كلُّ ما في الكون إلّاكَ حديثٌ مفترى
قصيدة «أثباج الطبيعة» في الردّ على «طلاسم» إيليا أبو ماضي
____ إعداد: «شعائر» ____
قصيدة «فوق أثباج
الطبيعة» لناظمها العلّامة الشيخ عبد الحميد السماوي، جاءت رداً على قصيدة «الطلاسم»
للشاعر الشهير إيليا أبي ماضي، والتي يقول في مطلعها:
جئتُ، لا أعلمُ من أين، ولكنّي
أتيتْ
ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً
فمشيت..
وسأبقى
ماشياً إنْ شئتُ هذا أم أبيتْ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لست أدري!
وتُعدّ قصيدة العلامة
السماوي من الروائع الفلسفية الكبرى، ومن الردود المنطقية الناجعة، وقد اعترف بذلك
الشاعر نفسه (صاحب الطلاسم)، عندما وقف عليها عن طريق الأستاذ الكبير الشاعر محمّد
علي الحوماني صاحب مجلة «العروبة» اللبنانية.
قال الحوماني: «دخلت على
إيليا أبي ماضي في نيويورك، ودار بيننا حديث حتّى رسا على ذكر الشيخ السماوي، فقال
لي: أيّها الأستاذ إنّي لا زلت لك شاكراً على تعريفي بالشيخ السماوي بواسطة مجلتكم
العروبة».
وكان الحوماني قد قصد
الشيخ إلى السماوة وحلّ عنده ضيفاً، ودوّن شيئاً كثيراً من شعره، ولا سيّما
القصيدة التي نحن بصددها، وما زال به حتّى حصل على إذنٍ منه بنشر ما نقله. وراح
ينشر جزءاً من الملحمة في كلّ عددٍ من مجلّته، فيرسل كلّ عددٍ منها إلى أبي ماضي.
ووقف الشاعر أبوماضي على
ما متّع الله تبارك وتعالى به الشيخ السماوي من سموّ الخيال، وخصْب القريحة، وصدق
اللهجة، ودحْض الشبهة بالحجّة، وبراعة التصوير، وفيض العاطفة، ورهافة الحسّ، وقوة
العارضة، وما إلى ذلك من مواهب ومزايا عاليات جعلت الضائقات رحاباً.. وعلى أثر ذلك
تلقّى الشيخ السماوي رسالة قيّمة من أبي ماضي من نيويورك، يذكر فيها إكباره
وتقديره، ويطريه بإطراءٍ منقطع النظير.
وعلى أثر انتشار جزء من
القصيدة المذكورة، تلقّى العلامة السماوي رسالة من العلامة الشيخ محمّد مصطفى
المراغي، شيخ الأزهر آنذاك، تضمّنت الثناء والإعجاب بفضل الشيخ السماوي وبلاغته
وطول باعه في الشعر، وجزالته وعمق أثره في نفوس قارئه، وما تجلّى له في هذه
القصيدة من سحر وجاذبية، وقد عرض عليه كرسيّ تدريس الفلسفة الإسلامية بالأزهر
الشريف.
قال الحوماني: «وبعد أن
سألني أبوماضي عدّة أسئلة تتعلّق بالشيخ، قال: هل درس الأدب الفرنسي؟
فقلت: لا.. والأدب
الفرنسي يعتبرونه أسمى آداب الأمم الحية.
وسأل: هل سافر السماوي
للديار الغربية؟
فقلت: لا.
قال: وهل إنّ داره التي
يُقيم فيها من الدُّور الفخمة محاطة بحديقة غنّاء وأشجار باسقة وأنهار جارية،
وطبيعة بلده ممّا تساعده على الخلق والخصوبة الذهنية؟
قلت لأبي ماضي: دعني يا أستاذ
أُجمل لك القول... إنّ الرجل لم يتخرّج من جامعة غير جامعة النجف الأشرف.
فقال أبوماضي: ما عهِدنا
في النجف جامعة.
فقلت: يكفيك ما وقفتَ
عليه من صياغة هذا الرجل ونسْجه ومدى ما يتمتّع به من سعة الاطلاع.
فعند ذلك وجم أبوماضي
برهة، ثمّ قال: ما هي إلّا مواهب إلهيّة»!
وإليك
بعضاً من مقاطع قصيدة السماوي:
جئتُ لا أعلم إلّا أنني جئتُ
لأعلم
فتخطّيتُ بكَوني ساحةَ الكونِ
المطَلسم
حيث سادَ الصمتُ لولا وحيُ
عجماء لأَعْجَم
حيث لا هامسٌ إلا وهو مثلي...
ليس يدري!
فشعوري بوجودي هو برهانُ الوجود
واضطراري في حياتي شاهدٌ أنّي مَقود
وكما جئتُ ابتداءً سوف أَمضي وأعود
فلماذا وهو ذو عقلٍ وحسٍّ.... ليس يدري!
حسبيَ الكونُ دليلاً كلّما عزّ
الدليل
وتخطّيتُ بإمكاني ضفافَ
المستحيل
إنّ لي ألفَ سبيلٍ في وجودي
وسبيل
قد تغشّيتُ به الكونَ إلى
ما.... ليس يدري!
حسبيَ العلمُ بما لي من وجودٍ وفناء
وبما يغمرُ دربي من ظلامٍ وضياء
مرشداً يقرعُ سمعي بأهازيج القضاء
ودليلاً يترامى بي إلى ما.... ليس يدري!
حسبيَ العجزُ اعترافاً بوجودِ
المقتدِر
ما اندحارُ الجيش إلا رمزُ
جيشٍ منتصِر
وغموضُ السرّ قد يستدرجُ
العقلَ لسرّ
فهو لولا الليل بالشّهب
السواري... ليس يدري!
ما ارتباكي في طريقي؟ كلّ آتٍ فهو آت
إنْ ببَحر النور خضنا أو ببَحر الظلمات
ما ملايينُك يا عالمُ إلا في سبات
ما أهازيجُك إلا ليس يدري... ليس يدري!
أنا لو فكّرتُ فيما دبّ حولي
ودَرَج
وبما يملأُ كوني من ملايين
الحُجج
لتبيّنتُ الشواطي وتعرّفتُ اللُّجَج
وتساميتُ كما شئت إلى ما...
ليس يدري!
إلى أن يقول:
عَظُمَ المنشِئُ حتّى ارتبكتْ فيه الظنون
فتعالى اللهُ ربُّ العرشِ عمّا يصِفون
قابضاً ما كان بالأمس مُفيضاً ما يكون
أترى يُعذَرُ عن إدراكه مَن... ليس يدري!
أيُّ آثارِك تَخفى؟ أيُّ آلائك
تُجحَد
أنت في الكوخ المعفّى أنت في
الصّرحِ الممرَّد
أنتَ انتَ اللهُ بالأمس وأنتَ
اللهُ في الغد
أنت سرُّ السرّ في العالم لكنْ...
ليس يدري!
لم تزلْ خلق حجاب الغَيب سرّاً مضمرا
كلّ ما في الكون إلّاكَ حديثٌ مفترى
أين لا أين وكلُّ الصّيد في جوف الفَرى
أين من بابك يحدونا إلى ما... ليس يدري!
يَتسامى نحوك العقلُ إذا ضلّ
الدليل
فوجودُ الكون لولاك وجودٌ
مستحيل
لهجتْ باسمك آبائي جيلاً بعد
جيل
فحنانيك تفضّلتَ على ما...
ليس يدري!