أحد
المحامدة العظماء من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام
الشهيد محمّد
بن أبي حُذَيفة القرشيّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد: سليمان بيضون ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ولد في الحبشة حين هاجر والداه إليها،
وأدرك صحبة رسول الله صلّى الله
عليه وآله وسلم.
* كان يجيد القرآن، ووُصف بأنّه من أقرأ الناس.
* قائد عسكري فذّ، ومن أبطال فتح الشام ومصر.
* لم يحُل نسبه الأمويّ دون وقوفه إلى
صفّ أمير المؤمنين عليه السلام ومواجهته للفاسدين ولو كانوا من قرابته.
*
قال لابن خاله معاوية بن أبي سفيان وهو في عزّ سلطانه: «خرج مع عليّ عليه السلام
كلُّ صوّام قوّام، مهاجريّ وأنصاري، وخرج معك أبناء المنافقين والطلقاء».
*
أُعدّت هذه المقالة استناداً إلى ترجمته في كُتب علم الرّجال، ومصادر تاريخية
عدّة.
|
هو محمّد، بن أبي
حذيفة، بن عتبة، بن ربيعة، بن عبد شمس. كان جدّه عتبة زعيم بني أميّة، ومن المشركين
الذين وقفوا في وجه دعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّمفي مكّة، ومع ذلك كان أعقلَهم،
يفكّر في حلّ وسط بين قريش والنبي، فقد عرض عليه يوماً أن يعبدوا ربّه يوماً ويعبد
أصنامهم يوماً! فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾.
وكان أقطاب
المشركين يوماً في دار الندوة فعرض عليهم عتبة أن يكلّم النبيّ صلّى الله عليه وآله
لعلّه يتوصّل معه إلى حلّ، فذهب إليه وكلّمه، فقرأ عليه النبي سورة السجدة، فذهل عتبة،
ولمّا رأوه بتلك الحال قال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه
الذي ذهب به. فلمّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أنّي قد
سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط! والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا
معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله
ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر
على العرب فمُلكه ملكُكم وعزّه عزّكم، وكنتم أسعدَ الناس به. قالوا: سَحَرَكَ والله
يا أبا الوليد بلسانه!
قال: هذا رأيي فيه،
فاصنعوا ما بدا لكم.
أمّا أبوه أبو حذيفة
–ويقال إن اسمه هشيم- فقد كان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، هاجر إلى
الحبشة ثمّ إلى المدينة، وشهد معركة بدر، وفيها دعا أباه عتبة إلى البراز فلم يأذن
له النبي صلّى الله عليه وآله.
استشهد في معركة اليمامة
في مواجهة مسيلمة الكذّاب وأتباعه سنة اثنتي عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث أو أربع
وخمسين سنة.
وأمّا أمّه، فهي سهلة
بنت سهيل بن عمرو القرشيّة من بني عامر بن لؤيّ، من السابقات إلى الإسلام، هاجرت إلى
الحبشة، وهناك ولدت ابنها محمّد بن أبي حذيفة.
في كتب الرجال
* نقل الكشّي في
(رجاله)
ج1 ص 286، عن بعض الرواة العامّة: «كان محمّد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع عليّ
بن أبي طالب عليه السلام ومن أنصاره وأشياعه، وكان ابن خال معاوية، وكان رجلاً من خيار
المسلمين، فلمّا توفّي عليّ عليه السلام أخذه معاوية وأراد قتله..».
وروى في الموضع
نفسه بسنده عن أمير بن عليّ، عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «كان أمير
المؤمنين عليه السلام يقول: إنّ المحامدةَ تأبى أن يُعصى اللهُ عزّ وجلّ».
قلت: ومَن المحامدة؟
قال: «محمّد بن
جعفر، ومحمّد بن أبي بكر، ومحمّد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أمير المؤمنين عليه السلام
ابن الحنفية».
وقال المامقاني في (تنقيح المقال): «محمّد
بن أبي حذيفة القرشي العبشمي، عدّه جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله..».
ولاؤه لأمير المؤمنين عليه السلام
ولد محمّد بن أبي
حذيفة في الحبشة حين هاجر أبوه إليها، ولمّا استشهد أبوه في حكم أبي بكر كان دون
العشرين من عمره، فعاش في كنف عثمان بن عفّان لقرابة بينه وبينه، لكنّه نشأ محبّاً
لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام موالياً له أشدّ الولاء، فكان من أصحابه الخلّص،
فتعلّم منه أنّ الحقّ فوق القرابة والنسب، وأنّ الإسلام الحقيقي يتجلّى في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا فإنّه حينما تولّى عثمان بن عفان الحكم، وأمسك
بمفاصل السلطة فاسدون من بني أمية كان محمّد من أشدّ المعارضين له، بل هو من حرّض المصريّين
على الثورة ضدّه.
قال العلّامة الأميني
في موسوعته (الغدير) ج9 ص 143: «كان أبو القاسم محمّد بن أبي حذيفة العبشمي من أشدّ
الناس تأليباً على عثمان.
وذكر البلاذري في
(الأنساب) قال: كان محمّد بن أبي بكر بن أبي قحافة، ومحمّد بن أبي حذيفة، خرجا إلى
مصر عام مخرج عبد الله بن سعد بن أبي سرح إليها، فأظهر محمّد بن أبي حذيفة عيب
عثمان والطعن عليه، وقال: استعمل عثمان رجلاً أباح رسول الله صلّى الله عليه وسلّمدمه
يوم الفتح، ونزل القرآن بكفره حين قال: ﴿سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾».
حيث إنّ عبد الله الذي ولّاه عثمان على مصر هو أخوه لأمّه، وهو الذي كان تحدّى
النبي صلّى الله عليه وآله بأنّه سيأتي بمثل القرآن.
وجاء في (تاريخ الطبري)
ج3 ص 341 عن الزهري، قال: «خرج محمّد بن أبي حذيفة ومحمّد بن أبي بكر عام خرج عبد الله
بن سعد [والياً على مصر من قبل عثمان]، فأظهرا عيب عثمان، وما غيّر، وما خالف به أبا
بكر وعمر، وأنّ دم عثمان حلال. ويقولان: استعمل عبدَ الله بنَ سعد، رجلاً كان رسول
الله صلّى الله عليه وآله أباح دمه ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسولُ الله صلّى الله
عليه وآله قوماً وأدخلهم [أي عثمان]، ونزع أصحابَ رسول الله صلّى الله عليه وآله واستعمل
سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر..».
وقال في ج3 ص 341:
«ومحمد بن أبي حذيفة يقول للرجل: أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقّاً. فيقول الرجل:
وأيّ جهاد؟! فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا حتّى أفسد الناس، فقدموا بلدهم وقد
أفسدهم، وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به».
وممّا يدلّل على
صلابة موقف محمّد بن حذيفة في الحقّ ومضيّه في مجابهة الفساد ما جاء في (أنساب الأشراف)
للبلاذري ج5 ص540: «قالوا: وبعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم، وبجمل عليه
كسوة، فأمر به [محمّد] فوُضع في المسجد وقال: يا معشر المسلمين: ألا ترون إلى عثمان
يخادعني عن ديني ويرشوني عليه؟! فازداد أهل مصر عيباً لعثمان وطعناً عليه، واجتمعوا
إلى ابن أبي حذيفة فرأَّسوه عليهم..».
هذا وقد اغتنم
محمد بن أبي حذيفة غياب عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن مصر لمّا استدعاه عثمان
وسائر ولاة الأمصار إلى المدينة، فانقلب على من استخلفه عبد الله، وأخرجه، واستولى
على البلاد. وفي تلك الأثناء وقعت حادثة مقتل عثمان وبويع أمير المؤمنين عليه
السلام بالخلافة فأقرّ محمّداً على ولاية مصر.
قال العلامة
السيد مرتضى العسكري في كتابه (أحاديث عائشة) ج1 ص 137 في حديثه عن محمد بن أبي
حذيفة: «استأذن عثمان في أن يذهب إلى مصر للغزو فأذن له، فأخذ هناك يؤلّب الناس على
عثمان، ثمّ وثب على خليفة عبد الله بن سعد بمصر وأخرجه منها، وبايعه أهل مصر بالإمارة،
ولمّا استُخلف عليّ أقرّه عليها، فبقي عليها حتّى سار إليه معاوية عند مسيره إلى صفّين،
فخرج إليهم محمّد ومنعه من دخول الفسطاط، ثمّ تصالحوا على أن يخرج محمّد بن أبي حذيفة
ومن معه آمنين، فخرج محمّد وثلاثون رجلاً فغدر بهم معاوية وحبسه في سجن دمشق..».
احتجاجه على معاوية
وهكذا وقع محمد بن أبي حذيفة في أسر
معاوية لكنّ السجن لم يضعفه ولم ينل من عزيمته في جهاد المبطلين، فقد نقل الكشّي في
تتمّة نصّه المتقدم: «..أخذه معاوية وأراد قتله، فحبسه في السجن دهراً ثم قال
معاوية ذات يوم: ألا نرسل إلى هذا السفيه محمّد بن أبي حذيفة فنبكّته ونخبره
بضلالته ونأمره أن يقوم فيسبّ علياً عليه السلام؟
قالوا: نعم.
قال: فبعث إليه معاوية وأخرجه من السجن، فقال
له معاوية: يا محمد بن أبي حذيفة ألم يأنِ لك أن تُبصر ما كنتَ عليه من الضلالة
بنصرتك عليّ بن أبي طالب..؟ ألم تعلم أنّ عثمان قُتل مظلوماً، وأنّ عائشة وطلحة
والزبير خرجوا يطلبون بدمه، وأنّ علياً هو الذي دسّ في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه؟
قال محمّد: إنّك لَتعلم أنّي أمسّ القوم
بك رحِماً وأعرفهم بك؟ قال: أجل.
قال: فواللهِ الذي لا إله غيره ما أعلمُ
أحداً شرَك في دم عثمان وألّب الناس عليه غيرك لمّا استعملك ومن كان مثلك فسأله
المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى، ففعلوا به ما بلغك ".." فوالله إنّي لأشهد
أنّك مذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خُلُق واحد، ما زاد فيك الإسلام قليلاً
ولا كثيراً، وأنّ علامة ذاك فيك لَبيّنة، تلومني على حبّ عليّ عليه السلام! خرج مع
عليّ كلّ صوّام قوّام، مهاجريّ وأنصاريّ، وخرج معك أبناء المنافقين والطلقاء
والعتقاء، خدعتهم عن دينهم وخدعوك عن دنياك، واللهِ ما خفي عليك ما صنعت، وما خفي
عليهم ما صنعوا، إذ أحلّوا أنفسهم لسخط الله في طاعتك، والله لا أزال أحبّ علياً
لله ولرسوله، وأبغضك في الله ورسوله أبداً ما بقيت.
قال معاوية: وإنّي أراك على ضلالك بعد، ردّوه،
فردّوه وهو يقرأ في السجن: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾..».
شهادته
جاء في كتاب (مصر
وأهل البيت عليهم السلام) ص 164 للعلامة الشيخ علي الكوراني ما ملخّصه: «تمكّن معاوية
من القبض على ابن خاله محمّد بن أبي حذيفة، وقتْله، وأشاع روايات متضاربة في قتله،
ليبعد التهمة عن نفسه، فإنّ آل عتبة بن ربيعة الذين منهم محمّد، أشرفُ في الحساب القبلي
من آل حرب الذين منهم معاوية. لذا اهتمّ معاوية أن يُبعد عن نفسه قتل ابن خاله لئلّا
يكون لآل عتبة ثأر عنده، فصرتَ تجد روايات متضاربة في مقتل محمّد رضي الله عنه، كرواية
أنّه هرب من السجن فلحقه غلام لمعاوية بحوارين قرب حمص وقتله دون علم معاوية! مع أنّ
الغلام والجندي لا يجرؤ على قتل شخص من الأسرة الحاكمة بدون أمر الحاكم.
وتجد رواية أخرى أنّ
مالك بن هبيرة الكندي، الذي توسّط عند معاوية لحجر بن عدي الكندي فلم يقبل وساطته وقتل
حِجراً، غضب وقتل محمّد بن أبي حذيفة ثأراً بحجر.
وروَوا أنه فرَّ مع
أصحابه من السجن فلحقه جند معاوية وقتلوه في فلسطين! ففي (تاريخ دمشق): كان رجال من
أصحاب النبي يحدّثون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: (يُقتل في جبل الجليل
والقطران من أصحابي أو من أمّتي ناس)، فكان أولئك النفر الذين قُتلوا مع محمد بن
أبي حذيفة وأصحابه، بجبل الجليل والقطران هنا.
ونحن نرجّح أنّه توجّه
إلى المدينة قبل صفين ليلتحق بأمير المؤمنين عليه السلام مع عدد قليل من أصحابه
".." فتمكّن معاوية من القبض على محمّد وأصحابه في الطريق، وحبسهم في دمشق، حتّى احتال عليهم وقتلهم!
﴿..وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾
بعد انتهاء
معركة بدر نظر
رسول الله صلّى الله عليه وآله
إلى عُتبة بن ربيعة يُجرّ إلى القليب - وكان رجلا جسيماً، وفي وجهه أثر الجدري - فتغيّر
وجه ابنه أبي حذيفة بن عتبة [والد محمّد]، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله: ما
لك كأنك ساءك ما أصاب أباك؟
قال:
لا والله يا رسول الله، ولكنّي رأيت لأبي عقلاً وشرفاً، كنت أرجو أن يهديه ذلك إلى
الإسلام، فلمّا أخطأه ذلك، ورأيت ما أصابه غاظني.
(ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 14/178)