مفهوم النُّهوض
دور الإنسان في التَّاريخ عند الشَّهيد مُطهَّري
الشيخ محمّد حسن زراقط*
يُطلَق هذا المُصطَلح [النهضة] على التَّحوُّل الإجتماعي في مجال من المجالات المَعرِفيّة، أو الإقتصاديّة، أو الثقافيّة، أو غيرها. فيُقال نهضة ثقافيّة ونهضة إقتصاديّة وما شابه. ويُطلَق في اصطلاحٍ أكثر تحديداً وتضييقاً على عَصْر من العصور وحِقْبة من حِقَب التَّاريخ الإنساني، هو عصر النَّهضة الأوروبيّة مع ما أُلحِقَ بها
من مفاهيم ابتُكِرَت أو تَمَّ تَعويمها.
عندما نَستخدِم مُصطلح النَّهضة والنُّهوض، لا نقصد بالضَّرورة الإلتزام بهذا المُصطلَح في بيئته الداخليّة ومَعْناه القريب من المعنى اللُّغوي للنَّهضة، وإنَّما نقصد به كلّ تطوُّر إجتماعي يُصيب مجتمعنا الإسلامي. ومن هنا، يُفضِّل بعض الكُتَّاب إستخدام مُصطلح النَّهضة الحُسينيَّة بدل الثَّورة الحُسينيَّة.
وعلى أيِّ حالٍ، إذا سلَّمنا أنَّ النَّهضة هي تَطوُّر يَطرأ على الإجتماع الإنساني، فإنَّ ما يَتَرتَّب على هذه المُسلّمة التي تَقرُب من البديهيّات، هو التَّساؤل عن دَوْر الإنسان في النهضة؟ وعن القِيَم التي ينبغي أن تكون إطاراً عامّاً للنَّهضة؟
يدور جَدَل واسِع بين المُنظَِّرين حول دَوْر الإنسان في التَّغيير الإجتماعي؛ هناك مَنْ يَرى أنَّ الإنسان هو الحلقة الأَضعف في سلسلة عِلَل التَّغيُّر الإجتماعي، وما التَّغيُّر إلَّا صيرورة حتميّة خاضِعة لقوانين التَّاريخ وعوامِل الإقتصاد، وهذا ما كان يُعبَّر عنه بالمادِّيّة التَّاريخيّة في بعض صُوَرِها وتطبيقاتها؛ حيث يَعتقد الكثير من المُفكِّرين الذين يَدورون في الفَلَك الماركسي، أنَّ المُحرِّك الإجتماعي الأساس هو الِّصراع الطَبَقي، وهذا الصِّراع يؤدِّي إلى أو يَرتبط بتبدُّل وسائل الإنتاج. وما سوى ذلك فهو تَوابِع ولوازِم لهذا التَّغيير.
وفي مقابل هذه الرُّؤية، هناك مَن يرى أنَّ التحوُّل الإجتماعي لازِم من لوازِم الإختيار الإنساني وِفْق القاعدة القرآنيّة التي تُقرِّر سُنَّة من سُنَنِ الله في حركة التاريخ، وهي قوله تعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم، ومنها هذه الموارد:
1-﴿..إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم..﴾ الرعد:11.
2-﴿ذلك بأنّ الله لم يكُ مغيّراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم وأنّ الله سميع عليم﴾ الأنفال:53.
3-﴿وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً﴾ الإسراء:16.
ويُفضي التَّأمُّل في هذه الآية إلى أنَّ للهِ تعالى سُنَناً تَحكم حركة التَّاريخ وتطوُّر المجتمعات أو انحلالها.
ولكنَّ هذه السُّنّة تتألَّف من رُكنَين، أو من شرطٍ ومشروطٍ، والشَّرط في الآيات الثلاث هو أمرٌ إرادي يتعلَّق باختيار الإنسان وإرادته؛ الأمر الذي يُطلِق عليه السيِّد الشَّهيد الصَّدر المُحتوى الدَّاخلي للإنسان؛ ويقرِّر أنَّ كلّ تغيير إجتماعي هو تغيير في البناء الخارجي، مرهون بتغيير البِناء التَّحتي أو المحتوى الداخلي للإنسان.
وعندما تكون النَّهضة تغيُّراً إجتماعيّاً، فهي خاضعة لِسُنّة الله في حركة التاريخ المشروطة بالإرادة والإختيار الإنساني. ومن هنا كان لا بُدَّ من البحث عن الأجواء المحيطة بهذا الإختيار وقِيَمِه الحاكِمة له.
ماذا الآن عن قِيَم النُّهوض؟
للنُّهوض شروط وعناصر تُشكِّل بيئة متكاملة، تَضمن لهذه النَّهضة الوصول الى غاياتها المُتوخَّاة منها. ومن أهمِّ هذه القِيَم في فكر الشَّهيد مطهَّري، هي التالية:
1- الحرِّيّة.
2- العدالة الإجتماعيّة.
3- الإستقلال.
الحريّة
هذه القِيَم الثَّلاث مُترابطة إلى حَدٍّ يَصعب على المرء ترتيبها ودعوى أنَّ أحدها مُقَدَّم على الآخر. فإنَّ الحريّة قد تبدو لِأوَّل وَهلة على رأس قائمة القِيَم المطلوبة لتحقيق النَّهضة، ولذلك كانت مِحْوَر إهتمام الأديان السماويّة جميعاً، وبخاصّة الإسلام حيثُ حَدَّد هدف الدعوة الإسلاميّة بـ «إخراج النَّاس من عبادة العِباد إلى عبادة ربِّ العِباد». وعندما يَخرجُ المَرْء من عبادة العَبْد المحدود لِيكون عبداً للمُطلَق الذي لا يحِدّه حدّ، يكون قد وَصَل إلى أقصى درجات التَّحرُّر والإنعتاق، وتتأصَّل حريَّته كلّما زاد غَوْصاً في لُجَّة العبوديّة لِلمُطلَق. وقد بُنِيَ الدِّين بِنَظر مطهَّري على الحريّة وفق قاعدة: ﴿لا إكراهَ في الدِّين﴾.
إنَّها حرِّيَّة مسؤولة: وذلك أنَّ الحرِّيّة ليست قيمة مُطلَقة، وإنَّما هي إطار. فالحرِّيّة لا يُمكن أن تكون مُطلَقة من كلِّ قَيْدٍ في أيِّ مذهَبٍ من المذاهب أو تيَّار فكري من التيّارات؛ وإذا كان لا بُدَّ من تقييدها، فلتُقَيَّد بما يُناسب مَوْقِع الإنسان في هذا الكَوْن، والقَيْد هو أن يكون الإنسان حُرّاً في التَّفكير للوصول إلى الحقِّ وِفْق قواعِد الفِكْر والمنطِق الَّسليم.
الحرِّيّة تكليف ومسؤوليّة: ليست الحرِّيّة عند مطهَّري مِنحة تُقدَّم للإنسان وتُهدَى له، إنْ شاء قَبِلَها وتَمَتَّع بها، وإنْ شاء رفَضَها. بل الحرِّيّة مسؤوليّة وتكليف يَنبع من داخل الإنسان ليدعوه إلى كَسْر ما يُكبِّل يديه وفكره من قيود. وربّما لأجل هذا التصوُّر، تَمَّت المُفاضلة بين دعوتين للتَّحرُّر والتَّحرير، الأولى منهما تقول: «لا تَكُن عبد غيرك وقد خَلَقَك الله حرّاً»، والثانية تقول: «متى استَعبدْتُم النّاس وقد ولدَتهم أمَّهاتهم أحراراً»، وتمَّ تفضيل الأولى من هاتَين الدَّعوتين لأنَّها تتوجَّه إلى مُتعلّق الحرِّيَّة فتدعوه إلى التَّحرُّر والجهاد، لِنَيل حرِّيَّته التي هي مِنْحة إلهيّة يجب أن يحافظ عليها أو يستردها إنْ صُودِرَت واستُلِبَت.
العدالة الإجتماعيّة
هذا التَّقديم للحرِّيّة يبدو منه أولويّة الحرِّيَّة وتقدُّمها على غيرها من القِيَم المطروحة للبحث والنِّقاش، ولكن في المقابل هناك تساؤل يَصعب الفرار من مقتضياته، هو: أيُّ معنى وفائدة تُرتَجى من الحرِّيَّة عندما تَنعدم العدالة ولا تَتَساوى الفُرَص؟ وعندما تَتَحوَّل الدَّولة التي يجب أن تكون حارساً ومُنظِّماً للحراك الإجتماعي إلى دولة إثْرَة؟
عندها تكون الحرِّيّة شكلاً، وحرِّيّة قَوْلٍ يفقد أيّ فاعليّة أو قدرة على التَّأثير والفعل، وبالتّالي يكون من حقِّ الإنسان أن يقول ما يُريد ويرفع الصَّوت عالياً ويَحْتَجّ ويَعترض ولكنّه لا يستطيع ترجمة هذه الأقوال إلى أفعال. وفي واقع الحال، تكون هذه الحرِّيّة إطلاقاً لحرِّيّة اللّسان في الحركة والتَّعبير عن الفِكْر، وكَسْراً لِكُلِّ القُيود الظَّاهرة التي يُمكن أن يُدان صاحبها، واستبدالها بِقُيودٍ خَفِيَّة أَقبح وأَشدِّ لؤماً وخُبثاً. وربَّما كانت الحرِّيّة المُعطاة إلى كثير من الشُّعوب هي حرِّيَّة من هذا النَّوع في عصرنا هذا.
الإستقلال
المقصود هنا الإستقلال الوطني بِمعناه السِّياسي والإقتصادي والفِكري، وهذا الأخير يَحوز الدَّرجة الأعلى من الأهمِّية في نَظَر مطهَّري المَسكون بِهَمَّيْن؛ هَمّ الإصلاح والتَّجديد، وهَمّ الحفاظ على الهويّة والأصالة.
ومن هنا كان المُواجِه الأوَّل لِما يُعرَف في إيران بالإلتقاط، فيَرى مُطهَّري أنَّ الثَّقافة لا يُمكن أن تُستَورَد من الخارج، الثَّقافة والفِكر يَنبعان من الدَّاخل ويتمُّ تطويرهما وإصلاحهما. وقد يَحقُّ لأحد أن يتأثَّر بالغرب أو بالشَّرق، ويَختار فِكره فكراً له، ويَتقمَّص ثقافته ثقافةً له. ولكنَّ الخطر الذي لا يَرضى مُطهَّري بالرُّضوخ له والإستسلام له، هو أن نَستورِد فكرة من الخارج، ثمَّ نعمل على تَهجينها وتَدْجينها، وادّعاء أنَّها فكرة داخليّة. ربَّما يكون من حقِّ أيٍّ كان أن يَعتنق الماركسيّة مثلاً، ولكن ليس من حقِّه أن يُفسِّر الإسلام تفسيراً ماركسيّاً، وعلى الماركسيّة تُقاس غيرها من التيَّارات والمذاهِب.
______________
* أستاذ في الحوزة العلميّة - لبنان