أحكامه
مصونةٌ عن التبديل
الإسلام دين إلهي عالمي لجميع العصور
ـــــــــــــــــــــــ
المرجع الديني الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني دام ظلّه
ـــــــــــــــــــــــ
من الأمور التي لا ريب
فيها والتي اتفق عليها المسلمون، ودلَّت عليها البراهين المحكمة العقلية والسمعية
أن الإسلام دينٌ عالميٌّ لنوع الإنسان كافة، ولجميع الأعصار والأزمان، وأنه أقوم
الأديان وأوضحها، وأوسط الطرق وأشملها، وأنه صالحٌ لإدارة المجتمع الإنساني دائماً،
فكلما يمضي عليه الزمان لا تسبقه الحضارات والمدنيات، ولا يتأخر عن العلم والتقانة،
فهو يقود البشرية ويهديها إلى الرشد والكمال، فلا يوجد بابٌ إلى خير الإنسان
وفلاحه وسعادته إلا وقد فتحه عليه، ولا يوجد باب إلى الشقاء والبوار والتبار إلا
وقد أغلقه عليه.
قد تكفل وشمل بسعة
تعاليمه وأحكامه وشرايعه جميع ما يحتاج إليه البشر من النظم المادية والمعنوية،
والروحية والجسمية، الفردية والاجتماعية وغيرها مما هو مبيّن بالكتاب والسنة، فقد
أنزله الله تعالى ليكون دين الجميع ودين العالم كله، ودين الأزمنة والأعصار كلها،
ورفع به جميع ما يحجز الإنسان عن الرُّقي والتقدم السليم الحكيم، وحرّر به الإنسان
من رِقِّه المخزي، وأخرجه من ذلّ عبادة الطواغيت المستكبرين وحكومة الجبارين،
وأدخله في عزّ حكومة الله تعالى خالق الكون وربّ العالمين، وهتف به وناداه أنه لا فضل
لعربيّ على عجميّ، وأن كلّ الناس؛ عالمهم وجاهلهم، غنيِّهم وفقيرهم، قويّهم
وضعيفهم أمام الحق سواء، وأن أكرمَهم عند الله أتقاهم، وأن الدار الآخرة للذين لا
يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين، وأن الله يأمر بالعدل
والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
عقيدة
كلُّها نظام
هذا قليلٌ من الإسلام
الذي ختم الله به الأديان، دين الله الخاتم، دين الفطرة ودين الحياة، دين العلم
والعدل والإنصاف وكرائم الأخلاق، دينٌ كلّه نظام: نظام العقيدة الصحيحة الخالصة من
الخرافات، نظام الآداب الحسنة، نظام العبادة لله تعالى، نظام الحكومة والسياسة،
نظام المال والاقتصاد، نظام الزواج والعائلة والأحوال الشخصية، نظام التعليم
والتربية الرشيدة، نظام القضاء وفصل الخصومات، نظام الحقوق والمعاملات، نظام الصلح
والحرب، ونظام كلّ الأمور، فهو عقيدةٌ وشريعةٌ، وسياسةٌ وحكومة.
نظام لا ينسخ ولا يزول
ولا يتغير أبداً، لأن الله تعالى ختم به وبالمرسَل به، سيدنا وسيد الخلق أجمعين،
وسيد الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله، النبوّات
والرسالات، فلا شريعة بعده ولا كتابَ ولا نبوَّة، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. (آل
عمران:85)
ولا ريب أن معنى خاتمية
الدين بقاء أحكامه الخمسة من الكراهة والنّدب والإباحة والوجوب والاستحباب،
وأحكامه سواء كانت أحكام موضوعات بعناوينها الأولية مثل حُرمة أكل الميتة، أو
بعناوينها الثانوية مثل جواز أكل الميتة في حال الاضطرار، وسواء كانت من الأحكام
الظاهرية أو الواقعية، على ما بُيِّن تعريفها في علم أصول الفقه، وهكذا أحكامه
الوضعية كالزوجية والملكية والولاية والحكومة وغيرها، سواء قلنا بأن الوضعية منها
متأصّلة بالتشريع والجعل الإلهي، أو منتزعة من الحكم التكليفي الشرعي.
فهذه الأحكام بجملتها
وبكلّ واحد منها مصونةٌ عن التغيير والتبديل، فلا تنالها يد الإنسان كائناً من كان
بتغيير ولا تبديل، لا لأنها أحكام خالدة حَكَم الله تعالى بخلودها وبقائها ما بقي
من الإنسان كائن حيّ فحسب، بل لأنه مضافاً إلى ذلك ليس لغير الله تعالى - على أساس
الإيمان بالتوحيد وبصفات الله الكمالية التي هو سبحانه متفرّد بها - صلاحية
التشريع والحكم، والولاية على غيره، بل وعلى نفسه.
تداول
الاستبداد بين الفرد والجماعة
فالنظام المؤمن بالله
تعالى لا يعدل عن أحكامه سبحانه، ولا يرى لشعبه ولا لقيادته حق التشريع، ولا يتخذ
حاكماً وولياً من دون الله، بل يقدّس الله وينزّهه عن أن يكون له شريك في الحاكمية
والمشرّعية، وذلك بخلاف مبادئ الأنظمة المشرِكة الملحدة، التي من مبادئها أن
الحكومة ووضع القوانين والأنظمة حقّ للشعب والأكثرية دون الله تعالى، ولا فرق
بينها وبين حكومات الطواغيت الماضية والأنظمة المَلَكية المطلقة في الشرك ونفي
حاكمية الله تعالى، إلا أن هؤلاء المفتونين بالديمقراطية يرون الحاكمية والاستبداد
بالأمر وتشريع البرامج والنظم السياسية والقضائية وغيرها حقاً للشعب والناس،
والحكومات الديكتاتورية الطاغوتية تراها للديكتاتور الطاغوت، فهذه حكومة طاغوتية
جَماعية خارجة عن حكومة الله تعالى، وهذه حكومة طاغوتية استبدادية فردية، وكلٌّ
منهما ليست من الحكومات الشرعية المؤمنة بالله تعالى وحكومته وأحكامه وشرايعه.
ولا يخفى عليك أن صيانة
الأحكام الإلهية عن تصرّف أفراد البشر بالنسخ والتغيير والتبديل خصيصة عامة لجميع الشرائع
والأديان السماوية، فلا ولاية لأحد على تغيير حكمٍ من أحكام الله. نعم، عدمُ... نسخِ
الأحكام من جانب الله تعالى - كما في الشرائع السابقة - خصيصة اختصّ بها دين
الإسلام، لأنه خاتم الأديان والشرايع، وأفضلها وأقومها، فلا نبوّة ولا نبيَّ بعده
كما جاء في الخبر المتواتر عن الرسول صلّى الله عليه وآله أنه قال لعليّ عليه
السلام: «أنت منِّي بمَنْزلة هارون منْ مُوسى إلا أَنه لا نبيَّ بَعْدي»،
وفي لفظ «إلاّ أَنَّه لا نُبُوَّةَ بَعْدي».
والخاتمية سرّها وباطنها
وعلّتها أكملية الدين، فالدين الخاتم، يجب أن يكون أكمل الأديان، كما أن الأكمل لا
بدّ وأن يكون الخاتم لأنه نهاية الغرض والحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، فلا
رسالة بعده. فالرسالة المحمّدية هي تمام الرسالات وكمالها، وجاء بها نبيّنا الأعظم
سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله...
نعم، جاء برسالته صلّى
الله عليه وآله عندما بلغ المجتمع الإنساني بلوغه الصالح لتحمّل هذه الرسالة
والعمل بها، ومهما تتقدّم العلوم والمعارف، وتتقارب البلدان وتسير إلى الأمام
والوحدة الاجتماعية والسياسية، يتكامل هذا البلوغ والصلاحية.
وجدير بالذكر أن هذا
الأساس والعقيدة عند المسلمين، بأن الأحكام مصونة عن التغيير والتبديل، كان من أدلّ
الأدلة لردّ المتجاوزين والمتعدّين حدودَ الله وأحكامه، ونفي إبطال المبطلين طوال
أربعة عشر قرناً.
ولو لم نحتفظ بهذا الأصل
الأصيل، ولم نُنكر على من يتخلّف عنه أو يقول باختصاصه بالنصوص القرآنية، أو
باختصاصه بغير الأمور الدنيوية والمالية، لَرأينا الدين غير الدين والملّة غير
الملّة، ولَتلاعب أهل الأهواء والآراء في كلّ عصر بلعب جديد يوافق بزعمهم مزاج
العصر.
ومن هذه التلاعبات....
الخلطُ بين الحكم الشرعيّ والفتوى... فتراه (يخلط) بين الحكم والفتوى لا يفرّق بينهما،
مع أن الأحكام الشرعية لا تتغيّر وهي ثابتة باقية، وفعليّتها متقوّمة بوجود
موضوعاتها في الخارج، كما أنها باقية ببقائها، سواء في ذلك أحكام الشريعة الإسلامية
وأحكام الشرايع السابقة، غير أن الثانية قد نالتها يدُ النسخ دون الأولى؛ فلا تنالها
يدُ النسخ أبداً لخاتمية دين الإسلام...
نعم، لو (أُريدَ) من الحكم
الأحكام السلطانية الموقّتة المنشأة في موارد الضرورة وتزاحم الأحكام والتي يدور بقاؤها
مدار الضرورة التي أوجبتها، لصحّ ذلك، لأنها بطبيعتها تقتضي التغيّر...
وأما الفتوى التي هي نتيجة
اجتهاد المجتهد ونظرِه في الأدلة من العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن،
والأصول اللفظية، والأصول العملية وغيرها، واستنباط حكم الشرع منها فهي قابلة للتغيير،
وليس من لوازمها الثبات، لعدم حصانة المجتهد من الاشتباه والخطأ في اجتهاده...
فيرجع لا محالة عن فتواه الأولى ويتغيّر رأيه؛ لا من جهة أنّ الحكم الذي أفتى به تغيّر،
بل لظهور أن الحكم لم يكُن على ما أفتى به
.