وصية ابن سينا لابن أبي الخير
لن تخلُص النفس عن
البدن ما التفتتْ إلى قيلٍ وقال
ــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر»
ــــــــــــــــــــ
من عيون الأخبار المنقولة عن العلاقة بين العرفاء
والفلاسفة المسلمين ننقل هذه المكاتبة التي جرت
بين العارفَين بالله؛ الشّيخ أبي سعيد بن أبي الخير والحكيم الإلهي الشيخ الرئيس
أبي عليّ بن سينا؛ وهي تدور حول معرفة الله تعالى والطريق الموصل إليها.
ونظراً
لأهمية هذه المكاتبة في تنمية المعارف الإلهية، نُعيد نشرها – مختصرة – نقلاً عن
الجزء التاسع عشر من (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) للسيد حبيب الله الهاشمي
الخوئي.
«شعائر»
ينقل القاضي نور الله (التستري)
الشهيد نبذة من كلام الشّيخ الرئيس في (مجالس المؤمنين) وهذه صورتها:
كتب الشيخ أبو سعيد بن
أبي الخير إلى الشّيخ الرئيس أبي عليّ بن سينا:
أيها العالم، وفّقك الله
لما ينبغي، ورزقك من سعادة الأبد ما تبتغي، إنّي من الطريق المستقيم على يقين، إلّا
أنّ أودية الظنون على الطريق المستجدّ متشعبّة، وإنّي من كلٍّ طالبٌ طريقَه، لعلّ الله
يفتحُ لي من باب حقيقة حاله بوسيلة تحقيقه وصَدَقة تصديقه... فأسمِعنى ما رُزقت،
وبيّن لي ما عليه وقفتْ وإليه وُفِّقت...
جواب
ابن سينا
فأجابه الشيخ الرئيس:
وصل خطابُ فلان - مبيّناً
ما صُنْع الله تعالى لديه وسبوغ نِعمه عليه، والاستمساك بعروته الوثقى، والاعتصام
بحبله المتين، والضّربِ في سبيله، والتولية شطرَ التقرّب إليه، والتوجّه تلقاءَ
وجهه، نافضاً عن نفسه غَبرة هذه الخَرِبة، رافضاً بهمّته الاهتمام بهذه القَذِرة -
أعزّ وارد وأسرّ واصل وأنفَس طالع وأكرم طارق، فقرأتُه وفهمته وتدبّرته وكرّرتُه
وحقّقته في نفسي وقرّرته.
فبدأتُ بشكر الله واهب
العقل ومفيض العدل، وحمدتُه على ما أولاه، وسألته أن يوفّقه في أُخراه وأُولاه،
وأن يثبّت قدمه على ما توطَّاه، ولا يُلقيه إلى ما تخطَّاه، ويزيدَه إلى هدايته
هداية، وإلى درايته التي آتاه دراية، إنّه الهادي المبشّر والمدبّر المقدّر....
طوبى لمن قاده القدر إلى
زمرة السعداء، وحادَ به عن رتبة الأشقياء، وأوزعه استرباح البقاء من رأس مال الغنى.
وما نزهةُ هذا العاقل في دارٍ يتشابه فيها عُقبى مُدركٍ ومُفوِّت، ويتساويان عند
حلول وقتٍ موقَّت، دارٍ أليمها موجِع، ولذيذُها مشبِع، وصحّتُها قسر الأضداد على
وزنٍ وإعداد، وسلامتها استمرار فاقةٍ إلى استمراء مذاقة، ودوامُ حاجةٍ إلى مجّ
مجاجة.
نعم، والله ما المشغول
بها إلَّا مثبّط، والمتصرّف فيها إلَّا مخبّط، موزّع البال بين ألمٍ ويأس، ونقود
وأجناس، أخيذُ حركاتٍ شتّى، وعسيفُ أوطارٍ تترى، وأين هو من المهاجرة إلى التوحيد...
والخلوص من التشّعب إلى التّراب، وعن التذبذب إلى التهذّب، وعن بادٍ يمارسه إلى أبدٍ
يشارقه، هناك اللذّة حقّاً، والحسن صدقاً، سلسالٌ كلَّما سُقيته على الرّيّ كان
أهنى وأشفى، ورزق كلَّما أُطعمته على الشبع كان أغذى وأمرى، ريُّ استبقاء لا ريّ
إباء، وشبَعُ استشباعٍ لا شبع استبشاع.
ونسأل الله تعالى أن
يجلو عن أبصارنا الغشاوة، وعن قلوبنا القساوة، وأن يهدينا كما هداه، ويؤتينا ممّا
آتاه، وأن يحجز بيننا وبين هذه الغارّة الغاشّة البسور في هيأة الباشّة، المعاسرة
في حِلية المياسرة، المفاصلة في معرض المواصلة...
توصيات
عمليّة
فأمّا ما التمسه من
تذكرةٍ ترِدُ منّي وتبصرةٍ تأتيه من قِبلي وبيانٍ يشفيه من كلامي؛ فكَبصيرٍ استرشد
من مكفوف، وسميعٍ استخبر عن موقور السّمع غيرِ خبير، فهل لمثلي أن يخاطبه بموعظةٍ
حسنة، ومثَلٍ صالح، وصوابٍ مُرشِد، وطريقٍ أسنّه له منقِذ، وإلى غرضه الذي أمّه مُنفِذ؟
ومع ذلك، فليكن اللهُ
تعالى أوّلَ فكره وآخره، وباطنَ اعتباره وظاهره، ولتكن عينُ نفسه مكحولةً بالنظر
إليه، وقدمُها موقوفةً على المثول بين يديه، مسافراً بعقله في الملكوت الأعلى، وما
فيه من آيات ربّه الكبرى، فإذا انحطَّ إلى قراره فليرَ اللهَ في آثاره، فإنّه باطنٌ
ظاهر، تجلَّى بكلّ شيء لكلّ شيء.
ففي
كلّ شيء له آيةٌ * تدلّ على أنّه واحدُ
فإذا صارت هذه الحال ملَكَة،
وهذه الخصلة وتيرة، انطبع في (جوهر نفسه) نقشُ الملكوت، وتجلَّى له آية قدس
اللَّاهوت، فألِف الأنسَ الأعلى، وذاق اللذّة القصوى، وأخذ عن نفسه إلى مَن هو به
أولى، وفاضتْ عليه السكينة، وحفّتْ به الطمأنينة، واطَّلع على الأدنى اطَّلاع راحمٍ
لأهله مستوهنٍ (لخَيلِه)، مستخفٍّ لثقلِه، مستحسنٍ لفعله...
ولْيَعلم أنّ أفضل
الحركات الصلاة، وأمثلَ السّكَنات الصيام، وأنفعَ البرّ الصدقة، وأفضل البرِّ
العطاء، وأزكى السّير الاحتمال، وأبطلَ السعي الرياء.
ولن تخلُصَ النفس عن
البدن ما التفتتْ إلى قيلٍ وقال، ومناقشةٍ وجدال... وخيرُ العمل ما صدر عن خالص
نيّة، وخيرُ النيّة ما ينفرج عن جناب علم، والحكمةُ أم الفضائل، ومعرفة الله أوّل
الأوائل، ﴿.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ..﴾، أقول قولي هذا وأستغفر الله وأستهديه وأتوب إليه
وأستكفيه، وأسأله أن يقرّبني إليه إنّه سميعٌ مجيب.
ثمّ يُقبل على هذه النفس
المزيّنة بكمالها الذاتي، ويحرسها عن التلطُّخ بما يُشينها من الهيئات الانقيادية
للنقوش المادية التي إذا بقيتْ في النفس المزيّنة كانت حالها عند الانفصال كحالها
عند الاتصال، إذ جوهرها متثاوبٌ ولا مخالطة، وإنّما يدنّسها هيئة الانقياد لتلك
الصواحب... ولذلك يهجر الكذبَ قولاً، ويخلَّى حتّى تحدث للنّفس هيئةٌ صدوقة،
فيصدّق الأحلام والرؤيا واللذّات، فليستعملها على إصلاح الطبيعة وإبقاء الشخص
والنوع والسياسة.
وأمّا المشروب، فأنْ
يهجر شربه ملهيّاً بل تشفّياً تداوياً، ويعاشر كلّ فرقةٍ بعادته ورسْمِه، ويسمح
بالمقدور من المال ويترك لمساعدة النّاس كثيراً ما (ممّا) هو خلاف طبعه، ثمّ لا
يقصّر في الأوضاع الشرعيّة، وتعظيم السُّنن الإلهيّة والمواظبات على التعبّدات
البدنيّة، ويكون دوام عمره إذا خلا وخلُص من المعاشرين، نظرٌ بالرويّة والفكرةِ في
الملوك الأُوَل ومُلكِها، واكبسْ عن عِثار النّاس من حيث لا تَقْفُ على النّاس،
عاهِد اللهَ أن تسير بهذه السيرة وتدينَ بهذه الدّيانة، واللهُ وليّ الَّذين آمنوا،
حسبُنا الله نعم الوكيل.