج الانسانية. إن المجتمع الذي
يعمل على إحياء العقل والعاطفة معاً هو أسعد المجتمعات. فبالعلم يتقدّم نحو الترقّي
والتكامل، وبالعواطف والأخلاق توجَد البيئة الصالحة... البيئة التي يسودها جوّ من
الحبّ والحنان والإخلاص حيث يعيش الجميع في غاية المودّة والأخاء.
حيث
توجد الأخلاق والعواطف ولا يوجد عِلم فلا تكاملَ هناك ولا تقدّم، ينعدم حينها الإدراك
لحقائق الحياة، ويكون الإنسان محروماً من الانتصارات العلمية الباهرة في تلك الحالة.
وحيث
يوجد العلم ولا يوجد إيمان ولا فضائل، وحيث يوجد العلم ولا يوجد شرف ولا تقوى،
وحيث يوجد العلم ولا يوجد أثر للفضائل الخُلقية والإنسانية... هناك تظهر الأنانية والاستئثار،
وهناك يسيطر الجَشع والحرص على الناس، هناك يقع الأفراد في شرَك الفساد والخيانة،
هناك تجد الاعتداء والتجاوز على حقوق الآخرين، ويُعكَّر جوّ الصفاء والأمن...
إن
المهندس الفنيّ في صنع السيارة يراعي الموازنة بين قوّة المحرك وقوة جهاز الإيقاف (المكابح).
والتقدم العلمي في العالم المعاصر بمنزلة التكامل المتزايد لقوّة المحرّك
الاجتماعي. أما الفضائل الخُلقية فإنها بمنزلة (المكابح) التي تحفظ الناس في ساعة
الخطر من الموت والسقوط. والإنسان يكون سعيداً عندما يرفع من المستوى الإيماني
والأخلاقي في الوقت الذي يلاحظ فيه الترقّيات العلمية في العالم. وذلك لكي يستخدم
العلم في الطريق المفيد فقط. ومن المؤسف أن البشرية سالكة في الاتّجاه المخالف
لهذا الطريق منذ مدّة ... وكأنه كلّما تتقدّم العلوم، يأخذ الإيمان والتقوى في
التناقص والتقلّص.
إن
العالم اليوم أصبح – بسبب ضعف الجانب الإيماني والأخلاقي فيه - أشبه بسيارة بلا مكابح
تستمر في سيرها بصورة قلقة، والناس يقضون حياةً مليئةً بالاضطراب والقلق، وهم خائفون
من أن تصل بهم الحياة إلى رأس منزلق يودي بهم إلى الهاوية، فيأمر الرؤساء بإشعال
النار، وحينذاك يُستغلّ التقدّم العلمي للتخبّط في النار والدم والقضاء على الكرة الأرضية
في بضع ساعات.
«إذا
بقيَ الذكاء حرّاً غير تابعٍ للإدراك المعقول أو الإلهام بالقِيَم الأخلاقية فذلك
أمرٌ خَطِرٌ جدّاً. فالذكاء ليس يجرّنا إلى الماديّات فحسب، بل يجرّنا إلى البهيمية!
هذه الأسطر كُتبت قبل اطّلاع العالم على اختراع القنبلة الذرية بفترة وجيزة، وهذا
الاختراع يُظهر معاني هذه الكلمات بصورة واضحة. فقد انتبه الناس فجأة إلى أنّ انتصاراً
علمياً عجيباً يهدّد السلام العالمي بصورة فظيعة، وفجأة رأت الدول التي نسمّيها بالمتمدّنة
أنّ اتحاداً أخلاقياً فقط هو القادر على حمايتهم تجاه هذا الخطر.... لأوّل مرة في
التاريخ البشري نرى أن الصراع بين الذكاء والقِيم الأخلاقية صار موضوعاً حيوياً
يتوقّف عليه الحياة أو الموت. نحن نأمل أن نستفيد من هذه العظَمة، ولكنّ المؤسّف
أننا نشكّ في ذلك...». [هذه الفقرة نقلها المؤلف عن كتاب
(سرنوشت بشر) وهو ترجمة فارسية لأحد مؤلفات الفيلسوف الفرنسي بيير لكونت دي نوي]