علامة أخلاقيّة فارقة في زمن الانهيارات الكبرى
(الرسالة السعديّة) للعلّامة الحلّيّ
____ قراءة: محمود إبراهيم ____
الكتاب: (الرسالة السعديّة)
المؤلف: العلامة الحلّي، أبو منصور الحسن بن يوسف بن
المطهّر الأسدي (648- 726)
الناشر: «مكتبة آية
الله المرعشي النجفي»، قمّ المقدّسة 1410 للهجرة
ينظر المحقّقون إلى أعمال الفقيه أبي منصور، جمال الدين، الحسن بن يوسف
المعروف بـ «العلّامة الحلّيّ»، باعتبارها واحدة من أهمّ المعارف التي شهدها الفكر
الدينيّ الإسلاميّ بين القرنين السابع والثامن الهجريين.
ولعلّ الأهميّة الاستثنائيّة التي اكتسبتها مؤلّفاته في مجال الفقه،
والكلام، وعلم أصول الدين، فضلاً عن الأخلاق والعرفان، أنّها جاءت في زمن تعرّضت
فيه البلاد والمجتمعات الإسلاميّة إلى غزوات رهيبة كان من أخطرها النتائج التي ترتّبت
على الغزو المغوليّ، وما لحق بالأمّة من انهيارات كبرى في نظام القِيم، واستشراء
الفتن والحروب الأهليّة؛ على أنّ الدور المعرفيّ الذي تولّته أسرته من قبله وأكمله
العلّامة الحلِّي فيما بعد، سيؤدّي إلى خفض نسبة الارتدادات الخطيرة للغزوات
والفتن، ويفتح الأفق أمام يقظة جديدة للأمّة.
ولئن كانت مؤلّفاته قد أدّت دورها المهمّ في الإحياء الثقافيّ والدينيّ،
فقد كان لكتابه المعروف بـ (الرسالة السعديّة)
منزلة خاصة في العمليّة الإحيائيّة، سواء على مستوى النخب الحاكمة في ذلك
الوقت، أو على المستوى الاجتماعيّ.
حكاية (الرسالة السعديّة)
التوصيف الإجماليّ لهذه الرسالة أنّها كتاب مختصر «في أصول الدين وفروعه،
كتبها لسعد الدين محمّد الساوجي، الشهيد عام 711 للهجرة، وزير خدابنده»؛ وعلى هذا،
فالكتاب لا يعدو كونه رسالة، تتّصف بما تلتزم به الرسائل من اختصار في المواضيع
المبحوثة، وتساهل في ذكر المصادر، وحذف الأسانيد.
بيد أنّها – وذلك واقع لا شكّ فيه - كونها جميعها ذات مرجع – إن لم تكن
مراجع – أخذت منه؛ وهذا ما يمكن التأكّد منه، من خلال مدارك التعاليق التي ذُيّل
بها الكتاب.
ما يجدر ذكره أنّ للعلّامة الحلِّي مصنّفاتٍ وكتباً مفصّلة وعميقة، في غالبيّة
ميادين المعرفة الإسلاميّة، وخصوصاً في علم الكلام، والأصول والأخلاق، فضلاً عن
نتاجاته الفقهيّة الكثيرة.
ولعلّ لكتابه (نهج الحقّ)، المنزلة الرفيعة في ميدان المُحاجَّة والسجال،
فهذا الكتاب هو الذي ردّ عليه الشيخ الأشعريّ، الفضل بن روزبهان، بكتابٍ عنوانه: (إبطال
الباطل)؛ ثمّ تلاه ردّ من العلّامة محمّد حسن المظفّر بكتابه المعنون بـ (دلائل
الصدق).
وهذا الكتاب، كما يذكر أهل التحقيق، ينطوي على خاصِّيّة فريدة في أعمال
العلّامة الحلِّيّ سواء في الميادين الكلاميّة أم الفلسفيّة. على أنّ المهمّ ذكره
هنا، هو أنّ هذه الرسالة تمتاز، من بين أمور كثيرة، وبصورة مجملة بمجموعة من
المزايا أهمّها:
أولاً: الاستدلال المنطقيّ المبسّط.
ثانياً: الالتزام بعنصر المقارنة، وتلك خاصّيّة بين مختلف المدارس في جميع بحوثها؛
كلاميّة كانت أو فقهيّة.
ثالثاً: الالتزام
بالمنهج وترتيب قواعد البحث العلميّ، ناهيك عن الرشاقة الأسلوبيّة في تأديّة النص.
وأسلوب مشرق مبين في عروضه، من جهة ثالثة.
أمّا بالنسبة إلى الفهرسة التي اعتُمدت في الرسالة، فقد جاءت على الوجه
التالي:
أ) تمهيد؛ يضمّ مجموعة المقدّمات، التي هي في معظم ما جاء فيها، من المسائل
الأصوليّة؛ والتي يُصار إليها عند الاستدلال الفقهيّ.
ب) فصل في العقائد، وهو مركز الثقل فيها؛ حيث: يبدأ بالمسألة الاولى،
وينتهي بانتهاء التاسعة.
ج) فصل في العبادات؛ يبدأ بالعاشرة، وينتهي بانتهاء الثانية عشرة.
د) فصل في الأخلاقيّات؛ يبدأ بذكر أفعالٍ حميدة، وينتهي بانتهاء اصطناع
المعروف.
في المساجلات حول الرسالة
لقد أخذت الرسالة، وقت صدورها، جدلاً واسعاً بين العلماء والفقهاء المسلمين؛
فالحلّي العلّامة، ككلّ العلماء الكبار، له أسلوب في الكتابة والتحقيق قد يختلف عن
أساليب الآخرين الذين قد يرون في منهجه خروجاً عن المألوف. وهذا أمرٌ طبيعي بالنسبة
إلى عالمٍ كبير كالعلّامة الحلِّي، فقد كان متعدّد الرؤى، ومن كبار المجتهدين في
المجالات الأساسيّة لعلوم الدين.
وعطفاً على ما سبق، من تمتّعه بجملة إمكانات - نادراً ما تتوفّر لغيره - فإنّه
في غالبيّة كتاباته، ومنها (الرسالة السعديّة)، كان يعتقد في ذهنه قاعدة – وربما
قواعد – عقليّة أو نقليّة؛ ليقيم كيان ذلك المكتوب على ركيزتها.
ومن الظواهر اللافتة للنظر؛ أنّ العلّامة رحمه الله، كثيراً ما كان يستخدم
عبارة «اختلف المسلمون» في كتابه هذا، اعتباراً من بداية الفصل الأوّل فيه. وهذا
ما يمكّن من تفسير مصطلح «الاختلاف»، الذي جاء على لسان العلّامة، هناك وما بعده؛
بأنّه من نوع الاختلاف الإيجابي لا السلبيّ.
كما كان المؤلّف العلّامة يرى أنّ تعدّد المذاهب يصبح نقمة حين يصرّ كلّ
فريق على التعصّب لمذهبه. ذلك لأنّ التعصّب باعثٌ للأضغان والأحقاد، وعاملٌ من
عوامل التفرقة، والتفرقة تعطي أعداء الإسلام قوّةً إلى قوّتهم، وتساعدهم على
ابتزاز منابع الحياة عند المسلمين، وسجنهم في مناطق نفوذهم، ويؤكّد في الوقت عينه،
أنّهم بعيدون عن نهج الإسلام، الذي قام على أساس قوله سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..﴾ آل عمران:103، وقوله
تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ..﴾ الحجرات:10. ولذا
سنرى أنّ من ملفتات النظر في هذه الرسالة، أنّ صاحبها كثيراً ما يستخدم لفظ «الإجماع»
في إقامة براهينه، واستدلالاته على صحّة ما يريد أن يقوله ويذهب إليه.
تاريخيّة الرسالة وتعدّد طبعاتها
أ) صدرت للرسالة طبعة حجريّة واحدة،
في طهران، عام 1895م.
ب) طبعة حروفيّة، من مطبعة «الغَريّ
الحديثة»، في النجف الأشرف عام 1975م.
كما توجد لهذا الكتاب نسخ خطيّة
عديدة، لعلّ أقدمها وأكثرها أهمّيّة، ما يلي :
- نسخة ضمن مجموعة في «مكتبة مجلس الشورى
الإيرانيّ»، وهي مقروءة على فخر المحقّقين الحلّيّ، ابن العلّامة المؤلّف.
- أربع نسخ مذكورة في فهارس «مكتبة
العتبة الرضويّة المقدّسة».
- نسخة ضمن مجموعة «مكتبة جامعة طهران».
- نسخة في «مكتبة الإمام
الحكيم العامّة» في النجف
الأشرف، ضمن المجموعة المهداة من قبل المرحوم الشيخ محمّد الرشتي.
- مجموعة
نسخ، في «مكتبة آية
الله المرعشيّ العامّة»، في قمّ المقدّسة.
يبقى القول، إنّ لتظهير هذا المنجز
العلميّ اليوم للعلّامة الحليّ أهميّة معرفيّة راهنة، سواء في الحوزات الدينيّة أو
في الجامعات المدنيّة، ولا سيّما لجهة المنهج الذي اعتمده العلّامة في كتابتها، أو
لجهة الموضوعات الأخلاقيّة والأصوليّة والفلسفيّة التي عالجها.