تفسيرٌ
لما فيه غموض
معنى «التّأويل» في القرآن الكريم
ـــــــــــــــــــــــــ
المحقّق الشيخ عبد الهادي الفضلي ـــــــــــــــــــــــــ
مرّ «التأويل»
عند المسلمين بأدوار مميّزة تركت وراءها أفاعيل بعيدة في التأثير على الذهنية
الإسلامية، وأرقاماً كبيرة ساهمت في إثراء الثقافة الإسلامية، وفي تلوين وتنويع
مفاهيمها ومعطياتها. وإلى «التأويل» يرجع الكثير من الخلافات المذهبية في
الاختلافات حول مسائل الفكر وقضايا العقيدة، ومنه ما نقرأه في مدوّنات تفسير
القرآن الكريم، وكُتب شروح الحديث الشريف.
ومن أهم أسباب هذا هو
اختلافهم في معنى «التأويل»، كظاهرة ثقافية، وكمصطلحٍ علمي. وقد وردت كلمة «تأويل»
في القرآن الكريم سبع عشرة مرة، مرادًا بها المعاني التالية:
1ـ تعبير الرؤيا (تفسير
الأحلام)
وكان هذا في آيات سبع
من سورة (يوسف)، هي:
* ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ
مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ..﴾ يوسف:6.
* ﴿..وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي
الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ..﴾ يوسف:21.
* ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ
قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي
أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا
طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن
يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ
لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ يوسف:36-37.
* ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ
بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ
لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ
الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ﴾ يوسف:43-44.
* ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا
وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ...﴾ يوسف:45.
* ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ..﴾ يوسف:101.
فكلمة (تأويل) في سياق
هذه الآيات الكريمة تعني تعبير الرؤيا، أما كلمة (الأحاديث) فالمراد بها - هنا -
الأحلام، وأُطلقت الأحاديث على الرؤى والأحلام، لأنّ النفس تحدّث بها في منامها
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ..﴾
يوسف:101.
2ـ بيان سبب إيقاع
الفعل
كما جاء في قصة موسى عليه
السلام وصاحبه، وذلك في آيتين من سورة (الكهف)، هما:
﴿..سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ
تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ الكهف:78.
﴿..ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع
عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ الكهف:82.
وهي في الموضعين تعطي
معنى واحدًا، هو بيان سبب إيقاع الفعل.
3ـ الرجوع إلى الموئل
الحقّ
جاء في سورتي (النساء)
و(الإسراء) في الآيتين التاليتين:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ
اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ النساء:59.
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ
وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ الإسراء:35.
4ـ تفسير المتشابه
كان هذا في الآية
السابعة من سورة (آل عمران): ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ آل
عمران:7.
5ـ التفسير (بيان
المعنى)
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ
يَأْتِي تَأْوِيلُهُ.. ﴾ الأعراف:53.
﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ..﴾ يونس:39.
ونحن - هنا - متى تأمّلنا
في هذه المعاني لكلمة «تأويل» التي استعملها فيها القرآن الكريم، فإنّنا
سنراها تلتقي عند صفةٍ أو حالٍ واحدة اتّصف بها كلّ واحدٍ من المعاني المذكورة،
تشكّل عنصرًا أساسيًا في دلالة كلمة «تأويل» على معناها، تلك الصفة هي «الغموض»،
وأعني بالغموض - هنا - عدم وضوح المعنى عند المتلقّي بما يفتقر معه إلى الإيضاح.
فالأحلام، لأنّها
ظواهر نفسية ترمز إلى معاني غير بيّنة عند صاحب الرؤيا، تحتاج إلى تعبيرٍ يكشف عما
ترمز إليه من معنى. وكذلك الأفعال الصادرة من الإنسان إذا كانت على غير المألوف
والمتعارف عليه بين الناس، تحتاج إلى ما يكشف عن الدوافع والأسباب لوقوعها. والأمر
في المتشابه أبيَن من أن يحتاج إلى بيان. وكذلك في تحديد المرجع الحقّ. ومثله
تفسير ما يتطلّب التفسير.
ونخلص من هذا إلى أنّ
التأويل في المصطلح القرآنيّ لا يكون إلاّ لِما فيه غموضٌ يفتقر إلى التفسير.
فالتأويل - قرآنيًا –
تفسير، ولكنْ لِما فيه غموض.
وقد ألمح إلى هذا
الفرق بين «التفسير»، و«التأويل» الشيخ حسن المصطفوي في كتابه
(التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 1/176) حين قال: «.. والفرقُ بين (التفسير) و(التأويل)
أن التفسير هو البحث عن مدلول اللّفظ وما يقتضيه التعبير أدباً والتزاماً وعقلاً،
وأمّا التأويل فهو تعيينُ مرجع اللّفظ، والمراد والمقصود منه، وقد يخفى المراد على
الناس ولا يدلّ عليه ظاهر اللّفظ، فهو يحتاج إلى الاطّلاع على المقصود والمراد من
اللّفظ ﴿..وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ..﴾..».