الولايات
المتحدة تعتمد «القدس الشريف» عاصمةً للكيان الغاصب!
مقاطعة البضائع الأميركية ردّة الفعل العفوية
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ حسين كوراني ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في أجواء إعلان
الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن نيّته نقل سفارة بلاده في فلسطين المحتلّة إلى
القدس الشريف باعتبارها عاصمة الكيان الصهيوني الغاصب، وفق زعمه، وما تبع هذا
الإعلان المشؤوم من مواقف مندّدة في جميع أرجاء العالم، وسط دعوات مكثّفة لمواجهة
هذه الخطوة الأميركية بجميع أشكال الشجب والإدانة، تقدّم «شعائر» مقتطفاً من أحد
فصول كتاب (مقاطعة البضائع الأميركية) للعلامة الشيخ حسين كوراني، الصادر سنة
2002م، ويتناول سماحته في هذا الفصل الآثار النفسية المترتبة على مقاطعة الأمة –
جماعاتٍ وأفراد - للسِّلع الأميركية.
«شعائر»
هل تحتاج ردّة الفعل البشرية
الطبيعية إلى دليل، وإلى تحديد الهدف؟
هل من المنطقي أن نسأل عن
الهدف من ردّة فعل الجسم السليم عند تعرّضه للحرارة مثلاً؟
أو
نسأل مَن نعرف أنه يتألّم فيصرخ، عن الدليل الذي يبرّر صراخه وعن الهدف الذي وضعه نصب
عينيه أولاً ثم صرخ؟
هل من المنطقي أن نسأل الأمّ
التي ترى وحيدها في خطرٍ داهم، عن الدليل والهدف من استغاثتها وطلب النجدة، أو من صرخة
التحدّي في وجه المعتدي؟
إن ردّة الفعل الطبيعية والعفوية
للجسم العربي والإسلامي هي مقاطعة البضائع الأميركية، إذا كان هذا الجسم ما يزال يمتلك
بقيّة من نبض الحياة، وإذا كان في نفسه رمقٌ من الشّمَم والإباء وعزّة النفس.
بكلّ بساطة:
لا نريد أن نأكل من طعام
عدوّنا المجرم الجزّار..
ولا نريد أن نلبس
من ثيابه.
ولا نريد أن نستعمل شيئاً من منتجاته.
تأبى عزّة نفوسنا أن نتقلّب
بين بضائع مَن يُمعن ضدّنا في الحقد والاحتقار والبطش والمجازر والإذلال.
هذا العدوّ اللدود القاتل
السفّاح السفّاك، نتقزّز من أنفسنا إذا رأيناها تقتات من فُتاته..
وعندما نرى أحداً منا يفعل
ذلك، فإن الإحساس الذي يتملّكنا هو نفس إحساس أم، أو أخت، أو أب، أو أخ، يرى فرداً
من أقاربه يستعمل سلعة المجرم الذي قتل الأطفال من أعزّائه، ومزّق أشلاء الآلاف من
الشباب والشيوخ والنساء، وهدم الكثير من البيوت واحتلّ الباقي.
حقاً، لو أن حيواناً في صورة
إنسان قتل من أيّ أسرةٍ منا قتيلاً واحداً، أكُنّا نستسيغ طعامه وشرابه، فضلاً عن الإدمان
على ذلك حتى أقصى حدود الجشع؟!
إذا كنا صادقين في حبّ القدس
وفلسطين والوقوف في وجه اليهود، فإن علينا أن نعبّر عن سخطنا على أميركا، عبر مقاطعة
كلّ ما يمت إليها بصلة.
هذا وحده هو الذي يثبت أن
المجازر منذ العام 1948م وإلى ساعتنا هذه قد أثّرت فينا، فضلاً عن أن تكون قد تركت
في قلوبنا جراحاً لا تندمل.
إنْ كنّا عرباً فلنرجع إلى
أحسابنا.
أين الغيرة العربية؟ أين
الشهامة وإباء الضَّيم؟
وإنْ كنّا مسلمين فأين الجسد
الواحد الذي تَداعى له سائرُ الأعضاء بالسهر والحمّى؟
للوهلة الأولى يبدو أنه يشدّنا
إلى البضائع الأميركية أمران: رغَدُ العيش (الترف) والجشع.
فالأول يجعلنا نتصوّر أن
كلّ البضائع الأميركية تتميّز بجودة عالية، والنفس ميّالة إلى الأجود. والثاني يسبّبه
الإدمان، ويجعلنا نتصوّر أنه لا يقرّ لنا قرار إذا امتنعنا، مثلاً، عن «البيبسي» و«المارلبورو».
لكن التدقيق يكشف أن ما يشدّنا
إلى البضائع الأميركية أمران آخران: هما الإعلان الأميركي وضياع الهوية.
أما الإعلان الأميركي - المرتكز
إلى مفاهيم «القطب الأوحد»، و«القوّة الأعظم»، والدولة الوحيدة التي تُعمل حقّ النقض
«الفيتو» وتتدخل في شؤون جميع الدول بلا أدنى حرج - فقد أصبح يتحكّم بكامل خَلَجات
الإعجاب وجميع مكامن الرغبات، وثمّة بضائع يابانية أو غيرها أجود من مماثلها الأميركي
إلا أنها تعجز عن المنافسة.
وأما ضياع الهوية فهو الذي
يُفقدنا الإحساس بالانتماء إلى هؤلاء الذين تطحنهم عجَلة الموت الأميركية، وبانتمائهم
إلينا، وانتمائنا إلى أمّة مزّقها المستعمر ونواطيره، وأحكموا عليها شدّ الوثاق وتضييق
الخناق.
إن من أشدّ نكباتنا إيلاماً
أننا بحاجة إلى إثبات أهمية مقاطعة البضائع الأميركية!
ليتصوّر كلّ منا نفسه المستهدف،
فهل يدوس على ترفه وجشعه ليدافع عن كرامته ووجوده، أم أنه يدوس على كرامته ووجوده فداءً
لجشعه والترف؟
يتّضح من ذلك أن مَن يقاطع
البضائع الأميركية، إنما يتحسّس قدرته على الحركة ويجسّ نبضه، تماماً كمن يُصعق إثر
انفجار مدوٍّ، فتكون أول ردّة فعله أن يجيب على تساؤل:هل أنا على قيد الحياة؟ يتلمّس
نفسه ثم يتلمّس بدنه.
وردّة فعل المقاطعين هذه
عفوية، تبادر إليها المفاصل الأقدر على الحركة في الأمة، لتستجيب لها المفاصل الأخرى
مهما بدت مثخنةً بالجراح الأميركية ومهما اشتدّ نزفها فبدتْ ميؤوساً منها.
وكما حصل في بداية انطلاقة
المقاومة الإسلامية في لبنان حيث رثى الكثيرون من«العقلاء» و«الواقعيّين»! لحال هؤلاء
المجانين، الذين لا يريدون طرد اليهود من لبنان وحسب، بل تحرير القدس! و«هل تقاوم العين
المِخرز»؟
وسيأتي يوم ينضمّ فيه المتبرّعون
بمحاربة المقاومة الاقتصادية ضدّ أميركا إلى قوافل المقاطعين، بل ربما سبق بعضهم وقصّر
بعض المتحمّسين الآن، كما هو الحال في أيّ طيفٍ من أطياف العمل الثوري والتغييري.
وبناءً على ما تقدّم، فإن
أول رقم في تحديد جدوى المقاطعة، هو إثبات أننا كأمّة ما نزال على قيد الحياة، رغم
أن أداء المتسلّطين علينا يوحي بعكس ذلك.
وهذا الرقم وحده يفوق كلّ
الأرقام الاقتصادية الفلكية.
وما على من يشكّك في ذلك
إلا أن يتأمّل في نفسه مستذكراً الأجواء التي أعقبت مجزرة جنين بالخصوص، ليرى أنه إنْ
كان ما يزال يثق بأنه على رَمَقٍ من العزّة، فإن ذلك يرجع إلى العنفوان الذي تجلّى
في المظاهرات التي عمّت البلاد العربية والإسلامية، في وقتٍ حمل فيه أداءُ الأنظمة
كلّ صاحب ضميرٍ حيٍّ على التشكيك بانتمائه وهويّته.
ولا يضير العنفوان الشعبي
أن يتراجع أو يحاصَر، فالمعركة لا تقاس هنا بجولة، وقضايا الشعوب لا تُختزل بمقطع زمني
محدّد.
لا
تُعين الضحيةُ على ذبحها
ويندرج في سياق ردّة الفعل
العفوية، أن تحُول الضحية دون إعانة الجزّار على ذبحها، لذلك يريد مشروع مقاطعة البضائع
الأميركية أن يمنع أميركا من استغبائنا، فإذا بنا نُسهم في ثمن آلة الموت والدمار التي
تفتك بنا، فنُصبح عبر ذلك شركاء - ولو بما لا يكاد يذكر- في جرائمه ومجازره.
إن مجرّد احتمال أن يذهب
جزء - ولو يسير- من مبلغ ينفقه شخص إلى حيث يشكّل 1/مليون من ثمن السلاح الذي يُقتل
به عزيزُه ويستقوي به عدوّه، هو احتمال جديرٌ بالاهتمام، فنحن نريد تجنّب حتّى مثل
هذا الاحتمال.
علميّاً يقال: إن قيمة المحتمَل
الشديد الخطورة، تُحتّم ترتيبَ الأثر على الاحتمال مهما كان ضعيفاً.
وبما أنه لم يعد خافياً على
أحد أن الكيان الصهيوني يقوم على الدعم العسكري والمالي الأميركيّين، فنحن لا نريد
أن نكون شركاء في ذلك بأيّ نسبة، حتّى إذا كانت ضئيلة جداً.
فكيف إذا رأينا بين الإحصاءات،
مثلاً، أن المدخّنين في العالم العربي والإسلامي الذين يشترون منتجات شركة «فيليب موريس»
وحدها يمدّون العدوّ الصهيوني يومياً بتسعة ملايين دولاراً!!!
إن هذا الإحصاء وحده كفيل
بأن يدفع كلّ صاحب ضمير حيّ إلى مقاطعة جميع البضائع الأميركية..
الحقيقة التي لا يُمكن تجاهلها
أن استهلاك البضائع الأميركية بهذه الطريقة السائدة، يجعل المستهلكين شركاء في دورة
الاقتصاد الأميركي، التي تشكّل الصادرات إلى الدول العربية والإسلامية بعض الأرقام
الأساسية فيها.
ولا ريب أن لهذه الأرقام
الأساسية بدورها، حضوراً متعدّد الأبعاد في التزام أميركا وضمانها التفوّق الإستراتيحي
للعدوّ الصهيوني، ورغم أن البُعد الاقتصادي ليس إلا واحداً من أطياف متماهية في رسم
الصورة الحقيقية، إلا أنه بُعدٌ بالغ الأثر، على المستوى النفسي على الأقل، وهو مجال
الحديث هنا.
لنفترض جدلاً أن البُعد الاقتصادي
لهذا الاستهلاك لا يرقى إلى أن يشكّل رقماً يُؤبَه به، فإن ذلك لا يلغي ضرورة المقاطعة
لتحقيق أمرَين شديدَي الأهمية في البُعد النفسي:
الأول:
أن لا نُعين على ذبحنا بأيّ نسبة.
الثاني:
أن لا تنظر إلينا الشعوب الأخرى بازدراء، الأمر الذي يتعاظم بسببه البُعد النفسي فينا،
من خلال انعكاس البعد النفسي في هذه الشعوب الذي يتجلّى بعدم الحماس لقضية لا يُقيم
أهلها لها وزناً.
وتتّخذ هذه النقطة منحًى
آخر، حين ندخل في الحساب أن صلبَ الاقتصاد الأميركي في حقيقته هو اقتصاد صهيوني بكلّ
معنى الكلمة.
إن هذا يعني أن أكثر ما نستورده
من أميركا، هو في واقع الحال مستورَد من الدولة العبرية.
ويعني أيضاً أننا نتلهّى
بملاحقة بعض السِّلع الصهيونية، التي نكتشف تسرّبها عبر هذا البلد أو ذاك، في حين أن
مرافئنا تعج بالسِّلع الصهيونية الواردة من أميركا بستارٍ أميركي.
كما تتّخذ هذه النقطة منحًى
أشدّ إيلاماً، عندما نُدخل في الحساب أيضاً ما بات واضحاً، من أن الكثير من الشركات
الأميركية التي يملكها اليهود، هي شركات محاربة تكنّ لنا من الحقد ما يكنّه لنا - ويعبّر
عن بعض مظاهره - وزراء حرب العدوّ .
أليس من واجبنا أن نحرص على
سلامتنا النفسية؟
ما هي الحالة النفسية للمستمتع
باستهلاك البضائع الأميركية؟!
أمام هذا كلّه، يصبح هذا
السؤال ملحَّاً. ولا جواب عليه إلا بمقاطعة
البضائع الأميركية.