﴿وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيّدُ الذّاكرين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ حسين كوراني ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
في
سياق السعي لتوثيق عُرى الاقتداء برسول الله والتأسّي بسيرته صلّى الله عليه وآله،
نورد أبرز ما ورد في محاضرة قيّمة لسماحة العلامة الشيخ حسين كوراني ألقاها في
حوزة الإمام الخميني قدّس سرّه في الشام في شهر ربيع الأول من سنة 1425 هجرية،
وبيّن فيها منزلة «الذِّكر» في عملية بناء الشخصية الإيمانية على ضوء الآيات
القرآنية وأحاديث المعصومين عليهم السلام.
«شعائر»
من الواضح أنّ كلّ مؤمن يحبّ
أن يتأسّى بالمصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله ويقتدي به، ومعنى ذلك أنّ التأسّي وإنْ
كان واجباً شرعياً، إلّا أنّه يحظى بعناية خاصّة من المؤمنين تجعله في عداد الأمانيّ
المحبّبة.
ومن الواضح أنّ البُعد التاريخيّ
عن عصر رسول الله صلّى الله عليه وآله، وما طرأ على الثقافة الإسلامية من طوارئ دخيلة،
جعل «الشخصيّة الإسلامية» تبدو مردّدة بين أنماطٍ عديدة، يظنّ البعيد عن مصادر التشريع
انسجامها مع المفاهيم الإسلامية.
والمراد بالشخصيّة الصورةُ
العامّة التي تطبع الشخص بطابَعها، فللفقيه شخصيّته، وللأصوليّ شخصيّته، وللمفسّر،
والمحدّث، والنحويّ، والطالب الحوزويّ، والطالب الجامعيّ، والتاجر، والفلّاح شخصيّته،
وهكذا.
والشخصيّة الإسلامية عبارة
عن طابعٍ عامّ يمكنه أن يُخضع له كلّ ألوان هذه الشخصيات وغيرها، ويرتبط هذا الطابع
العامّ بمجموعة من القيَم في عالمَي الفكر والسلوك، يُنتج الالتزامُ بها هذا الطابع
العامّ وبالتالي هذه الشخصية.
والسؤال: عندما
نريد التأسّي بالمصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، ما هو الطابع العامّ الذي يجب الحرص
عليه لتكون شخصيّتنا محمّدية؟
والجواب:
أن نصدر من هذا الأصل المسلَّم: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله سيّدُ الذاكرين. والمراد بالذكر هنا،
هو المصطلح القرآني، ويشمل:
1) حركة العقل والقلب في
خطّ الذكر، بعيداً عن الغفلة عن المبدأ والمعاد.
2) الصلاة والصوم والحجّ
وسائر العبادات، التي تؤدّى بتذكّرٍ وبصيرة.
3)
كلّ أبواب جهاد النفس من المراقبة، والمحاسبة، والمشارطة،
وغيرها.
4) ويشمل كذلك ثمرات جهاد
النفس، والتي يجمعها عنوان التحلّي بمكارم الأخلاق.
5) وتظهر ثمرة كلّ ما تقدّم
في الذكر اللّساني من دعاء، وأذكار، وأوراد تملأ حياة صاحبها فتجعلها مسجداً عامراً
بذكر الله تعالى.
بين
ذِكرين؛ القلبي واللّساني
لا مجال للمقارنة بين الذِّكر
القلبي والذِّكر اللساني، إلّا أنّ من الضروري التنبّه إلى أنّه لا مجال أيضاً للفصل
بينهما، فالذّكرُ واحدٌ ميدانُه العقلُ والقلب، وتظهر أصداؤه على الجوارح واللّسان
بشكلٍ خاصّ. ويجب التنبّه بامتياز إلى أنّ الفصل بينهما مكرٌ شيطانيّ هو المدخل إلى
سرقة جوهرة الذكر من الإنسان.
ندرك ذلك جيداً حين نتنبّه
إلى أنّ أهمّية الذكر اللّساني تبلغ الحدّ الذي يتوقّف الذّكر القلبيّ عليه، ولا دور،
فالذي ينطلق في ميدان الذكر اللّساني إنّما ينطلق من ذكرٍ عقليٍّ وقلبيٍّ خاصَّين قد
يضعفان أو يتلاشيان في دوّامة الدنيا ومنعطفاتها، ويأتي دور الذكر اللّساني لتنشيط
هذا الضعف، أو ليبذر من جديد بذرةَ ما تلاشى، تماماً كما تُمكّن العضلاتُ من الرياضة
وتشدّ الرياضةُ العضلات، والذِّكر رياضة روحية يشكّل اللّسانيّ منه الظاهر والحركات،
والعقلي والقلبي المحتوى والجوهر.
الذّكر
في القرآن الكريم
يمكن تقسيم ما ورد في كتاب
الله تعالى حول الذِّكر إلى قسمين:
1) خطابٌ لرسول الله
صلّى الله عليه وآله.
2) خطابٌ للمقتدين به صلّى
الله عليه وآله.
* من الأول:
1) ﴿بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا
* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ
تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ
هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا
* وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ
هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ
قَلِيلًا﴾. (المزمل:1-11)
2) ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ
آَثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾. (الإنسان:23-26)
3) ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ
وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾. (الأعراف:205)
* ومن الثاني؛
أي الخطاب الموجّه للمؤمنين المقتدين برسول الله صلّى الله عليه وآله:
يجب التنبّه بدايةً، إلى
أنّ الأمر بالتأسّي برسول الله صلّى الله عليه وآله قد ورد في القرآن الكريم مقروناً
بذكر الله تعالى، قال عزّ مِن قائل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.
(الأحزاب:21)
1) أَتْباعُ رسول الله صلّى
الله عليه وآله هم الذّاكرون:
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾. (الأحزاب:35)
2) يذكرون الله كثيراً
وفي جميع الأحوال:
- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا
اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (الأحزاب:41-42)
- ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. (آل عمران:190-191)
وتركّز الآيات القرآنية
المباركة في السياق على جملة من العناوين المرتبطة بالذّكر كعنوان عامّ، منها:
*
الذِّكرُ القليل، علامةُ النفاق:
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ
وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ
النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾. (النساء:142)
*
والغفلة عنه هلاك:
﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ
لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾. (الزخرف:36)
ويجمع الحثّ على الذِّكر
وبيان الخطر الناتج عن تركه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ
أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. (الحشر:18-19)
من
سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله
يجب التنبيه هنا إلى أنّ
للمصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، في كلّ حال من الحالات ذِكراً خاصّاً أو أذكاراً
خاصّة، فقد كانت حياته صلّى الله عليه وآله ذكراً دائماً، ولا يتّسع المجال لإيراد
ذلك، فهو كتابٌ مستقلّ، وقد جمع العلماء شيئاً منه فكان كثيراً جداً، ومَن أراد بعضه
فينبغي الرجوع إلى كتاب (سُنن النّبيّ) للسيّد الطباطبائي، صاحب (تفسير الميزان)، وقد
أضاف إليه بعض طلّابه نُبذاً، ورغم أنّها لم تستوفِ مجالاتها، فهي كثيرٌ جمّ.
1) عن أبي عبد الله الصادق
عليه السلام: «أَنَّ رَسُولَ الله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ
لَا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ وإِنْ خَفَّ، حَتَّى يَسْتَغْفِرَ الله عَزَّ وجَلَّ خَمْساً
وعِشْرِينَ مَرَّةً».
2) وعن الشيخ أبي الفتوح
في تفسيره: «عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: لمّا نزل قوله تعالى: ﴿..اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا
كَثِيرًا﴾ اشتغل رسول الله صلّى الله عليه وآله بذكر الله حتّى قال الكفّار: أنّه جُنّ».
(الأحزاب:4)
3)
وفي (المحجّة البيضاء): «كان رسول الله صلّى الله عليه
وآله كثيرَ الضّراعة والابتهال إلى الله تعالى، دائمَ السؤال من الله تعالى أن يزيّنه
بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، فكان يقول في دعائه: (اللّهمّ حَسِّن خُلُقي)،
ويقول: (اللّهمّ جَنِّبني مُنكَراتِ الأخلاق)».
ومن الجدير بالذِّكر - ليستقرّ
في متن صفحة القلب - التلازمُ بين الذّكر وحُسن الخلق، الذي هو في طليعة عناوين التأسّي
بالمصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله. فقد رُوي عن أبي عبد
الله الصادق عليه السلام أنه قال: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ
وَسَلَّم: ألَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْبَهِكُمْ بِي؟
قَالُوا:
بَلَى يَا رَسُولَ الله.
قَالَ: أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً،
وأَلْيَنُكُمْ كَنَفاً، وأَبَرُّكُمْ بِقَرَابَتِه، وأَشَدُّكُمْ حُبّاً لإِخْوَانِه
فِي دِينِه، وأَصْبَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وأَكْظَمُكُمْ لِلْغَيْظِ، وأَحْسَنُكُمْ
عَفْواً، وأَشَدُّكُمْ مِنْ نَفْسِه إِنْصَافاً فِي الرِّضَا والْغَضَبِ».