«هذه واللهِ مريمُ
الكبرى»
قراءة في
معنى «الصدّيقة»
§
الشيخ محمّد باقر الكجوري
* الصدّيقة الكبرى: لقبٌ
شريفٌ عظيم، مدح اللهُ تبارك وتعالى به مريم عليها السلام في القرآن المجيد. قال
تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ..﴾ (المائدة:75).
ولقّب رسول الله صلّى
الله عليه وآله وسلّم فاطمة الطاهرة ب «الصدّيقة الكبرى». قال صلّى الله عليه
وآله وسلّم: «..وهي الصِّدّيقةُ الكبرى، وعلى معرفتِها دارت القرونُ الأُولى».
في هذه المقالة
المقتطفة من بعض فصول كتاب (الخصائص الفاطمية) للمحقّق الشيخ محمّد باقر الكجوري،
تأمّلات في معاني «الصدّيقة الكبرى»؛ أبرز ألقاب السيدة فاطمة الزهراء
عليها السلام.
«شعائر»
«الصدِّيق» على
وزن فعّيل من أبنية المبالغة، كما يقال: وهو كثير الصدق... وقال الطبرسيّ رحمه الله في (مجمع البيان):
«الصدّيق المداوم على التصديق - أي دائم الصدق - بما يوجبه الحقّ. وقيل: الصدّيق
الذي عادته الصدق...».
وبديهيٌّ أنّ مقام الصدق والاستقامة في القول والفعل يأتي تلو مقام
النبوّة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء:69).
وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ
هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ (الحديد:19).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مدح أمير المؤمنين عليه
السلام: «...وهذا سيّد الصدّيقين وسيّد الوصيّين».
(البحار: 26/309)
وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في غسل فاطمة الزهراء
عليها السلام: «..فإنها صِدّيقة لا يغسلها إلّا صدّيق».
(البحار: 43/206)
وإنّما مُدحت مريم ووصفت ب «الصدّيقة» لصدقها في دعواها أنّ عيسى
منها ولم يَمْسَسها بشرٌ، فَشَهِدَ اللهُ لها بالصّدق، فصارت صدّيقة لأنّ الله
صدّقها.
وسمّيت فاطمة الزهراء عليها السلام: الصدّيقة الكبرى عليها السلام،
لأنّها صدّقت بوحدانية الحقّ تعالى، ونبوّة أبيها، وإمامة بعلها، وإمامة أبنائها
المعصومين واحداً بعد واحدٍ، قبل وبعد ولادتها المباركة. ثمّ إنّها كانت - وهي في
مقتبل العمر - أوّل مَن سبق إلى التصديق بنبوّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم،
وعاشت في كنَف الرسالة، واقتدت في جميع أحوالها وأفعالها وأقوالها بمربّيها
العظيم، وأكملت منذ طفولتها ملكاتها القدسيّة النفسانيّة، وعاشت مع الصادقين
والصدّيقين، وقد وصفها أبوها - وهو أصدق القائلين وأفضل الصدّيقين - بأنّها «الصدّيقة
الكبرى» وفضّلها بذلك على مريم العذراء، وقد قال فيها: «هذه واللهِ مريم
الكبرى». (البحار: 22/484) حتّى أن عائشة بنت أبي بكر قالت مراراً على ما رواه المشاهير
والنحارير من العلماء: «ما رأيتُ أصدق منها إلاّ أباها» (البحار 43 / 53)...
وبناء على ما مرّ، فقد اتّفق المخالف والمؤالف على أنّ فاطمة
الزهراء هي الصدّيقة الكبرى قولاً وقلباً وفعلاً... قال أهل التحقيق: «إنّ التصديق
يلازمه التبعيّة في الأقوال والأفعال، كما صنع يحيى عليه السلام حين صدّق بنبوّة
عيسى عليه السلام، وتابعه متابعة كاملة من المهد إلى اللّحد».
وقال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿..فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ
مِنِّي..﴾ (إبراهيم:36). وقد صدّقت فاطمة عليها السلام بما أمر الله وبما جاء به
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم واتّبعته، ولا شكّ أنّ التابع يعدّ من المتبوع،
فهي من النبيّ والنبيّ منها لاتّحاد التابع والمتبوع المذكور في قوله تعالى ﴿..فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي..﴾، إضافة إلى جهة النسب والقرابة، والأبوّة والنبوّة،
وأمّا حديث (فاطمة منّي وأنا من فاطمة) فشرفٌ آخر وفضيلةٌ خاصّة..
مدار
الشريعة على معرفتها عليها السلام
لقد رأيتُ قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فاطمة هي
الصدّيقة الكبرى، وعلى معرفتِها دارت القرونُ الأُولى» (انظر: البحار
43/105) كثيراً في كُتب المناقب، ولكنّي لم أجد أيّ إشارة إلى ما فيه من رموز
وأسرار، ولذا ارتأيتُ أن أشير إليه في هذا المقام إشارة إجماليّة، فكيف دارت على
معرفتها القرون الأُولى مع أنّها لم تكن من زمرة الأنبياء أو الخلفاء؟!
أوّلاً: يُطلق
القرن: على كلّ ثمانين سنة، أو سبعين، أو ثلاثين، أو أهل كلّ زمان، أي مَن يعيشون
في جيلٍ واحد وفي فترة زمانيّة واحدة ويُبعث فيهم نبيّ، أو أنّه غالب عمر النّاس،
أي المعدّل الذي يعمَّر فيه الإنسان. وفي الحديث: «أُولي العزم من الرُّسل سادةُ
المرسلين والنبيّين، عليهم دارت الرّحى». (البحار: 16/357، وانظر: الشيخ الصدوق، الهداية ص22)
ثانياً: إنّ في
الحديث إشارة صريحة إلى عظمة أولئك النفر الذين دارت الأرض والسماوات على وجودهم،
كما في الحديث إشارة صريحة إلى عظمتهم لمطاعيّتهم في جميع الأملاك وسكّان الأرض
دون استثناء أحد. وقد عبّر الإمام أمير المؤمنين عن هذا المضمون بتعبير أدقّ حيث
قال: «..أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى» (نهج البلاغة، خطبة 3 : الشقشقيّة)، وإن كان المراد هنا رحى الخلافة، ولكن يكشف - أيضاً - لأنّ دوران
العالم كلّه قائمٌ بوجود خليفة الله والأنبياء من خلفاء الله أيضاً.
بناءً على ذلك، تبيّن من الحديث النبويّ السابق أنّ جميع الأنبياء
والمرسلين أَمروا أممَهم بمعرفة الصدّيقة الكبرى، وكلّفوهم عرفان المقامات
الفاطميّة، أي أنّ أحكام جميع الأمم وتكاليفهم الشرعيّة منوطة بمعرفة الزهراء عليها
السلام، قطبِ فلك الجاه والعصمة، فلو أنّ أيّ أمّة من الأمم وأيّ قرن من القرون لم
يعرفا حقيقة العصمة وتلك الذات المقدّسة، لكان أداؤهم لجميع الواجبات باطلاً غير
مقبول، بل كان عملهم كلّه هباءً منثوراً. وبعبارة واضحة: إنّ السّعادة والشقاء
لأهل كلّ زمان تدور مدار «التولّي والتبرّي» لجناب الصدّيقة الكبرى، وإنّ
دين الأنبياء جميعاً منوط بحبّها، فكيف - والحال هذه - لا تدور هذه الشريعة على
معرفتها وحبّها؟! وكيف لا تدور بوجودها المقدس رحى الإسلام والدين المبين؟!!