مراسلات
البِشري وشرف الدين
أدب الحوار في التقليد الإسلامي
ــــــــــــــــ د. صادق
جواد سليمان* ــــــــــــــــ
سنة
1909 ميلادية، وصل إلى القاهرة - في زيارة لشيخ الجامع الأزهر، سليم البِشري - عالم
شيعي بارز، يُدعى السيّد عبد الحسين شرف الدين. كان شرف الدين من أصل لبناني، وتحديداً
من جبل عامل، لكن مولده كان في حيّ الكاظمية ببغداد، وتحصيله العلمي في الحوزة
الشيعية بالنجف الأشرف.
كان
الباعث لزيارته شيخَ الأزهر إحساسه بأنّ السنّة والشيعة يتباعدان عن بعضهما، وأنّ
تباعدهما يُضعف الإسلام... لذا وجب على علماء المذهبَين تكثيف الجهود لأجل توطيد
الوحدة الإسلامية الحاضنة للجميع.
في
ذلك الوقت (مطلع القرن العشرين) كانت النخبة الثقافية العربية - الإسلامية قد
أفاقت على حقيقةِ ما سادَ العالم العربي - الإسلامي من تخلّف مريع، إزاء التقدّم
المشهود المنجَز في العالم الغربي، ومن ذلك احتدم بينهم نقاش غزير حول مسبّبات
التخلّف.
في
مقابل الأطروحة العلمانية أنّ الموروث الإسلامي كان سبب التخلّف، ردّ الإسلاميّون:
أنْ على العكس، الابتعاد عن الإسلام كان السبب، وأنّ المطلوب موقف إسلامي موحّد في
وجه التحدّي العلماني القادم من الغرب.
كإسلاميَّيْن راسخَيْن،
اتّفق العالمان، السنّي الأزهري والشيعي النجفي، على أنّ الابتعاد عن الإسلام كان
السبب الأعظم للتخلّف، لذا على المسلمين أن يرتبطوا بشكل أوثق بتعاليم الإسلام. اتّفقا
أيضاً على أن ما يوجَد من اختلافات بين مذهبيهما لا تمسّ أيّ أمر أساسي، وأنّ
المذهبَين متلاحمان وراسخان سوياً في الإسلام.
مع ذلك، حاولا أن يحدّدا
ويتعاملا مع ما يوجَد بين مذهبيهما من اختلاف. وفي معرض ذلك، وجدا أنّ المشترك بين
المذهبين – السنّي والشيعي - أعمّ كثيراً من المختلَف عليه، وأنّه يكاد لا يوجد
أمر خلافي يذكَر بين الجهتين سوى مفهوم «الإمامة».
وإذ أدركا أنّ موضوع
الإمامة وما يتفرّع عنه من تباينات مذهبية أخرى سيستغرق منهما وقتاً طويلاً للبحث،
اتّفقا على أن لا يختزلا البحث، بل أن يتناولاه على سعة، وبمنهجية محكمة عن طريق المراسلات.
ما نتج إثر ذلك، على مدى ستة
شهور، هي 112 رسالة متبادلة بين العالمين الجليلين، وثّقها العالم النجفي في كتاب
سمّاه بـ(المراجعات).
قراءة تلك الرسائل تعطي
المرء ليس فقط فهماً أوضح لنقاط التباين بين المذهبين، بل أيضاً استيعاباً أدقّ
للأرضية الأوسع التي يلتقيان عليها حول الجوهر العقيدي في الإسلام. فوق ذلك، هي
تولّد لدى القارئ إحساساً عميقاً بضوابط الحوار وأدبه في التقليد الإسلامي. هنا
يلاحظ القارئ بإعجاب كم تتّسم لغة الحوار بين العالِمَين بالوقار والإيجاز، وكم يتّسم
نهج الحوار بالتركيز على السمين دون الغثّ. هنا يلاحظ باعتزاز مدى تقدير كلٍّ
منهما لعلميّة الآخر في معطيات دينٍ مُنزَل، هما في الإيمان
بثوابته العقيدية سواء. هنا يلاحظ القارئ أيضاً الرغبة الخالصة لدى المناظرَين في
التوصل إلى فهم موضوعي حقيقي - رغبةً تَسري في ثنايا كلّ عبارة يسطّرها أحدهما في
سياق عرض حجّته، واستظهار حجّة الآخر.
إزاء ذلك، وجب أن ألاحظ،
ببالغ أسىً وأسف، الفارق الفاحش بين سموّ مستوى الحوار بين هذين العالمَين، وهما
من أقطاب هذه الأمّة، ومِن أدرى المسلمين بالإسلام، عمومِه وخصوصه، وبين ما نشهده
من رداءة المبارزات الكلامية عبر بعض الفضائيات العربية المستثيرة، بقصد على ما
يبدو، لاختلافاتٍ لا تقدّم ولا تؤخّر إزاء رسوخ المذهبَين سويّاً في الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مفكّر من سلطنة عمان