شيخ الأزهر الشيخ محمود
شلتوت
التّراحُم أساسُ الوحدة الإسلاميّة
____ تنسيق: «شعائر»
____
بمناسبة أسبوع الوحدة الإسلاميّة (12 – 17 ربيع الأوّل) الذي
دعا إليه الإمام الخميني قدّس سرّه، تقدّم مجلة «شعائر» مقتطفات من مقابلتيْن صحفيتيْن
أُجريتا مع شيخ جامع الأزهر، فضيلة العلّامة الراحل الشيخ محمود شلتوت (ت: 1963م)، وهو أحد أبرز العاملين المخلصين في سبيل توحيد كلمة المسلمين والتقريب
بين المدارس الفقهيّة الإسلاميّة، وله فتوى شهيرة بجواز (التعبّد وفق المذهب الشيعيّ،
والذي هو مذهب إسلامي صحيح).
كما عمل الشيخ شلتوت على نشر كتب الشيعة الإماميّة في
مصر، وله مقدّمة على (تفسير مجمع البيان) للشيخ الطبرسيّ، الفضل بن الحسن. وعمد أيضاً
إلى طباعة كتاب (المختصر النافع) للمحقّق الحلّيّ، أبي القاسم جعفر بن الحسن، على
نفقة وزارة الأوقاف المصريّة في أواخر خمسينيات القرن الماضي.
نشير إلى أنّ متن المقابلتيْن ورد في كتاب (مع رجال
الفكر في القاهرة) للسيّد مرتضى الرضويّ، ونُشرت إحداهما في مجلة (اليقظة)/ بغداد،
والثانية في مجلة (رسالة الإسلام)/ القاهرة سنة 1958م.
* ما هي رسالة الأزهر
في عهده الحالي؟
إنّ أهم نقطة في
برنامجي هي محاربة العصبيّة المذهبيّة، ودراسة العلوم الدينيّة، في جوٍّ من الصفاء
والأخوّة والبحث عن الحقيقة وعمّا ينفع الناس، واتّباع الدليل من أيّ أفقٍ ظهر.
إنّ المسلمين إذا
وصلوا إلى تحقيق ذلك، أصبحوا قوّةً متماسكة متفرِّغة لِما يرفع شأنها، مُخفَّفة من
أثقال الماضي التي حمّلتهم إياها العصبيّة، وجعلتهم يبدون أمام العالم كأنّهم
أتباع أديانٍ مختلفة، بينما هم أتباع دينٍ واحد، يؤمنون بإلهٍ واحد، ورسولٍ واحد،
وكتابٍ واحد.
* إنّ الدراسة عادةً
تجرّ إلى الاختلاف الفكريّ، فكيف يمكن أن يجتمع المسلمون على مذهب واحد، أو فكرة
واحدة؟
إنّ الخلاف في الرأي
ضرورة اجتماعيّة، وشأن طبيعيّ لا يمكن دفعه، ولكنّ هناك فرقاً بين الاختلاف الذي تُمليه
العصبيّة المذهبيّة، والجمود على فكرة معيّنة، ولو ظهر أنّها على خلاف الدليل
والمنطق، هناك فرق بين هذا، وبين الاختلاف الذي تمليه الحجّة والبرهان، فالأوّل
خلاف مذموم ومن مساوِئه أنّه يقطع بين المسلمين، ويغرس العداوة والبغضاء في قلوبهم.
أمّا الخلاف الثاني،
فهو خلاف الإنصاف والبحث وراء الحقيقة، مع احترام كلّ فريق لرأي مخالفيه، ما داموا
جميعاً محترمين للأصل الجامع بينهم وهو مصادر الإسلام الأولى، وقواعده الأصليّة.
وقد كان الأئمّة الأوّلون
يختلفون علميّاً، ومع ذلك يحترم بعضهم بعضاً، ويعذر بعضهم بعضاً، ويتشاورون،
ويتبادلون الآراء، ويرحل بعضهم إلى بعض، ويأخذ بعضهم من بعض.
إذاً، فنحن لا نريد أن
يندمج مذهب الشيعة في مذهب السّنّة، ولا مذهب السّنّة في مذهب الشيعة، ولكن نريد
أن يصل المسلمون في مختلف طوائفهم إلى لونٍ واضحٍ من ألوان التعاون القائم على المحبّة،
وعلى ترك العصبيّة، والترفّع عن التنابز بالألقاب، والبُعد عن سوء الظنّ؛ فإنّ هذا
من شأنه أن يطلق العنان للتفكير في حريّة وهدوء والتماس للحقيقة، دون خوفٍ أو
اضطرابٍ أو بلبلةٍ، وألّا يحُول بين السنّي وانتفاعه برأي أخيه الشيعيّ، ما دام
الجميع يصدرون عن أصلٍ واحد.
إنّ المسلمين أمّة
واحدة لهم أصول تجمعهم، ومبادئ قد اتفقوا عليها منذ أوّل يوم في تاريخ الإسلام،
ولهم أهداف مشتركة في العالم، تدور حول الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، أي حول اصطلاح العقيدة، والسلوك العملي للناس أفراداً كانوا أو شعوباً أو
أمماً، فعليهم أن لا ينسوا ذلك، وألّا يسمحوا لصغائر المسائل، والخلافات الفرعيّة
بأن تفرّقهم عنه، وتمزّق شملهم دونه.
* حقاً إنّ المسلمين أمّة
واحدة، ولكن ما هي العوامل التي تحفظ لهم هذه الوحدة؟
إنّ أوّل هذه العوامل
هو ما ذكرت لك، من ترك العصبيّة والتماس الحقّ في تعاونٍ وإنصاف. فهذا شرط أوّل،
وسيجرّ تحقيقه إلى تحقيق الشروط الأخرى، مثل استقبال الثقافة الإسلاميّة على أساس
ثقافة واحدة، والانتفاع بما هنا وهناك دون نظر إلى كونه في هنا أو في هناك؛ فالكتب
تُنشر، والرسائل تُتبادل، والجامعات تتعارف، وتتبادل الطلاب والأساتذة... وهكذا.
ومثل العمل على
التشاور والتزاور ودراسة المشكلات في جوٍّ أخويّ، ومثل العمل على تقويّة الارتباط
العاطفي بين المسلمين في مختلف الشعوب تحقيقاً لما مثَّل به رسول الله صلّى الله
عليه [وآله] وسلّم، من أنّ المؤمنين «في تَوادّهم وتَراحُمِهِمْ كَالجَسَدِ
الواحِدِ، إِذا اشْتَكى عُضْوٌ مِنْهُ تَداعى لَهُ سائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمّى».
إنّ هذه العاطفة هي
أهمّ الوشائج والروابط في بناء صرح الوحدة الإسلاميّة.
* يعرف المسلمون أنّكم
من أقطاب جماعة التقريب، فما الذي قمتم به نحو فكرتها؟
لقد استطعت أنا وكثير
من إخواني في التقريب، وفي الأزهر، وفي الفتوى، وفي لجان الأحوال الشخصيّة، وغير
ذلك، أن نرجّح أقوالاً وآراء من غير مذهب السنّة، مع أنّنا سنّيون. وفي ذلك ما أخذ
به قانون الأحوال الشخصيّة المصريّ في شؤون الطلاق الثلاث، والطلاق المعلّق، وغير
ذلك، فإنّ هذا مستمدٌّ من مذهب الشيعة الإماميّة، والعمل الآن قائم عليه دون سواه.
والآن أجد من واجبي أن
أُدخل في كليّة الشريعة من كليات الجامع الأزهر، ما كنت أتوق إليه طول حياتي من
دراسة الفقه على نحوٍ خالصٍ من العصبيّة المذهبيّة، وما أهدف إليه هو الوصول إلى
الحكم السليم في كلّ شأن من شؤون المسلمين، ولا سيّما العمليّة منها، فقد آن لهذا
الفقه الأكبر الدقيق العميق أن يلبس ثوبه الملائم له، وأن يُعرض على الناس عرضاً
مناسباً للعصر، وأن يشعر كل مسلم بأنّه حقاً فقه الحياة، وقوام المسلمين. وأن يتقلّب
في مجال نظامه وتنسيقه وترتيبه مستمدّاً من ذلك الفقه القويّ.
* هل وجدتم في مذهب الشيعة
من الآراء ما أفتيتم بها لرجاحتها، دون الأخذ بآراء أخرى في نفس الواقعة؟
لا أنسى أنّي درّست المقارنة
بين المذاهب بكليّة الشريعة بالأزهر؛ فكنت أعرض آراء المذاهب في المسألة الواحدة -
وأُبرز من بينها مذهب الشيعة - وكثيراً ما كنت أرجّح مذهبهم خضوعاً لقوّة الدليل.
ولا أنسى أيضاً أنّي كنت
أُفتي في كثير من المسائل بمذهب الشيعة، وأخصّ منها بالذكر ما تجد الناس في حاجة ملحّة
إليه. وهو يختصّ بالقدر المحرّم من الرضاع.
كما أخصّ بالذكر ما تضمّنه
«قانون الأحوال الشخصيّة» الأخير. ونذكر على سبيل المثال المسائل الآتيّة:
أوّلاً:
الطلاق الثلاث بلفظٍ واحد؛ فإنّه يقع في أكثر المذهب السنيّة ثلاثةً، ولكنه في مذهب
الشيعة يقع واحدة رجعيّة. وقد رأى القانون العمل به. وأصحبت الفتوى بمذهب أهل السنّة
لا يقام لها وزن في نظر القضاء الشرعيّ السنيّ.
ثانياً:
رأى قانون الأحوال الشخصيّة في تنظيمه الأخير حول الطلاق المعلّق، وقد رجّحت في
هذه المسألة رأي الشيعة الإمامية، وكثيراً ما أفتيت به، وكثيراً ما أذعته وكتبته في
أحاديثي المتعلّقة بالطلاق وأجوبة السائلين عن إيقاع الطلاق. وكم.. وكم إلخ.
والباحث المستوعب المنصف
سيجد كثيراً في مذهب الشيعة ما يقوّي دليله ويلتئم مع أهداف الشريعة، من صلاح الأسرة
والمجتمع، ويدفعه إلى الأخذ به والإرشاد إليه.
* هل ترون أنّ شقّة الخلاف
بدأت تضيق بين السنّة والشيعة؟ وما مظاهر ذلك؟
لقد مضى زمن تلك العصبيّة
الجاهليّة، وانطوت صفحتها المظلمة، وعرف المسلمون أنّ اختلاف الأشقّاء لا يمكن أن يدوم
ولا أن يطّرد، فلا بدّ أن يأتي عليهم يوم يحقّقون فيه نَسَبهم إلى أبيهم، وينتمون فيه
إلى أصلهم الذي انبثقوا منه وتفرّعوا عنه، وأخذت هذه الروح تنمو وتضيق بها شقّة الخلاف
بين أهل المذاهب حتى اقتدى الحنفيّ بالشافعيّ، والسنّيّ بالشيعيّ، وتبادلت المنافع
بينهم، واتّصلت الآراء، وأخذ كلٌّ ينتفع بما في مذهب الآخر حتّى وصلنا إلى وقتنا هذا،
وقد رأينا كُتبنا - وخاصّة كتب الحديث المعتبرة - تعرض مذاهبَ أهل السّنّة والشيعة
من إماميّة، وزيديّة وقد ترجّح غير مذهب أهل السّنّة.
* هل هناك خطوات اتُّخذت
أو تُتّخذ للقضاء على العصبيّة بين السّنّة والشيعة، وما هو برنامجكم في هذا المجال؟
لقد قرّ رأيي - إن شاء
الله - على أن أعمل على دراسة الفقه الإسلاميّ في كليّة الشريعة بجميع المذاهب الفقهيّة
المعروفة الأصول، البيّنة المعالم، والتي من بينها - دون شكّ - مذهب الشيعة إماميّة،
وزيديّة.
وقد تحدّثت مع السيّد وزير
الأوقاف المركزيّ الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري، الأزهري السنّيّ، في موضوع العصبيّة
بين أهل السّنّة والشيعة، وواجبنا نحوها من القضاء عليها والرجوع بأهل المذهبَين إلى
الاعتصام بحبل الله، والالتفاف حول المحور المقدّس في رسالة محمّد صلّى الله عليه [وآله]
وسلّم، وقد كان من السيّد الوزير أن استجاب للدعوة استجابة فعليّة فطبع كتاب: (المختصر
النافع) في فقه الإماميّة، ووزّعه بالمجّان على المسلمين، وكان من أثر ذلك أيضاً أن
استجابت جماعة التقريب - في مصر منذ سنين، والتي شاركتُ في تأسيسها من أوّل نشأتها،
وشاركت في رسالتها ودعوتُ إليها - فطبعتْ كتاب (مجمع البيان) وقد دعا إلى طبعه - من
قبل - أستاذنا المغفور له الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الجامع الأزهر الأسبق، وقد كتبتُ
مقدّمة الكتاب لإمام من أئمّة الشيعة، هو الإمام السيّد أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسيّ،
من كبار علماء الإماميّة.
* هل هناك اتصال الآن بين
فضيلتكم وبين أحد من علماء الشيعة الإماميّة؟
إنّ بيني وبين كثير من
أئمّة الشيعة الإماميّة رسائل تلاقت عند حدّ وجوب التقريب، ونزع ما بين الطرفين من
عصبيّة انتهزها الأعداء المستعمرون، للتفريق بين الشعوب الإسلاميّة في مصر وإيران والعراق.
شرعُ الله تعالى ليس مذهباً من المذاهب
أعلن فضيلة الأستاذ الأكبر، الشيخ
محمود شلتوت، فتوى في جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة، وكانت مجلة «رسالة
الإسلام»، التي تصدر عن «دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» بالقاهرة، قد نشرت
الفتوى التاريخيّة في العدد الثالث من السنة الحاديّة عشر ص 227 عام 1379 للهجرة/ 1959م.
قال فضيلة الأستاذ الأكبر:
«من بين ما تُعنى به كليّة الشريعة
في منهجها الجديد: دراسة الفقه المقارن بين المذاهب الإسلاميّة على الأسس التالية:
أوّلاً:
تكون الدراسة على مختلف المذاهب، لا فرق بين سنّة وشيعة. ويُعنى بوجه خاص ببيان وجهة
النظر الفقهيّ حكماً ودليلاً لكلٍّ من مذاهب السّنّة، وهي الأربعة المعروفة،
والإماميّة الاثنا عشريّة، والزيديّة.
ثانياً:
يُستخلص الحكم الذي يرشد إليه الدليل دون التفات إلى كونه موافقاً أو مخالفاً
لمذهب الأستاذ أو الطالب، حتى تتحقّق الفائدة من المقارنة، وهي وضوح الرأي الراجح
من بين الآراء المتعدّدة، وتبطل العصبيّات المذمومة.
وفي أصول الفقه، يُعنى بوجهٍ خاص
ببيان المواضع الأصوليّة التي وقع الاختلاف فيها بين مذاهب السّنّة السابقة الذكر،
مع بيان أسباب الخلاف.
وفي علم مصطلح الحديث ورجاله، تشمل
الدراسة ما اصطلح عليه السّنّة، وما اصطلح عليه الإماميّة، والزيديّة. كما تشمل
دراسة الرجال المشهورين وأصحاب المسانيد ومسانيدهم في كلٍّ من الفريقين. هذا
بالإضافة إلى التوسّع في هذه الدراسة تفصيلاً في الدراسات العليا بكليّة الشريعة.
[وسُئل فضيلته]: إنّ
بعض الناس يرى أنّه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجهٍ صحيح، أن
يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإماميّة ولا
الشيعة الزيديّة، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه، فتمنعون تقليد
مذهب الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة مثلاً؟
فأجاب فضيلته:
1) إنّ الإسلام لا يُوجب على أحد
من أتباعه اتّباع مذهب معيّن، بل نقول: إنّ لكلّ مسلمٍ الحقّ في أن يقلّد بادئ ذي
بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدوَّنة أحكامها في كتبها
الخاصة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أيّ مذهب كان - ولا
حرج عليه في شيءٍ من ذلك.
2) إنّ مذهب الجعفريّة، المعروف
بمذهب الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة، مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب
أهل السّنّة. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلّصوا من العصبيّة بغير الحقّ
لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على
مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمَن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد
تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.