الساقي الظمآن
العظيم
المِراس، المكين الأساس.. أبو الفضل العبّاس
_____ الشيخ
جعفر التستري قدّس سرّه _____
اعلم أنّ ربّ العالمين
قد خلق الماء.. حيث لا أرض ولا سماء. ما كان في الفضاء الذي أوجده شيءٌ سوى الماء.
﴿..وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ..﴾ هود:7.
هذا الماء هو أصل خلقة السماوات والأرضين.
واعلم أنّ هذا الماء كان
خلقُه من أجل الحسين.. كان من بركة الحسين.. وكان بواسطة الحسين عليه السلام.
ذلك لأنّ كافة
المخلوقات خُلقت من أجل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما في الحديث القدسي:
«لولاك لمَا خلقتُ الأفلاك»، ويقول النبيّ عن الحسين: «حسينٌ منّي وأنا
من حسين».. فكلّ ما خُلق، خُلق من أجل الحسين عليه السلام.
*****
إنّ أوّل أجر يُعطى
يوم القيامة من أجور الأعمال هو أجر «سقي الماء».. فلهذا السقي إذاً خصوصية خاصة.
وقد جُعل في الماء
حقٌّ للجميع؛ ومن أحكام «سقي الماء» الخاصّة: «مَن سقى كبداً حرّى فله أجر».
هذا الأجر المجعول على
ريّ الكبد الحرّى.. إنّما هو لريّ كبد كلّ أحد – حتى الكافر.
كان النبيّ صلّى الله
عليه وآله وسلّم، يتوضّأ يوماً، فمرّت به هرّة.. ونظرت إلى الماء. عندها ترك
وضوءه، وقرّب الماء من الهرّة، ثمّ أتمّ وضوءه.
*****
وبعد أن استبانت فضيلة
سقي العِطاش.. أقول:
عاينوا الآن في هذه
الصحراء، تجدوا العطاشى مجتمعين في هذه الخيام، والأطفال ينادون: الماء.
ما هذه المَعْطشة التي
تضمّ «ثلاثة أئمّة»؟! أحدهم الحسين، والآخر: السجّاد، والثالث: الإمام الباقر عليهم
السلام.
لقد جعل الله لهؤلاء
العطاشى أربعة «سقاة»:
أوّلهم: خاتم الأنبياء
محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله.. إذ كان قائماً في ميدان كربلاء، وبيده
كأس.. لها وقتٌ خاص.
السقّاء الثاني: الإمام
الحسين نفسه، فهو ساقي هؤلاء العطاشى.
السقّاء الثالث: العظيم
المِراس، المكين الأساس.. أبو الفضل العبّاس.
السقّاء الرابع: عيون
محبّيهم.
*****
والحديث عن «السقّاء
الثالث»، أبي الفضل العبّاس.. روحي له الفداء.
أَأحكي عن صفاته، أم
عن منزلته، أم عن جلالة قدره؟
للعبّاس عليه السلام
ثلاثة ألقاب:
أحدها: «قمر بني
هاشم».
الثاني: «الطيّار»، إذ
قال الإمام عليه السلام: أعطاه الله - كجعفر الطيّار - جناحين يطير بهما مع
الملائكة في الجنّة.
ثالث ألقابه: لقب
«السقّاء».
أحكي الآن عن جوده
بالروح من أجل أخيه. كان عماد الحماية والذّود في تلك الأيام بعهدة العباس. وفي الحديث:
عندما قُتل العباس زادت جرأة العسكر على قصد ناحية المخيّم.
أأتكلّم عن جماله؟! عن
قامته المديدة؟! أأحكي عمّن إذا ركب الفرس.. تخطّ قدماه الأرض - لولا الركاب؟!
كان الحسين عليه
السلام يحبّه حبّاً عظيماً.. حتى قال له: بنفسي أنت!
إخوته لأمّه.. قدّمهم
من قبل للقتل. ثمّ جاءت نوبته، فعزم على الذهاب إلى الميدان.
ولمّا رأى الأطفال
يتهاوون من العطش.. وبعضهم قد أسلم الروح.. أرجأ الذهاب إلى الميدان، واتّخذ طريقه
إلى مشرعة الماء. وعندما ركب جواده.. ركب الإمام الحسين جواده ومضى وراءه.. وما إن
ركب هذان الأخوان حتى هجم العسكر، وحال بينهما.
رجع سيّد الشهداء عليه
السلام، وركّض العباسُ فرسَه مسرعاً نحو شريعة الماء.
وهناك كان ما كان من
مقاتلته؛ إذ فرّق ألف فارس حتى بلغ الماء.. لكنّه لم يشرب.
انظر أيّ حالة تلك! حمل
الماء، وما شرب! إنّه – كما تذكر الروايات - تذكّر عطش أخيه الحسين. ولكنّه – لا
أدري - عندما عبر من هذا العالم إلى ذلك العالم: أشرب الماء الذي قدّموه له.. أم
لم يشرب؟!
وهناك غير هذا! هناك
حكاية القِربة: ملؤها بالماء، وحمْلُها على الكتف، صعوده من المشرعة، صيحة عمر بن
سعد لعنه الله: لا تدعوه! هجوم العسكر نحو المشرعة.. وسائر حالاته من قطع الكف،
وإصابة السهم.
فاجعة هذا «الساقي
الظمآن» بدأت منذ تمزّقت مزادة الماء. ولمّا وصل – بعد قتلٍ وكدح - إلى موضع قبره
الآن.. «عند ذلك وقف العبّاس» - أي وقف في مكانه ولم يتحرّك.
كان لا بدّ أن يقف..
فما عساه يصنع؟! وإلى أين يذهب؟! وهو لا يريد أن يفرّ، حاشاه.. ولم تبق له يدان
ليقاتل.. وفي ظنّي أنّه ما اتّجه إلى المخيّم.. وكان - وهو على تلك الحالة – يسمع
استغاثات العيال ونداءاتهم. كان واقفاً وهو على حالته هذه.. وإذا مطرٌ من السهام..
«فصار جلدُه كالقُنفذ».
وعلى حين غرّة.. جاء
سهمٌ، وانغرز في صدره المبارك.. فهوى على الأرض.
أريد أن أقول: ليست
فاجعته هذه التي سمعتها. فاجعته تبدأ من هويّه عن الفرس.
تصوّره بتلك القامة
المديدة.. والفرس لا يكفّ عن الجولان، يقع على الأرض.. فماذا يحدث؟!
كلّ السهام انغرزت في
كبده وأحشائه وبواطنه.
إنّا لله وإنّا إليه
راجعون.
________________________
* مختصر من
كتاب (الأيام الحسينية)