الموقع ما يزال قيد التجربة
الحجُّ الإبراهيميّ
جهادُ النَّفْس ومقارعةُ الشِّرك
استهلال |
|
السّفر إلى بيت العالَمين |
الإمام الخميني قدّس سرّه |
من أحكام المسجد الحرام، والمسجد النبويّ |
المحدّث الحرّ العاملي قدّس سرّه |
الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله |
الفاضل الهندي رحمه الله |
ختام البداية الرجبيّة |
الشيخ حسين كوراني |
استهلال
«..عن إبراهيم بن ميمون قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق) عليه السلام:
إنّي أحُجّ سنة وشريكي سنة.
قال: ما يمنعك من الحجّ يا إبراهيم؟
قلت: لا أتفرَّغ لذلك جعلت فداك، أتصدّق بخمسمائة مكان ذلك.
قال: الحجّ أفضل، قلت: ألف؟ قال: الحجّ أفضل، قلت: ألف وخمسمائة؟ قال: الحجّ أفضل.
قلت: ألفين؟ قال: في ألفيك طواف البيت؟ قلت: لا.
قال: أفي ألفيك سعي بين الصفا والمروة؟ قلت: لا.
قال: أفي ألفيك وقوف بعرفة؟ قلت لا.
قال: أفي ألفيك رمي الجمار؟ قلت: لا.
قال: أفي ألفيك المناسك؟ قلت: لا.
قال: الحجّ أفضل».
(الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: ح 14392)
السّفرُ إلى بيت العالَمين
أبعاد الحجّ في خطاب الإمام الخمينيّ قدّس سرّه
* اعتاد أكثرُ الناس أن يحصروا اهتمامهم، عند زيارتهم بيت الله الحرام، بالمظاهر الخارجيّة للحجّ، غافلين عن الأبعاد الحقيقية المتوخّاة من هذا المؤتمر الإلهيّ الكبير.
وجاء إمام الأُمّة الراحل الخمينيّ العظيم قدّس سرّه ليُلفت إلى الأبعاد الكبيرة التي أرادها الله تعالى من «الحجّ الإبراهيميّ المحمّدي»، فقال في إحدى كلماته: «إنّ على المسلمين الذين يحملون رسالة الله تعالى أن يستفيدوا من المحتوى السياسي والاجتماعي للحجّ، إضافة إلى محتواه العبادي، وأن لا يكتفوا بالمظهر الخارجي».
وقد أسهب الإمامُ قدّس سرّه في الكلام عن أبعاد الحجّ هذه، ليتنبَّه المسلمون إليها، فتكون الاستفادةُ عُظمى من هذا المؤتمر الإلهيّ العظيم.
في ما يلي، مقتطفات من كلمات الإمام الخميني قدّس سرّه حول أبعاد الحجّ وأسرار مناسكه؛ اخترناها من مجموعة من خطاباته ونداءاته وبياناته التي ألقاها قبيل موسم الحجّ، على مدى عشر سنوات.
«شعائر»
السّفَر إلى الله
سَفَرُ الحجّ ليس سفراً لكسبٍ دنيويّ، وإنّما هو سفرٌ إلى الله! فلا بدّ من تأدية كلّ الأمور بشكل إلهيّ. إنّ سفركم - الذي يبدأ من هنا - هو وفادة إلى الله، والسفر إلى الله، تبارك وتعالى، يجب أن يكون كما كانت أسفار الأنبياء عليهم السّلام وأولياءِ ديننا... فأنتم الآن كذلك وافدون إلى الله.
وأنتم في الميقات تخاطبون الله بكلمة «لبَّيْك»، أي: أنت دعوتَ ونحن أجبنا!
حذارِ من أن يقول الله تبارك وتعالى: لا، لن أقبلكم! حذارِ من أن تجعلوا هذا السفر سفرَ تجارة وتدنّسوه بالدنيا! إنّه سفرٌ إلى الله.
تنزيه الحجّ عن المعاصي
إنّني يحدوني الأمل أن يلتفت الحجّاج الأعزّاء - أيّدهم الله تعالى - إلى الابتعاد عن المعاصي، وينبّهوا أنفسهم وزملاءهم حتى لا يلوّثوا هذه العبادة الالهيّة العظيمة بالمعصية. وعندما يقفون في المواقيت الإلهيّة والمقامات المُقدّسة في جوار بيت الله تعالى المبارك، ينبغي أن يراعوا آداب الحضور في محضر الله المقدّس، وأن لا تتعلّق قلوبهم بأيّ شيء غير الحقّ، وتتحرّر من كلّ ما هو غير حبيب، وأن تتنوّر بأنوار التجليّات الالهيّة حتّى تتجمّل هذه الأعمال ومناسك السير إلى الله بمحتوى الحجّ الإبراهيمي، ومن ثمّ الحجّ المحمّديّ.
قياماً للنّاس
﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ..﴾ المائدة:97.
لقد ذكر اللهُ تعالى في هذه الآية أنّ السرّ في الحجّ، والدافع له، والغاية من جعل الكعبة البيت الحرام، هو نهضة المسلمين وقيامهم لمصالح الناس والشعوب المستضعفة في العالم.
على (الحجّاج) أن يقوموا بدراسة مشاكل المسلمين العامّة، والسعي لإزالتها من خلال المشورة العامّة في هذا الاجتماع الإلهيّ العظيم الذي لا يمكن لأحدٍ إلا أن يَعُدّه القوّة الأزليّة الالهيّة.
رعاية حقّ القرآن الكريم
أُذَكِّر الزائرين الكرام بالأنس بالقرآن الكريم، تلك الصحيفة الالهيّة وكتاب الهداية، في كلّ هذه المواقف الشريفة وطيلة مدّة السفر إلى مكّة المُكَرّمة والمدينة المنوّرة، فكلّ ما ناله المسلمون في القرون السالفة وما سينالونه في المستقبل، يعود إلى البركات اللامتناهية لهذا الكتاب المُقدّس.
تلازم البُعدين السياسي والعبادي
من أهمّ أبعاد فلسفة الحجّ هو بُعده السياسي الذي تسعى لتغييبه والقضاء عليه جميع الأيدي المجرمة، التي استطاعت، وللأسف، وسائلُ دعايتها أن تؤثّر في المسلمين، بحيث بات ينظر أكثر المسلمين إلى الحجّ على أنّه مجرد مراسم عباديّة جافّة وفارغة لا تُعنى بقضايا المسلمين. في حين أنّ الحجّ ومنذ تشريعه، لا يقلّ بعده السياسي أهميّة عن بعده العبادي، فالبُعد السياسي، بالإضافة إلى سياسيّته، هو عبادة بحدّ ذاته...
عندما يُصبح الحجّ صورةً بلا معنى
الحجّ من المسائل التي يَغلُبُ فيها البعدُ السياسي البُعدَ العبادي. واليوم أنتم مقبلون على التوجّه لأداء هذه الفريضة السياسيّة العباديّة المهمّة، عليكم أن تلتفتوا إلى أنّ الفكر الاستعماري قد غزا عقول الكثير من المسلمين ورجال الدين في البلدان الإسلاميّة، ويقع على عاتقكم أنتم مُهمّة إزالة ذلك من أذهانهم. قولوا لهم في أحاديثكم واجتماعاتكم إنّ الإسلام الحقيقي هو غير ما نحن عليه الآن. فالحجّ ليس فقط أن نأتي إلى مكّة ونطوف حول الكعبة ونقف في عرَفَة .... من دون أن نعبأ بما يرتكبه المستكبرون من ظلم بحقّ المسلمين وبحقّ مستضعفي العالم، ومن دون أن نهتمّ بأمور المسلمين وأوضاعهم.
والمؤسف أن تجد بين رجال الدين المسلمين من يُدينون التدخّل في هكذا أمور، لا سيّما معمّمي البلاط، الذين أضرّوا بالإسلام أكثر ممّا أضرّت به أميركا، لأنّ هؤلاء يطعنون الإسلام من الخلف ويعزلونه باسم الإسلام وبظاهرٍ إسلاميّ. أمّا أميركا، فلا تستطيع ذلك، ولهذا تفرض على أمثال هؤلاء فعل ذلك.
الحجّ الحقيقي والمقبول هو الحجّ الحيّ، الحجّ الصارخ بوجه الظلم والظالمين، الحجّ الذي يُدين جرائم السوفيت وجرائم أميركا وكلّ المستكبرين، ويتبرّأ منهم وممن يواليهم.
وأمّا أن نذهب إلى الحجّ ونقوم بأداء مناسكه من دون أن نهتمّ بأمور المسلمين - بل على العكس أن نتستّر على الجرائم التي تُرتكب ولا نسمح لأحدٍ بالتكلّم عمّا يُرتكب بحقّ المسلمين من جرائم على أيدي القوى الكبرى والحكومات العميلة لها - فإنّ هذا ليس بحجّ، إنّه صورة بلا معنى.
الحجّ الحسيني
[قال الإمام قدّس سرّه مخاطباً الشعب الإيرانيّ أيّام الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية]:
على (الحجّاج) الأعزّاء أن يسيروا من أقدس بقاع العشق والجهاد إلى كعبةٍ أسمى، ويحذوا حذو سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام الذي أقبلَ من إحرام الحجّ إلى إحرام الحرب، ومن طواف الكعبة والحرم إلى طواف صاحب البيت، ومن وضوء زمزم إلى غُسل الشهادة والدم؛ فتتحوّل أُمَّتُهم إلى أُمّة لا تُقهر؛ ويصبحون كالبنيان المرصوص والطود الشامخ، ولا تروّعهم قوى الشرق والغرب.
بديهيّ أنّ روح الحجّ ونداءه ليس إلّا أخْذ المسلمين بجدول أعمال جهاد النفس من جهة، وبرنامج مقارعة الكفر والشرك من جهة أخرى.
الحجّ المهدويّ
إنّ [إبراهيم الخليل عليه السلام] المحطّم للأصنام، وسليله الكريم محطّم الأصنام (أيضاً)، سيّد الأنبياء، محمّداً المصطفى صلّى الله عليه وآله، علّما البشريّة جمعاء أنّه لا بدّ من تحطيم الأصنام أياً كانت. وأن يُطهَّر العالم بأَسْره، انطلاقاً من مكّة، أُمّ القُرى، حتى آخر نقطةٍ على سطح الأرض، وإلى قيام الساعة، من دنَس هذه الأصنام أيّاً كانت، أهياكل كانت، أم شموساً، أم أقماراً، أم حيواناتٍ، أم بشراً.
وأيّ صنمٍ أسوأ وأخطر من الطواغيت على مرّ التاريخ، منذ زمان آدم صفيّ الله، إلى زمان إبراهيم خليل الله، فزمان محمّد المصطفى حبيب الله صلّى الله عليهم أجمعين، إلى الزمان الذي يقوم فيه محطّم الأصنام الأخير ويعلو نداء التوحيد من مكّة.
أليس هؤلاء المستكبرون أصناماً كبيرةً تدعو العالم لإطاعتها وعبادتها، بالترهيب تارةً وبالترغيب والتزوير تارةً أخرى؟
الكعبة المشرّفة هي المركز الوحيد لتحطيم هذه الأصنام. وقد توالى الأنبياء على تنفيذ هذه المهمّة، منذ آدم، إلى إبراهيم الخليل، إلى محمّدٍ المصطفى، وإلى أن يقوم سليله المهديّ الموعود، روحي فداه، فَيُحطّم أصنام زمانه من الطواغيت والظُّلّام، وتشعّ الأرض بنور التوحيد والعدالة الإلهيّة، من مركز التوحيد، مكّة المُكَرّمة....
والمهديّ المنتظر وعلى لسان جميع الأديان، وباتّفاق جميع المسلمين سينادي من الكعبة، ويدعو البشريّة جمعاء إلى التوحيد، فجميع نداءات التوحيد عَلَتْ من الكعبة ومن مكّة، ونحن بدورنا، علينا أن نتابع المسيرة ونرفع نداءات كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة من هذا المكان المُقدّس، وأن نحطّم أصنام زماننا بحضورنا الفاعل والنشيط في مكّة المُكَرّمة من خلال عقد الاجتماعات، والنداءات، ومسيرات البراءة من المشركين والمستكبرين في هذا العالم، وفضح جرائمهم وإدانتها، وأن نطرد الشياطين ونرميها بالجمار... وعلى رأسها الشيطان الأكبر أميركا. لنؤدّي بذلك حجّ خليل الله، وحجّ حبيب الله، وحجّ وليّ الله المهديّ المنتظر...
معنى التلبية
.. عندما تقال كلمة «لبّيك» بحقّ، وتكون الهجرة إلى الله تعالى ببركة إبراهيم ومحمّد (صلوات الله عليهما وآلهما)، فإنّ ذلك بمنزلة كلمة «لا» لكافة الأوثان والطواغيت والشياطين. وأيّ وثنٍ أكبر من الشيطان الأكبر المتمثّل بأميركا المستعمرة والاتحاد السوفياتي الملحد والظالم، وأيّ طاغوت أكبر من طواغيت زماننا؟
عند قولكم «لبّيك» اقصدوا بها قولَ «كلّا» لكافة الأوثان والطواغيت، وعند طواف بيت الله الحرام - مظهر العشق الحقيقي - أفرِغوا قلوبكم من كلّ شيء، وطهّروا أرواحكم من خوف غير الباري جلّ وعلا، وإلى جانب العشق الحقيقي تبرّأوا من الأوثان - كبيرها وصغيرها – ومن الطواغيت وأذنابهم كما تبرّأ الله ورسوله منهم...
استحضار جوهر الحجّ عند المواقف
* بايعوا الله - عند تناول «الحجر الأسود» بأيديكم - على أن تكونوا أعداءاً لأعدائه ولأعداء رسوله والصّلحاءِ والأحرار، وألا ترضخوا لهم أبداً، ولا تهِنوا وتذلّوا، فإنّ أعداء الله، وعلى رأسهم الشيطان الأكبر أذلّاء، برغم تفوّقهم في آلات القتل والقمع وارتكاب الجرائم.
* وعند السّعي بين «الصفا والمروة»، اسعوا بإخلاص لإدراك المحبوب، حيث تنقطع بوجوده جميع الموجودات الدنيويّة، وتنهار كلّ الشكوك والالتباسات، وتزول كلّ ألوان الخوف الحيواني، وتنفصم عُرى كافة العلائق الماديّة، وتتفتّح الحرّيّات، وتتحطّم أغلال الشيطان والطاغوت التي يأسرون بها عباد الله.
* وتوجّهوا إلى «المشعر الحرام» و«عرفات» بحالة من الخشوع والعرفان، وازدادوا في كلّ موقف يقيناً بتحقّق الوعد الإلهيّ حول حكومة المستضعفين، وتفكّروا في آيات الله بسكون ووقار، وفكّروا في إنقاذ المحرومين والمستضعفين من مخالب الاستكبار العالمي، واطلبوا التوفيق من الله تعالى لمعرفة طُرق النجاة في تلك المواقف الكريمة.
* ثمّ اذهبوا إلى «مِنى» واحصلوا على آمالكم المشروعة المتمثّلة بالتضحية بالغالي والنفيس من أجل المحبوب المطلق. واعلموا بأنّكم لا تبلغون المحبوب المطلق إلّا باجتياز ما تصبو إليه أنفسكم، وتتجسّد ذروة ذلك في حبّ النفس ثمّ يتلوه حبّ الدنيا، وارجموا الشيطان وأنتم على هذه الحال ليفرّ مُوَلِيّاً عنكم. وتابعوا رجم الشيطان في الأماكن المختلفة طبقاً للأوامر الإلهيّة كي لا تبقى له ولأتباعه باقية.
تجنّب الرياء
الأمر المهمّ في كلّ العبادات، الإخلاص في العمل، فلو قام أحدٌ بالعمل من أجل الرياء والتظاهر أمام الناس والتباهي عليهم بحسن عمله، فعمله باطل، وعلى الحجّاج المحترمين أن لا يُشركوا رضا غير الله تعالى في أعمالهم، والجهات المعنويّة في الحجّ كثيرة، فالمهمّ هو أن يعلموا إلى أين يتجهون؟ ودعوة مَن يُجيبون؟ وضيوف مَن هم؟ وما هي آداب هذه الضيافة؟
وليعلموا أنّ الأنانيّة وحبّ الذات بجميع أشكالهما ينقضان محبّة الله ويخالفان الهجرة إلى الله، وهي مستوجبة لنقص معنويات الحجّ. ولو تحقّقت للإنسان هذه الجهة العرفانيّة والمعنويّة، وتحقّقت التلبية الصادقة مقترنة بنداء الحقّ تعالى فسيفوز وينتصر في كلّ الميادين السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وحتى العسكريّة، ولا معنى للهزيمة لدى مثل هذا الإنسان، نسأل الله تعالى أن يرزقنا شمّةً من هذا السير المعنوي والهجرة الإلهيّة.
التحرّر من رقّ الاستهلاك
* ممّا يؤسف له هو أنّ مكّة المعظّمة، وجدّة، والمشاهد المشرّفة في الحجاز، التي هي مراكز الوحي ومهبط جبرائيل وملائكة الله - والتي يجب بحكم الإسلام أن تُحطَّم أصنام الجناة هناك، وأن يُصرَخ في وجوههم ويُتَبَّر أمنُهم - صارت تلك الأماكن المقدّسة مملوءة بالبضائع الأجنبيّة وأصبحت سوقاً لأعداء الإسلام والنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم. وكثيرٌ من حجّاج بيت الله الحرام الذين يذهبون لأداء فريضة الحجّ يجب عليهم في هذا المكان المقدّس أن ينهضوا في مقابل مؤامرات الأجانب ويصرخوا في وجوههم: «يا للمسلمين»! لكننا نراهم غافلين يتردّدون إلى الأسواق بحثاً عن البضائع الأميركيّة والأوروبيّة واليابانيّة فيوجعون بعملهم هذا قلبَ صاحب الشريعة، حيث إنّهم يتلاعبون بكرامة الحجّ والحجّاج وشرفهم.
* شراء البضائع المعروضة للحجّاج في الحجاز والمتعلّقة بأميركا المخالفة للأهداف الإسلاميّة والإسلام بالذات يُعدّ إعانةً لأعداء الإسلام وترويجاً للباطل، فيجب تجنّب ذلك والاحتراز عنه. ليس من الإنصاف أن يضحّي فتياننا الأعزّاء بأرواحهم في جبهات القتال وأنتم تساعدون مجرمي الحرب بشرائكم هذه البضائع، وتوجّهون صفعةً للإسلام وللجمهوريّة الإسلاميّة وشعبكم المظلوم بهذه الأعمال. يُمكنكم شراء بعض المستلزمات لكم ولأصدقائكم من إيران نفسها لئلّا تحصل إعانة للأعداء بذلك.
أفضلُ بقاع الأرض
من أحكام المسجد الحرام، والمسجد النّبويّ
ــــــــــــــــــــ المحدّث الحرّ العاملي قدّس سرّه ــــــــــــــــــــ
* يؤكّد الإمام الخمينيّ قدّس سرّه أنَّ الدقة في الالتزام بتشريعات الحجّ ومناسكه هي المدخل الضروري للفوز بكمالاته المعنويّة والربّانيّة، مشدّداً على أن يكرّس الحجّاج ومرشدو القوافل كلّ اهتمامهم في تعلّم المناسك وتعليمها.
يتناول هذا المقال المختصر عن كتاب (هداية الأُمَّة) للمحدّث الحرّ العامليّ اثني عشر حُكماً من أحكام المسجد الحرام، ومثلها من أحكام مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله ومساجد المدينة المنوّرة عموماً.
نشير إلى أن كتاب (هداية الأُمَّة إلى أحكام الأئمّة) للمُحدّث الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت: 1104 للهجرة)، انتخبه قدّس سرّه من كتابه (وسائل الشيعة) بحذف الأسانيد والمكرّرات، وأورد فيه اثنتي عشرة مقدّمة في الأصول، ثُمَّ اثني عشر كتاباً في الفقه، ورتّب المطالب في كلّ كتاب على اثني عشر باباً أو فصلاً أو حُكماً، ولذا يُقال له أيضاً: (الاثنا عشر باباً).
«شعائر»
في أحكام المسجد الحرام، وهي اثنا عشر
1) يُستحبّ الإكثار من الصّلاة فيه.
* قال الباقر عليه السلام: «مَنْ صَلَّى في المَسْجِدِ الحرامِ صَلاةً مَكتوبةً قَبِلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ صَلاةٍ صَلَّاها مُنْذُ يَوْمِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ، وَكُلَّ صَلاةٍ يُصلَّيها إِلى أَنْ يَموتَ».
* وقال الصّادق عليه السلام: «أَكْثِروا مِنَ الصَّلاةِ والدُّعاءِ في هَذا المَسْجدِ، أَما أَنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ رِزْقاً يُحازُ إِلَيْهِ حَوْزاً».
2) يستحبّ اختيار الصّلاة فيه على الصّلاة في جميع المساجد.
* قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «الصَّلاةُ في مَسْجِدي كَأَلْفِ صَلَاةٍ في غَيْرِهِ إلَّا المَسْجِدَ الحَرامَ، فَإِنَّ الصَّلاةَ في المَسْجِدِ الحرامِ تَعْدِلُ أَلْفَ صَلاةٍ في مَسْجِدي».
* وقال الباقر عليه السلام: «صَلاةٌ في المَسْجِدِ الحرامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ في غَيْرِهِ مِنَ المَساجِدِ».
* وقال الصّادق عليه السلام: «الصَّلاةُ في المَسْجِدِ الحرامِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلاةٍ».
* ورُوي: «الصَّلاةُ فيهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ في غَيْرِهِ بِسِتّينَ سَنَةً وَأَشْهُراً».
3) يجوز استدبار المصلّي في المَسْجِدِ الحرامِ للمقام.
* روي في الرّجل يصلّي بمكَّة: يجعل المقام خلف ظهره وهو مستقبل الكعبة؟ قال: «لا بَأْسَ، يُصَلّي حَيْثُ شاءَ مِنَ المَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيِ المَقامِ أو خَلْفَهُ، وَأَفْضَلُهُ الحَطيمُ وَالحِجْرُ أَوْ عِنْدَ المَقامِ؛ والحَطيمُ حِذاءُ البابِ».
4) يستحبّ اختيار الصّلاة في الحطيم على جميع البقاع، لما مرّ.
* وسُئل الصّادق عليه السلام: الصّلاة في الحَرَم كلّه سواء؟ فقال: «ما الصّلاةُ في المَسْجِدِ الحَرامِ كُلِّهِ سَواءٌ، فَكَيْفَ تَكونُ في الحَرَمِ كُلِّهِ سَواءٌ؟
قيل: فأيُّ بِقاعِهِ أَفْضَلُ؟
قال: ما بَيْنَ البابِ إلى الحَجَرِ الأَسْوَدِ».
* وسُئل عليه السلام عن الحطيم، فقال: «ما بَيْنَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ وبَيْنَ البابِ».
* وقال عليه السلام: «إِنْ تَهَيَّأ لَكَ أَنْ تُصَلِّيَ صلاتَكَ كُلَّها، الفَرائِضَ وَغَيْرَها، عِنْدَ الحَطيمِ فَافْعَلْ، فَإنَّهُ أَفْضَلُ بُقْعَةٍ عَلى وَجْهِ الأرض؛ وَالحَطيمُ ما بَيْنَ بابِ البَيْتِ وَالحَجَرِ الأَسْوَدِ، وَهُوَ المَوْضِعُ الَّذي تابَ اللهُ فيه عَلَى آدَمَ، وَبَعْدَهُ الصَّلاةُ في الحِجْرِ أَفْضَلُ، وَبَعْدَ الحِجْرِ ما بَيْنَ الرُّكْنِ الشّامِيِّ وبابِ البَيْتِ وَهُوَ الَّذي كانَ فيهِ المَقامُ، وَبَعْدَهُ خَلْفَ المَقامِ حَيْثُ هُوَ السّاعَةَ، وَما قَرُبَ مِنَ البَيْتِ فَهُوَ أَفْضَلُ».
5) يستحبّ الصّلاة في الحِجر خصوصاً بحيال الميزاب، لما مرّ.
* دخل الصّادق عليه السلام الحِجر من ناحية الباب، فقام يصلَّي على قدر ذراعين عن البيت، فقال له رجل: ما رأيت أحداً من أهل بيتك يصلَّي بحيال الميزاب، فقال: «هَذا مُصَلَّى شُبَّرٍ وَشَبيرٍ ابْنَيْ هارونَ».
6) تُستحبّ الصّلاة في مقام إبراهيم الأَوَّل، لما مرّ.
* سُئل الرّضا عليه السلام عن أفضل موضعٍ في المَسْجِدِ يُصلَّى فيه، قال: «الحَطيمُ ما بَيْنَ الحِجْرِ وَبابِ البَيْتِ.
قيل: والَّذي يلي ذلك في الفضل؟ فذكر أنّهُ عندَ مَقامِ إبْراهيمَ، قيل: ثُمَّ الَّذي يليهِ في الفضل؟
قال: في الحِجْرِ.
قيل: ثُمَّ الَّذي يلي ذلك؟
قال: كُلُّ ما دَنا مِنَ البَيْتِ».
* وسُئل عليّ بن محمّد (الهادي) عليه السلام عن الصّلاة بمكَّة في أيّ موضع أفضل؟
قال: «عِنْدَ مَقامِ إِبْراهيمَ الأَوّل، فَإِنَّه مَقَامُ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم».
7) تُستحبّ الصّلاة خلف المقام حيث هو الآن، لما مرّ ولما يأتي.
8) تُستحبّ الصّلاة في [أيّ] مكان من المسجد الحرام قريبٍ من الكعبة، لما مرّ.
9) لا تُكره صلاة الفريضة في الحِجر كما تُكره في الكعبة، لما مرّ.
* وقال رجل للصّادق عليه السلام: «إنّي كنت أصلَّي في الحِجر فقال لي رجل: لا تُصَلِّ المكتوبة في هذا الموضع، فإنّ الحِجْرَ من البيت.
فقال: كَذَبَ، صَلِّ فيهِ حَيْثُ شِئْتَ».
* وسُئل عليه السلام عن الحِجر: هل فيه شيء من البيت؟ فقال: «لا، وَلا قُلامَةَ ظُفْرٍ».
10) يستحبّ الصّلاة في ما زيد في المَسْجِدِ الحرامِ.
* سُئل الصّادق عليه السلام عمّا زادوا في المَسْجِدِ الحرامِ، فقال: «إنَّ إبْراهيمَ وَإِسْماعيلَ حَدَّا المَسْجِدَ الحَرامَ ما بَيْنَ الصَّفا وَالمَرْوَةِ».
* وقال عليه السلام: «كانَ خَطَّ إِبْراهيمُ بِمَكَّةَ ما بَيْنَ الحَزورَةِ إِلى المَسْعَى فَذَلِكَ الَّذي خَطَّ إِبْراهيمُ»، يَعْنِي المَسْجِدَ. [الحَزورة موضعٌ بمكّة]
* وروي: «أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغوا بَعْدُ مَسْجِدَ إِبْراهيمَ وَإِسْماعيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ».
11) يستحبّ اختيار الطَّواف المندوب على الصّلاة المندوبة للوارد والمجاور في السّنة الأَوَّلى، والمساواة في الثّانية، واختيار إكثار الصّلاة في الثّالثة...
12) يجب إيقاع صلاة الطَّواف (الواجب) في المَسْجِدِ الحرامِ خلف المقام أو إلى جانبه...
في أحكام مساجد المدينة
1) يستحبّ الإكثار من الصّلاة في مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وآله.
* عن أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: «أَرْبَعَةٌ مِنْ قُصورِ الجَنَّةِ في الدُّنْيا: المَسْجِدُ الحَرام، وَمَسْجِدُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَمَسْجِدُ الكوفَةِ».
2) يستحبّ اختيار الصّلاة فيه على الصّلاة في سائر المساجد، إلَّا المسجدَ الحرامَ فَإنَّهُ أفضل.
* عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «الصَّلاةُ في مَسْجدِي تَعْدِلُ أَلْفَ صَلاةٍ في غَيْرِهِ إلَّا المَسْجِدَ الحَرامَ، فَهُوَ أَفْضَلُ».
* وقال صلّى الله عليه وآله: «صَلاةٌ في مَسْجدي تَعْدِلُ عَشَرَةَ آلافِ صَلاةٍ فيما سِواهُ مِنَ المَساجِدِ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرامَ».
* وقال صلّى الله عليه وآله: «صَلاةٌ في مَسْجدي تَعْدِلُ أَلْفَ صَلاةٍ في غَيْرِهِ، وَصَلاةٌ في المَسْجِدِ الحرامِ تَعْدِلُ أَلْفَ صَلاةٍ في مَسْجِدي».
* وقال صلّى الله عليه وآله: «صَلاةٌ في مَسْجِدي هذا تَعْدِلُ مائةَ ألْفِ صَلاةٍ في غَيْرِهِ مِنَ المَساجِدِ إلَّا المَسْجِدَ الحَرامَ، وَصَلاةٌ في المَسْجِدِ الحرامِ تَعْدِلُ مِائَةَ ألْفِ صَلاةٍ في غَيْرِهِ».
* وروي: «صَلاةٌ في المَسْجِدِ الحرامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ، وصَلاةٌ في مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ بِعَشَرَةِ آلافِ صَلاةٍ».
3) يستحبّ الصّلاة فيما بين القبر والمنبر.
* قال صلّى الله عليه وآله: «ما بَيْنَ مِنْبَري وَبَيْتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَري عَلى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الجَنَّةِ». وَالتُّرْعَةُ هِيَ الباب الصّغير.
4) يستحبّ الصّلاة في بيت عليّ وفاطمة عليهما السلام واختياره على الرّوضة.
* سُئل الصّادق عليه السلام عن الصّلاة في بيت فاطمة أفضل أو في الرّوضة؟ قال: «في بَيْتِ فاطِمَةَ».
* وسُئل عليه السلام عن الصّلاة في بيت فاطمة مثل الصّلاة في الرّوضة؟ قال: «وأفضَل».
5) سُئل الصّادق عليه السلام عن الصّلاة في المدينة هل هي مثل الصّلاة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ؟
قال: لا، إنَّ الصَّلاةَ في مَسْجِدِ رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَلْفُ صَلاةٍ؛ وَالصَّلاة في المَدينَةِ مِثْلُ الصَّلاةِ في سائِرِ البُلْدانِ.
6) تجوز الصّلاة قريباً من القبر...
7) حدّ المسجد:
* سُئل الصّادق عليه السلام كم كان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله؟
قال: «كانَ ثَلاثَةَ آلافٍ وَسِتَّمِائَةِ ذِراعٍ مُكَسَّرَةٍ». [المراد بالمُكسّر حاصلُ ضرب الطول بالعرض، ويُحتمل كونه تعييناً للذراع، قيل: الذّراع المكسّرة ستُّ قبضات]
* وسُئلَ عليه السلام عن حدّ مسجد الرّسول صلّى الله عليه وآله، قال: «الأُسْطوانَةُ الَّتي عِنْدَ رَأْسِ القَبْرِ إِلى الأسْطوانَتَيْنِ مِنْ وَراءِ المِنْبَرِ عَنْ يَمينِ القِبْلَةِ، وَكانَ مِنْ وَراءِ المِنْبَرِ طَريقٌ تَمُرُّ فيهِ الشّاةُ وَيَمُرُّ الرَّجُلُ مُنْحَرِفاً، وَكانَ ساحَةُ المَسْجِدِ مِنَ البَلاطِ إِلى الصَّحْنِ». [البَلاط بفتح الباء موضعٌ بالمدينة ما بين المسجد والسوق]
* وقال عليه السلام: «حَدُّ الرَّوْضَةِ في مَسْجِدِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ إلى طَرَفِ الظّلالِ، وَحَدُّ المَسْجِدِ إِلى الأُسْطُوانَتَيْنِ عَنْ يَمينِ المِنْبَرِ إِلى الطَّريقِ مِمَّا يَلي سوقَ اللَّيْلِ».
8) تُستحبّ الصّلاة في مسجد قُبا.
* سُئل الصّادق عليه السلام عن المسجد الَّذي أسّس على التّقوى، قال: «مَسْجِدُ قُبا».
* وقال عليه السلام: «لا تَدَعْ إِتْيانَ المَشاهِدِ كُلِّها: مَسْجِدِ قُبا فَإنَّهُ المَسْجِدُ الَّذي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَمَشْرَبَةِ أُمِّ إِبْراهيمَ، ومَسْجِدِ الفَضيخِ، وَقُبورِ الشُّهداءِ، ومَسْجِدِ الأَحْزابِ وَهُوَ مَسْجِدُ الفَتْحِ».
* وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «مَنْ أَتى مَسْجِدي، مَسْجِدَ قُبا، فَصَلّى فيهِ رَكْعَتَيْنِ رَجَعَ بِعُمْرَةٍ».
9) تُستحبّ الصّلاة في مشربة أمّ إبراهيم، لما مرّ. [يرِد الحديث عنها وعن سائر مشاهد المدينة المنوّرة في المقال التالي]
10) تُستحبّ الصّلاة في مسجد الفضيخ، لما مرّ.
11) يستحبّ زيارة قبور الشّهداء، لما مرّ.
12) تُستحبّ الصّلاة في مسجد الأحزاب، لما مرّ.
الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله
من مستحبّات زيارة المدينة المنوّرة
_____ الفاضل الهندي، صاحب (كشف اللثام) _____
* قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَنْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ هَاجَرَ إِلَيَّ فِي حَيَاتِي، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَابْعَثُوا إِلَيَّ بِالسَّلامِ فَإِنّهُ يَبْلُغُنِي».
جملة من مستحبّات زيارة المدينة المنوّرة ومشاهدها، نوردها في هذا المقال مختصرةً عن كتاب (كشف اللثّام) للفاضل الهندي، المولى محمّد بن الحسن الأصفهاني (ت:1137 للهجرة)، وهو واحدٌ من عشرات الشروح على كتاب (قواعد الأحكام) للعلّامة الحلّيّ، الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسديّ (ت: 726 للهجرة).
مع الإشارة إلى أننا ميّزنا عبارة المتن للعلامة الحلّي بلون وحجم مغايرين عن شرح الفاضل الهندي رضوان الله تعالى عليهما.
«شعائر»
* تُستحبّ زيارة النّبيّ صلّى الله عليه وآله استحباباً مؤكّداً، ولذا جاز أن يُجبر الإمام الناس عليها لو تركوها، ويمكن الوجوب لقول الصادق عليه السلام: «.. لَوْ أَنَّ النّاسَ تَرَكوا الحَجَّ لَكانَ عَلَى الوالِي أنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلى المُقامِ عِنْدَهُ، وَلَوْ تَرَكوا زِيارَةَ النَّبِيِّ لَكانَ عَلى الوالِي أنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، (وَعَلى المُقامِ عِنْدَهُ)، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمْوالٌ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوالِ المُسْلِمينَ».
واحتجّ [غير واحد من الفقهاء] بأنه يستلزم الجفاء وهو محرّم، يشير إلى قوله صلّى الله عليه وآله: «مَنْ أَتَى مَكَّةَ حاجّاً وَلَمْ يَزُرْني إِلى المَدينَةِ فَقَدْ جَفاني».
وفي حُرمة الجفاء نظر، ولو تمّ وجبَ إجبار كلّ واحدٍ واحد، والخبر ليس نصّاً في الوجوب، والأصلُ العدم، ولذا حمله ابن إدريس [في السرائر] على تأكّد الاستحباب.
* ويُستحبّ تقديمها على إتيان مكّة إذا حجّ على طريق العراق لصحيح العِيص؛ سأل الصادقَ عليه السلام عن الحاجّ من الكوفة يبدأ بالمدينة أفضل أو بمكّة؟ قال: «بِالمَدينَةِ».
* وخوفاً من ترك العود وهو يعمّ كلّ طريق، ولذا أطلق المصنّف، لكن أخبار العكس كثيرة.
قال الصدوق: «وهذه الأخبار إنّما وردت فيمن يملك الاختيار ويقدر على أن يبدأ بأيهما شاء من مكّة أو المدينة، فأمّا مَن يؤخَذ به على أحد الطريقين - فاحتاج إلى الأخذ فيه شاء أو أبى - فلا خيار له في ذلك، فإن أُخذ به على طريق المدينة بدأ بها، وكان ذلك أفضل له، لأنه لا يجوز له أن يدع دخول المدينة وزيارة قبر النّبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام بها وإتيان المشاهد انتظاراً للرجوع، فربّما لم يرجع أو اخترم دون ذلك، والأفضل له أن يبدأ بالمدينة، وهذا معنى حديث صفوان عن العيص بن القاسم..»، وذكر الخبر.
ويُستحبّ:
* النزول بالمعرّس معرّس النبيّ صلّى الله عليه وآله على طريق المدينة بذي الحليفة ليلاً أو نهاراً للأخبار، وإن كان التعريسُ بالليل. [التعريس لغةً: نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة، والمعرّس: موضع التعريس، وبه سُمّي معرّس ذي الحليفة، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله بات فيه ليلته، وصلّى الصبح ثُمَّ رحل]
وقال أبو عبد الله الأسديّ: «بذي الحليفة مسجدان لرسول الله صلّى الله عليه وآله، فالكبير الذي يُحرم الناس منه، والآخر مسجد المعرَّس، وهو دون مصعد البيداء، بناحيةٍ عن هذا المسجد».
وفي (الدروس) [للشهيد الأَوَّل]: إنّه بإزاء مسجد الشجرة إلى ما يلي القبلة، والأخبار ناطقة بالنزول والاضطجاع فيه، وقال الصادق عليه السلام في خبر ابن عمّار: «إِنَّما التَّعْريسُ إِذا رَجَعْتَ إِلى المَدينَةِ، لَيْسَ إِذا بَدَأْتَ». وَقد بلغ تأكدّه إلى أن وردت الأخبار بأن مَن تجاوزه بلا تعرُّس رجعَ، فعرّس.
* وصلاة ركعتين به، وإن كان وقتَ صلاةٍ صلاها به، وإن ورده في أحد ما يُكره فيه النوافل أقام حتّى تزول الكراهية على ما في خبر عليّ بن أسباط الذي في (الكافي)، وصحيح البزنطيّ الذي في (قُرب الإسناد) للحميريّ، كليهما عن الرّضا عليه السلام.
* ويستحبّ الغسل عند دخولها للدخول ودخول مسجدها وللزيارة.
* ويستحبّ زيارة فاطمة عليها السلام في ثلاثة مواضع، لاختلاف الأخبار في موضع قبرها الشريف:
- الروضة، وهي بين القبر والمنبر، للخبر بأنها روضةٌ من رياض الجنة.
- وبيتها، وهو الآن داخلٌ في المَسجد.
- والبقيع.
* و[يستحبّ] زيارة الأئمّة الأربعة عليهم السلام به؛ أي البقيع. والصلاة في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله خصوصاً الروضة. وفي خبرَي جميل بن درّاج ويونس بن يعقوب عن الصادق عليه السلام: «إِنَّ الصَّلاةَ في بَيْتِ فاطِمَةَ عَلَيْها السَّلامُ أَفْضَلُ».
* وصوم أيّام الحاجة بها، وهي الأربعاء والخميس والجمعة، والاعتكاف فيها بالمسجد.
* والصلاة ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة؛ بشير بن عبد المنذر الأنصاريّ، أو رفاعة بن عبد المنذر، وهي أسطوانة التوبة، وهي الرابعة من المنبر في المشرق على ما في (خلاصة الوفاء)، والقعود عندها يومه.
* والصلاة ليلة الخميس عند الأسطوانة التي تلي مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ أي المحراب والكون عندها يومه.
قال الصادق عليه السلام في صحيح ابن عمّار: «إنْ كانَ لَكَ مُقَامٌ بِالمَدينَةِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ صُمْتَ أَوَّلَ يَوْمٍ الأَرْبِعاء، وَتُصَلّي لَيْلَةَ الأَرْبِعاءِ عِنْدَ أُسْطوانَةِ أَبي لُبابَةَ، وَهِيَ أُسْطوانَةُ التَّوْبَةِ الّتي كانَ رَبَطَ فيها نَفْسَهُ حَتّى نَزَلَ عُذْرُهُ مِنَ السَّماِء، وَتَقْعُدُ عِنْدَها يَوْمَ الأَرْبِعاءِ.
ثُمَّ تَأْتي لَيْلَةَ الخَميسِ الّتي تَليها مِمّا يَلي مَقامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ لَيْلَتَكَ وَيَوْمَكَ، وَتَصومُ يَوْمَ الخَميسِ.
ثُمَّ تَأْتي الأُسْطوانَةَ الّتي تَلِي مَقامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ وَمُصَلّاهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَتُصَلّي عِنْدَها لَيْلَتَكَ وَيَوْمَكَ وَتَصومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ.
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا تَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ في هَذِهِ الأَيَّامِ، إِلّا ما لا بُدَّ لَكَ مِنْهُ. وَلا تَخْرُجْ مِنَ المَسْجِدِ إِلّا لِحاجَةٍ. وَلا تَنَامَ في لَيْلٍ وَلا نَهارٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمّا يُعَدُّ فيهِ الفَضْلُ.
ثُمَّ احْمَدِ اللهَ في يَوْمِ الجُمُعَةِ، وَأَثْنِ عَلَيْهِ وَصَلِّ عَلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ وَسَلْ حاجَتَكَ، وَلْيَكُنْ فيما تَقولُ: (اللَّهُمَّ ما كانتْ لي إليْكَ مِنْ حاجَةٍ شَرَعْتُ أنا في طَلبِها وَالتِماسِها، أوْ حاجَةٍ لمْ أشْرَعْ، سَأَلْتُكَها أوْ لمْ أسْأَلْكَها، فَإِنّي أتوَجَّهُ إليْكَ بِنبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ في قّضاءِ حَوائِجي، صَغيرِها وَكَبيرِها)، فـَإِنـَّهُ حَرِيٌّ أَنْ تُـُقْضى إِلـَيْكَ حاجَتـُكَ إنْ شاءَ اللهُ»...
* ويستحبّ إتيان المساجد التي بها، كمَسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح، وهو الذي دعا فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله يوم الأحزاب ففتح له، وهو على قطعةٍ من جبل سَلْع يصعد إليه بدرجتين، وفي قبلته من تحت مسجدان آخران، مسجدٌ ينسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وآخر إلى سلمان رضي الله عنه.
- ومسجد الفضيخ بالمعجمات، وهو بشرقي قُباء، على شفير الوادي، على نشر من الأرض، يقال: إنه صلّى الله عليه وآله كان إذا حاصر بني النضير ضُربت قبّته قريباً منه، وكان يُصلّي هناك ستّ ليالي، وحُرّمت الخمر هناك، وجماعة من الأنصار كانوا يشربون فضيخاً فحلّوا وكاء السقاء فهرقوه فيه.
وفي خبر ليث المرادي عن الصادق عليه السلام «أنَّهُ سُمِّيَ بِهِ لِنَخْلٍ يُسَمّى الفَضيخَ».
وفي خبر عمّار عنه عليه السلام: «إِنَّ فيهِ رُدَّتِ الشَّمْسُ لِأَميرِ المُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلامُ».
- ومسجد قُباء بالضمّ والتخفيف والمدّ، وهو من المدينة نحو ميلين من الجنوب، وهو الذي أُسّس على التقوى كما في حَسَن ابن عمّار وغيره. وفي مرسل حريز عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «إِنَّ مَنْ أَتاهُ فَصَلّى فيهِ رَكْعَتَيْنِ رَجَعَ بِعُمْرَةٍ».
- ومشربة أُمّ إبراهيم؛ أي الغرفة التي كانت فيها [أمّ المؤمنين] مارية القبطيّة، ويقال: إنّها ولدت فيها إبراهيم عليه السلام.
- وقبور الشهداء بأُحُدٍ؛ خصوصاً قبر حمزة عليه السلام. قال الصادق عليه السلام في صحيح ابن عمّار: «ولا تَدَعْ إِتْيانِ المَشاهِدِ كلِّها: مَسْجِد قُبا فَإنَّهُ المَسْجِدُ الّذي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَمَشْرَبَةِ أُمِّ إِبْراهيمَ، وَمَسْجِدِ الفَضيخِ، وَقُبورِ الشُّهَداءِ، وَمَسْجِدِ الأَحْزابِ وَهُوَ مَسْجِدُ الفَتْحِ، قالَ: وَبَلَغَنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ كانَ إِذا أَتى قُبورَ الشُّهداءِ قالَ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدَّارِ)، وَلْيَكُنْ فيما تقولُ عِنْدَ مَسْجِدِ الفَتْحِ: (يا صَريخَ الْمَكْرُوبينَ، وَيا مُجيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرّينَ، اكْشِفْ غَمّي وَهَمّي وَكَرْبي كَما كَشَفْتَ عَنْ نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ هَمَّهُ وَكَرْبَهُ وَكَفَيْتَهُ هَوْلَ عَدُوِّهِ في هَذا المَكانِ)».
وسأله عليه السلام عقبةُ بن خالد، إنّا نأتي المساجد التي حول المدينة فبأيّها أبدأ؟
فقال: ابْدَأْ بِقُبا فَصَلِّ فيهِ وأَكْثِرْ، فَإنَّهُ أَوَّلُ مَسْجِدٍ صلَّى فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ في هَذِهِ العَرْصَةِ، ثُمَّ ائْتِ مَشْرَبَةَ أُمِّ إِبْراهيمَ فَصَلِّ فِيها؛ فَإنَّهُا مَسْكَنُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ ومُصَلّاهُ، ثُمَّ تَأْتي مَسْجِدَ الفَضيخِ فَتُصَلّي فيه، فَقَدْ صَلَّى فيهِ نَبِيُّكَ.
فَإِذا قَضَيْتَ هذا الجانِبَ أَتَيْتَ جانِبَ أُحُدٍ، فَبَدَأْتَ بِالمَسْجِدِ الّذي دونَ الحَرَّةِ فَصَلَّيْتَ فيهِ، ثُمَّ مَرَرْتَ بِقَبْرِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَسَلَّمْتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرَرْتَ بِقُبورِ الشُّهَداءِ فَقُمْتَ عِنْدَهُمْ فَقُلْتَ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الدِّيارِ، أَنْتُمْ لَنا فَرَطٌ وَإنّا بِكُمْ لاحِقونَ).
ثُمَّ تَأْتي المَسْجِدَ الّذي (كانَ) في المَكانِ الواسِعِ إِلى جَنْبِ الجَبَلِ عَنْ يَمينِكَ حَتَّى تَأْتِيَ أُحُداً فَتُصَلِّيَ فيهِ، فَعِنْدَهُ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ إلى أُحُدٍ حينَ لَقِيَ المُشْرِكينَ فَلَمْ يَبْرَحوا حَتَّى حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَصَلّى فيهِ، ثُمَّ مُرَّ أَيْضاً حَتَّى تَرْجِعَ فَتُصَلِّيَ عِنْدَ قُبورَ الشُّهداءِ ما كَتَبَ اللهُ لكَ، ثُمَّ امْضِ عَلى وَجْهِكَ حَتَّى تَأْتِيَ مَسْجِدَ الأَحْزابِ فَتُصَلّيَ فيهِ وَتَدْعُوَ اللهَ فيهِ، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ دَعا فيهِ يَوْمَ الأَحْزابِ وَقالَ: (يا صَريخَ الْمَكْرُوبينَ، وَيا مُجيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرّينَ، وَيا مُغيثَ الْمَهْمُومينَ، اكْشِفْ هَمّي وَكَرْبي وَغَمّي، فَقَدْ تَرى حالي وَحالَ أَصْحابي)».
وقال عليه السلام في خبر الفضيل بن يسار: «زيارةُ قبرِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ، وزيارةُ قبورِ الشُّهداءِ، وزيارةُ قبرِ الحُسَينِ عَلَيْهِ السَّلامُ تَعدِلُ حِجّةً مبرورةً مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ».
وفي صحيح هشام بن سالم: «عَاشَتْ فَاطِمَةُ عَلَيهَا السّلامُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمَاً، لَمْ تُرَ كَاشِرَةً وَلَا ضَاحِكَةً، تَأْتِي قُبُورَ الشُّهداءِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ؛ الاثنينَ والخَميسَ».
الحَجُّ عَرَفَة
ختامُ البداية الرَّجَبيّة
____ الشيخ حسين كوراني* ____
.. من معاني الوسام النبويّ «الحجُّ عَرَفَة»، أنّ مخزن الأسرار عَرَفة، وأنّ سائرَ المناسك تطهيرٌ وإعداد، ورعايةٌ وتظهير.
وليست أسرار عرَفة للعقول، بمعزلٍ عن القلوب، ولا العكس، فالفصل البارد بين العقل والقلب فِصامُ الجاهلين، ومكمَن لَوثة الشياطين.
عرَفةُ اعترافٌ، وهي معرفة، وهما جوهرٌ واحد، لا يعرف الوجهَين ولا اللّسانَين، مهما تعدّدت الوجوه، وتباينت رطانة اللسان.
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ يونس:32.
ولا يحجب الحقَّ حجابٌ، بل يحجبنا نحن عن الحقّ كلّ حجابٍ بقرارٍ لا يُمكن أن يشترك في اتّخاذه العقل أو القلب، فضلاً عن أن يتفرّد به أحدهما.
العقل قانون، والقلب فطرة، يمكن للهوى إلغاؤهما، ولا يمكنه الفصل بينهما. ".."
تجتاح الجيوشُ مواطنَ الأحرار، وتعيثُ في الأرض فساداً، ولكنّها لا يمكن أن تلوي فيهم الإرادة، أو تلغي الإصرار.
ويجتاح الشرُّ بِخَيْله ورَجِله، بقوّاته المؤلّلة والمشاة، كلَّ معاقل العقل والقلب، وينفثُ على اللسان، ويغدو هو كالمحتلّ السلطان، إلّا أنّ جوهرَ الإنسانية يعصى على اللَّيِّ أو الإلغاء.
وكما تهتزّ الأرض تحت أقدام المحتلّين، وتنقضُّ فوق الرؤوس الصواعق، وينجلي النقع عن فجر الاستقلال، بعد أن زاعت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنّوا بالله الظنونا.
كذلك هي التوبة، بل الثورة في عالم الذات الإنسانية الرحب، الذي ننسى أنّ هذه المجرّات «مُسَخَّرات» لخدمته.
وكما هي كلّ ثورة رهن الظروف المؤاتية، كذلك هي الثورة الأعظم، توبةُ مَن يحسب أنّه جرمٌ صغير، وفيه انطوى العالمُ الأكبر.
ومن معاني الوسام النبويّ لعرَفة: «الحَجُّ عَرَفَة» أنّ الظروف المؤاتية فيها لهذا التحوّل النوعي، تفوق كلّ بيان.
وهل تحقّق ذلك بحضور الحجيج، ولولاهم لما كانت عرفة إلّا صحراء؟ أم أنّ في هذه الصحراء سرّاً يصوغ العقول والقلوب؟ وهل تقوى الزينة والبهارج، على ما تعجز عنه الحقيقة؟!
تلمّس أيّها العزيزُ القلبَ، واعرضه على عين العقل، تجد الفرق كبيراً، والبَون شاسعاً، وأنت تودّع صحراء عرفة.
لم يتحقّق ذلك بِحَولٍ مادي، وقوّةٍ بشرية، إنّها يد الغيب تُبَلْسِمُ الجراح، وتُنقذ الغرقى في بحار الأهواء والغرائز والشهوات.
إنّه ملهم العقل والقلب والمشاعر، لتتحقّق المعرفة، كانت لديه، وما تزال، خير مستقرٍّ لحمل الأمانة، وفي عرَفة يُعيد صيانتها والصياغة، وهو أهون عليه من بَعْثها يوم النشور.
وما هذا الحفل البهيج - في بيت الأُسرة الواحدة وعلى أطرافه، ومنه وإليه - إلّا تجلّي الفرحة بعودة الضالّة، وصحوة ضمير العاقّ، والحنين إلى أصله والمنبت.
ولا يتّخذ الحديث في الحفل البهيج وعنه غير العفويّة سبيلاً، ويعني ذلك بالتأكيد إحكام الأُسس، وروعة الوصول من المقدّمات إلى النتائج.
يبدأ الحفل بالكفّ عن الشهوات، وتبلغ البداية الرجبيّة النهاية التي كانت ليلة القدر ميدانها، وعيد الفطر العنوان.
يُسمَّى الصوم هنا الإحرام، وهو الصوم المتقدّم، الذي يكشف أنّ ولوج أعتاب المعرفة رهن الموضوعية والعقلانية، وأنّ الغرائزية والأهواء والشهوات شيطانه الرجيم.
ولا تكتمل العقلانية مع الإقامة على الظلم؛ فالظلم دليلُ استلابِ العقل والقلب والمشاعر العاقلة.
وللعودة الغالية للعقل والقلب إلى أصلهما وسالف العهد، علامةٌ، هي سلامة المشاعر.
هل ذلك هو السرّ في البدء بعَرَفة اعترافاً بكلّ شوائب الظلم يتوقّف عليه الفوز بالمعرفة؟ ثمّ الإفاضة كما يُفيض الكريم سَيْبَه، والأستاذ في البيان، والتلميذ مستظهراً.
الإفاضة الواعية: وجناحا وَعْيها الذّكر بما هو الدليل على الفكر، والحنان في معاملة الآخر بما هو مظهر كرامة الإنسان.
ويبلغ الحفلُ المشعرَ الحرام.
ليس الاسم غريباً وإن كنّا عنه غرباء، كم تنكّرنا لكلّ نبضةِ شعورٍ صادقة، ولكنّها لم تتنكّر لنا طرفةَ عين.
وهل العاقّ إلّا من يركب رأسه، ويفكّر بما يمشي عليه؟
الغريب عن مشاعره، رغم كلّ إلحاحها عليه وقوّة الحضور، وبالغ الحدب والمواكبة.
وهل العاقل إلّا من يفقه المشاعرَ المعافاة ثمرةَ عقلٍ وقلب، فلا يفصلُ بين الثمرة والشجرة فإذا هو ﴿أَحْسَن تَقْوِيمٍ﴾، كما لم يفصل بين شجرة العقل والقلب الواحدة أبداً، وإن راق الجهلَ شطرُهما والمسخُ النكد.
وهل القلب للمشاعر إلّا المصنع؟ وهل العقل إلّا المصفاة والحَكَم؟
شديدٌ، إذاً، هو الربط بين المشاعر والمعرفة، يسافر القلب بالمشاعر ومنها إلى العقل، ثم يفيض منه إليها وبها، محمّلاً بما صفا وطاب.
لهذه النتيجة الحقّ شرطٌ واحدٌ؛ أن يكون سفر القلب من الميقات وبثوبَي الإحرام، وِفق الأسس التي تحدّدها ثقافة القانون، وقانون الثقافة، ليَصدُقَ القصد، أو فقل: يتحقّق الحجّ.
وهل من ربط بين هذين الانتقالَيْن والسفرَين، بين بلوغ عرَفة من منى عبر المشعر، والعودة منها إلى منى عبره؟
لا تهدف هذه المقاربة من بدايتها للمختتم، إلى أكثر من التساؤل.
وكما هي المشاعر الخلاصة والثمرة والنتيجة والقرار، فهذا هو المشعر الحرام متعدّدة منه الأسماء: المشعر. جَمْع. مَزدلِفة.
والكلّ واحد؛ فالمشاعر باب البعد – إن اتّبعَتِ السُّبُل- كما هي باب القرب - إن اهتدتِ الصراطَ المستقيم - وسلامتُها علامةُ جمع الخير كلّه.
إنّها علامة المعرفة السويّة، والبناء العقليّ القلبيّ السّويّ. وهي بعدُ علامة حمل الرسالة، والوفاء بالعهد، لتبدأ الرحلةُ في سُوح الجهاد ضدّ الظالمين.
ألم تكن بداية المعرفة بالتمايز عنهم؟
بعد المشعر الحرام، وادي محسِّر ليس من اجتيازه بدّ، ولكنّ الهرولة أو الإسراع، الأمثل.
ماذا هناك؟!!
وادي محسِّر، تذكيرُ الحاجّ في بدء دورته التدريبية العملية بعد المعرفة وصياغة المشاعر، بكلّ فرعون، بالفرعون (الأميركيّ)، والفرعون الأصغر (الإسرائيليّ)، وكلّ دمى الفراعنة.
وادي محسِّر هي ساحة الطير الأبابيل تنقضُّ على أبرهة وجيشه المؤلَّل بأضخم الفيلة، بحجارةٍ من سجّيل.
ههنا كانت واقعة أصحاب الفيل. ههنا صاروا كعصفٍ - منكَّرٍ- مأكول.
كلّ قاذفاتهم التي تذكِّر بها ذات الأطنان السبعة، دمّرتها هذه الطيور الصغيرة بحجارةٍ أصغر.
ليس المحوَر في القوّة الشكل، ولا المقياس في الغلبة الكَثرة. المحوَر والمقياس سلامة العقل والقلب، والثمرةِ المشاعر.
هل هذا هو الدرس الذي تتولّى ساحة الوقعة بيانه؟
وهل الإسراع أو الهرولة إشارة إلى استحضار الماضي، دون الغرَق. أم أنّ الهرولة والإسراع إشارة إلى أنّ الحاضر والآتي أولى. أم أنّهما الإشارة إلى ما ينتظر بدء الدورة، من مراحل الثورة التي لا تبدأ إلّا باكتمال البراءة من الطواغيت، والهرولة الجادّة في البُعد عن خطواتهم.
وهل رجم الجمرات إلّا تعبيرٌ عن المحتوى العقليّ والقلبيّ وسالم المشاعر، في مواجهة الطاغوت؟
لا تُجدي الثورة نفعاً ولو انطوت عليها أضالعُ الدهور.
بدء الثورة ترجمة الوعي إلى عمل. لا بدّ من تحريك الأيدي وتهيئة القبضات. تكتمل بالعمل دورةُ تعزيز النظرية، وإلّا استُلبت.
لا يُفتح سجلّ الثوار، المجاهدين، الأحرار إلّا بالدخول من باب العمل. شرط أن يكون في الساحة والميدان.
سيقولون في الرجم الكثير، ولكنّهم لا يقولون في طوابير الإزعاج في الدورات حتّى اليسير. ﴿..قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ..﴾ الأنعام:91.
سيقولون في الحَلق الكثير، ولكنّهم المعجبون بقوانين الجيش الصارمة، ومنها الحلق بالذات.
ولم يطلب من المنخرطين في دورة الحجّ ما يطلب شربه أو أكله في ما يسمّيه الجهل «جيوش الدول المتحضّرة».
لا تأبه، فليس المجاهد الثائر، إلّا المنصرف إلى خدمة الناس وإنْ رجموه.
إن بلغتَ ذلك فقد بلغتَ مشارف الاستعداد لذبح النفس بين يدَي الحقيقة، بل بلغتَ مشارف ذبح الابن الأغلى من النفس. بلغت مشارف الاستعداد للإبراهيمية، وصولاً إلى المحمّدية البيضاء.
وكلّ عامٍ وأنت بخير، فليس بعد هذا العيد عيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الفصل الأخير من كتاب (أيّام معلومات – العشر الأوائل من ذي الحجّة)
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.