لِمَن ندعو في ليلة القدر؟
___
الشيخ حسين كوراني* ___
قال السيّد ابن طاوس في
(الإقبال): «ولا يمتنع الإنسان في هذه الليلة من
دعوات بظهر الغيب لأهل الحقّ، وقد قدّمنا في عمل اليوم والليلة فضائل الدعاء
للإخوان».
لا يحسُن إسلام المسلم
ولا يستقيم إيمانه إذا فهم التّدين انغلاقاً على النفس وتقوقعاً في قُمْقُمِ
الذات.
التديّن كالشمس
الساطعة تبدّد الظلمات وتخترق الحجب، وكالهواء الطلق لا يقف في طريقه سدّ، وهو
حركة القلب المنطلقة أبداً في خطّ بيانيّ تصاعدي في التحلّل من قيود الأنا
البغيضة.
لا يعرِف التديّنُ التّعالي،
فطَلَبُ العلوّ من شجرة الانغلاق البغيضة.
لا ينسجم التديّنُ مع
الحسد الشيطانيّ والحقدِ الممعن في الشيطنة.
التديّن فيضُ حبٍّ،
ونبعُ حنان، ومَعينُ إيثار.
وبمقدار الاهتمام
بالآخَر يكون.
ليس مجرّد توصيةٍ
عابرة أن يحمل المؤمن في ليلة القدر همّ غيره، فيدعو للمؤمنين بظهر الغيب.
إنّه مؤشرٌ مِدْماكٌ في الرؤية التوحيديّة، وقاعدةٌ
للفكر الإسلامي، ومنهجٌ في بناء الشخصيّة الإسلامية.
ورد في
(البحار) للعلامة المجلسي: «كان عيسى بن أعين إذا حجّ فصار إلى الموقف (في عرفة)
أقبل على الدعاء لإخوانه حتّى يفيض الناس، فقيل له: تُنفق مالك وتُتعب بدنك
حتّى إذا صِرتَ إلى الموضع الذي يُبثُّ فيه الحوائج إلى الله أقبلتَ على
الدعاء لأخوانك وتترك نفسك؟ فقال: إنّي على يقين من دعاء الملَك لي وفي
شكٍّ من الدعاء لنفسي».
ونجدُ توضيح مراده في
نموذج مماثل، وتلميذٍ أخر من مدرسة الإسلام المحمّدي كما قدّمه أهل البيت عليهم
السلام:
«عن عبد الله بن جندب،
قال: كنت في الموقف، فلمّا أفَضْتُ لقيت إبراهيم بن شعيب، فسلّمت عليه وكان مصاباً
بإحدى عينيه، وإذا عينُه الصحيحة حمراء كأنّها عَلَقةُ دم، فقلت له: قد أُصِبْتَ
بإحدى عينيك، وأنا مشفقٌ لك على الأخرى فلو قصَرتَ من البكاء قليلاً.
قال: لا والله يا أبا
محمّد، ما دعوت لنفسي اليوم بدعوة. فقلت: فلمَن دعوت؟
قال: دعوت
لإخواني. سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: مَن دعا لِأخيه بظَهرِ الغَيبِ وَكَّلَ اللهُ به ملَكاً يقول: ولكَ
مثلاه. فأردتُ أن أكون إنّما أدعو لإخواني ويكون الملَك يدعو لي، لأنّي في
شكٍّ من دعائي لنفسي، ولستُ في شكٍّ من دعاءِ الملَك لي».
فدعوتُ
لكلّ ضالٍّ عن الله بالهداية إليه
ولا تكتمل صورة روعة
الحبّ في التديّن عند هذا الحدّ، بل لم يتجاوز الحديث عن الصورة الإطار!
ليست غاية الحبّ أن
تحبّ إخوانك المؤمنين فتؤثرهم على نفسك في الدعاء إيثار تجارة تبغي بها مصلحتك،
ولا هي غاية الحبّ أن تدعو لهم حبّاً منزَّهاً عن المردود الربْحي أو المصلحي مهما
كان وجيهاً، بل غايتُه أن تحبّ الخير للكافرين وتؤثرهم على نفسك وتمضي شطراً من
ليلة القدر بالدعاء لهم.
ولا تحرّك بالإنكار
قلبك، لتعجل به، فسيأتي ما يبدّد كلّ غموض.
وتعالَ معي لنصغيَ
بأذن القلب إلى تلميذ مدرسة أهل البيت المحمّدي السيّد ابن طاوس قدّس سرّه، حيث
يقول:
«وكنتُ في ليلةٍ جليلة من شهر رمضان بعد
تصنيف هذا الكتاب بزمان، وأنا أدعو في السَّحَر لمن يجب أو يحسُن تقديم الدعاء له،
ولي، ولمن يليق بالتوفيق أن أدعو له، فورد على خاطري أنّ الجاحدين لله جلّ جلاله
ولنِعَمه والمستخفّين بحرمته، والمُبدّلين لحُكمه في عباده وخليقته، ينبغي أن يبدأ
بالدعاء لهم بالهداية من ضلالتهم، فإنّ جنايتهم على الربوبيّة، والحكمة الإلهية،
والجلالة النبويّة أشدُّ من جناية العارفين بالله وبالرسول صلوات الله عليه وآله.
فيقتضي تعظيم الله وتعظيم جلاله وتعظيم رسوله وحقوق هدايته بمقاله وفعاله، أن
يقدّم الدعاء بهداية من هو أعظم ضرراً وأشدّ خطراً، حيث لم يُقدر أن يزال ذلك
بالجهاد، ومنعهم من الإلحاد والفساد. ".." فدعوتُ لكلّ ضالٍّ عن الله
بالهداية إليه، ولكلّ ضالٍ عن الرسول بالرجوع إليه، ولكلّ ضالٍّ عن الحقّ
بالاعتراف به والاعتماد عليه. ثمّ دعوت لأهل التوفيق والتحقيق بالثبوت على
توفيقهم، والزيادة في تحقيقهم، ودعوت لنفسي ومن يعنيني أمره بحسب ما رجوته من
الترتيب الذي يكون أقرب إلى من أتضرّع إليه، وإلى مُراد رسوله صلّى الله عليه
وآله، وقد قدّمت مهمّات الحاجات بحسب ما رجوت أن يكون أقرب إلى الإجابات».
ونتابع
الإصغاء إلى بيان الحيثيّات، التي يشرحها السيّد بقوله: «أفلا
ترى ما تضمّنه مقدّس القرآن من شفاعة إبراهيم عليه السلام في أهل الكفران، فقال
الله تعالى:
﴿..يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ هود:74-75.
فمدحَه تعالى على حلمه وشفاعته ومجادلته في قوم لوط، الذين قد بلغ كفرهم إلى تعجيل
نقمته. ".." أما رأيت ما تضمّنته أخبار صاحب الرسالة، وهو قدوة أهل
الجلالة، كيف كان كلّما آذاه قومه الكفّار، وبالغوا فيما يفعلون، قال صلوات الله
عليه وآله: (أللهمّ
اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون). ".." أما رأيت الحديث عن عيسى
عليه السلام: (كُن كَالشمس تطلع على البَرِّ
والفاجر). وقول نبيّنا صلوات الله
عليه وآله: (اِصنعِ الخيرَ إلى أهلِه وإلى غير أهلِه،
فإنْ لمْ يكن أهلَه فكُن أنتَ أهلَه)، وقد
تضمّن ترجيح مقام المحسنين إلى المسيئين، قوله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الممتحنة:8.
ويكفي أنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله بُعث رحمةً للعالمين».
ومن الواضح أنّ السيّد قدّس
سرّه، قد راعى الثوابت التالية:
1- أنّ الدعاء
للكافرين ﴿..الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ..﴾ الممتحنة:8.
2- أنّه لم
يحبّهم على كفرهم، بل دعا لهم بالهداية.
3- أنّ الأصل في
الدعاء لهم هو حبّ الله تعالى وحبّ نبيّه صلّى الله عليه وآله، الذي يحتّم حبّ وضع
الحدّ للتمرّد على طاعة الله عزّ وجلّ، ومخالفة سيّد أنبيائه صلّى الله عليه وآله.
4- أنّ مبالغة
الكفّار في الأذى ما لم يصل إلى الحرب، لا تمنع من الدعاء لهم بالهداية.
5- أنّ المؤمن
خيرٌ كلّه، لا يصدر منه إلّا الخير ﴿..إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الممتحنة:8.
بهذا الفهم وهذه الروح
ينبغي أن نستقبل ليلة القدر، موقنين بأنّه لا حول لنا ولا قوّة إلّا بالله العليّ
العظيم.
_____________________
* مقتطف من كتاب (مختصر "أعمال شهر
رمضان").