صاحب «قوانين الأصول»
الميرزا أبو القاسم القمّي
___________ إعداد: سليمان بيضون __________
* من علماء الفقه الكبار في القرن
الثالث عشر الهجري، تصدّى للمرجعية الدينية في زمن حكومة «فتح علي شاه».
* عُرف بـ«المحقّق» لكثرة
تحقيقاته، وكمال قُدرته على التصرُّف بأدوات الاستنباط في الأُصول والفروع.
* له تبحّرٌ
في الحديث، والرجال، والتاريخ، والحكمة، والكلام، مع ورع واجتهاد وسداد وتقوى
واحتياط.
* كثير
الخشوع، غزير الدموع، طيّب المعاشرة، لطيف المحاورة.
* يُعَدّ حلقة
الوصل بين تأسيس حوزة قم، وبين تجديد حياتها على يد الفقيه الشيخ عبد الكريم
الحائري.
أعدّت هذه الترجمة –بتصرّف- استناداً إلى ما في مقدّمة كتاب (غنائم الأيام) ومصادر أخرى.
|
هو الميرزا
أبو القاسم بن محمّد حسن بن نظر عليّ، الشَّفتي الأصل، الجابلاقي المولد، كانت ولادته
عام 1151 هجرية. والده من العلماء، ووالدته ابنة الميرزا
هداية الله من علماء أصفهان.
تميّز منذ
طفولته بقابليات متعدّدة حيث تفوّق على أقرانه في ذكائه وفطنته وفهمه وإدراكه،
وكان منذ نعومة أظفاره شغوفاً بطلب العلم ناشداً للكمال، فبدأ بتلقّي مبادئ العلوم
عن والده، حتّى إذا أصبح في سنّ البلوغ إذا به يطلب من أبيه أن يسمح له بالسفر إلى
«خونسار» للتّتلمذ على
يد عالمِها السيد حسين الخونساري، فدرس عنده الفقه والأُصول سنين عدّة، وكان السيد
حسين من أعاظم الفقهاء في ذلك العصر، ومن مشايخ الإجازة،
وله رسالة في علم الرجال، فأجازه، وتزوّج الميرزا بشقيقة أستاذه لشدّة الثقة التي كانت بينهما.
وتمرّ الأعوام
ويشعر الميرزا أبو القاسم بأنّ خونسار لم تعد تروي ظمأه للعلم، ولم تعد تُطفي تعطّشه
إلى المزيد من المعرفة، فيقرّر الهجرة إلى العراق، فيودّع أستاذه
الخونساري، ويشدّ الرحال إلى كربلاء، وفيها يلتحق بدرس الأستاذ الأكبر السيد محمد
باقر المعروف بالوحيد البهبهاني، وما يلبث أن يحصل منه على إجازة في الاجتهاد
والرواية عنه.
وخلال إقامة الميرزا في
العراق درس على يد عدّة من الشخصيات العلمية الأخرى؛ كالسيّد محمّد باقر
المازندراني، والشيخ محمد مهدي الفتوني العاملي.
العودة إلى
إيران
بعد أن أخذ الميرزا
القمّي قسطاً وافياً من العلوم، وبلغ مرتبة عالية في أنواع الفنون عاد إلى إيران وإلى
موطن أبيه (درّ باغ) التي هي قرية من قرى جابلاق.
ولكن لمّا
كانت هذه القرية صغيرة وأسباب المعاش فيها محدودة، انتقل منها إلى قرية (قلعة بابو)، ولم يكن أهل
تلك القرية يعرفون قدْره، بل إنّهم استخفّوا به. ولم يكن يحضر
درسه فيها سوى طالبين يدرّسهما النحو والمنطق.
ويُذكر أنّه
كان في تلك القرية معلّم قرويّ ثَقُل عليه وجود الميرزا القمّي، فأراد الاستخفاف
به، فجمع أهل القرية وطلبوا حضور الميرزا، فقال هذا المعلّم لأهل القرية: اطلبوا من
الميرزا أن يكتب «حيّة»، فكلَّموه في ذلك، فكتب الميرزا «حيّة»، ورسم ذلك المعلّم
صورة «حيّة» ثم عرض الخطّين على أهل القرية وقال لهم: انظروا
أيّهما الحيّة، ما كتبتُ أنا أو ما كتب الميرزا؟ ولمّا كان أهل القرية أُمّيّين لا
يعرفون الكتابة رجّحوا ما رسمه المعلّم، فتأثّر الميرزا من ذلك، ولم تعد له طاقة
على البقاء، وشعر بأنّه يختنق في ذلك الجوّ المشحون بالجهل والدسائس، فعزم على
السفر إلى أصفهان.
وفي أصفهان
أقام مدّة مشتغلاً بالتدريس، وسرعان ما التفّ حوله التلاميذ وطلبة العلم، فراح
يفيض عليهم من ذخائر علمه، ولكنّ الأمور لم تَسِر على ما يرام، حيث أطلق
حاسدوه الإشاعات التي تنال من منزلته وعلوّ مقامه، فرأى من الصلاح أن يغادرها نحو
شيراز، فتكرّر الأمر نفسه من إلحاق الأذى به نتيجة بروزه العلمي
واستقطابه للطلبة، فبقي هناك سنتين أو ثلاثاً، ثمّ رجع إلى قرية قلعة بابو، فاشتغل عليه بعض الطلاب في الفقه
والأُصول.
إلى قم
في تلك
الأثناء قدّر الله تعالى أن يهيّئ للميرزا أبي القاسم ما يُظهر مواهبه ويجازيه على
إخلاصه وصبره، فاتُّفق أن طلب منه أهل قم الإقامة في بلدهم، فأجابهم إلى ذلك، وهناك عرف
الناس قدره، فدرّس بها وألَّف كثيراً من كتبه، حتّى أصبح من كبار
المحقّقين وأفاضل المؤسّسين، وأعاظم الفقهاء المتبحّرين، واشتُهر أمره، وطارَ
ذِكره، ولقّب بالمحقّق القمي، فتوجّهت الناس إليه، وكثُر الإقبال عليه، ورُجع إليه
بالتقليد، فنهض بأعباء الزعامة الدينية. ولم تكن لمدينة قم الصغيرة أهمّيتها في تلك
الأيّام، ولكنّ شهرة الميرزا أبي القاسم دفعت بالكثير من أهل الفضل والعلم لأن يحجّوا
إليها، وينهلوا من علم المرجع الكبير، ومنذ ذلك الوقت سطع نجم المدينة في سماء
العلوم الإسلامية، وتحولّت قم إلى مركز إشعاع راح يخطف الأبصار، وما لبثت أن أصبحت
عاصمة للعلم، ولذا يعد الميرزا القمّي المؤسّس الحقيقي للحوزة العلمية في قم، التي
ما لبثت بعد جهوده المتضافرة والحثيثة أن تحتلّ مرتبة الصدارة إلى يومنا هذا.
مواقفه مع
الحاكم
كان ورود
الميرزا أبو القاسم إلى قم أيّام السلطان فتحعلي شاه القاجار، وكان السلطان كثير العناية
به، وكان يعظَّمه أشدّ تعظيم، ويُجلَّه أكبر إجلال، ويبدو من جميع ما نُقل من سيرة
الميرزا أنّه كان يأخذ جانب الحذر والاحتياط في التعامل مع النظام والسلطان، وما
زال يبتعد عنه، ويتخوّف من الخوض في دنياهم.
وكان فيما قال
له في بعض المرّات: اعدل أيّها السلطان ولا تظلم لأنّي أتخوّف -ومن جرّاء
محبّتي لك ومع الالتفات إلى قوله تعالى: ﴿ولا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ أن أستحقّ عذاب النار وغضب الجبار. فأجابه
السلطان: إنّه مع الأخذ بنظر الاعتبار ما ورد في الروايات من «أنّ من أحبّ
حجَراً حشره الله معه يوم القيامة» فإنّي أرجو ومن جرّاء محبّتي إيّاك أن أحشر
معك.
وروي أنّ
الميرزا أمسك يوماً بلحية السلطان وقال له: احذر أن تعمل
ما يؤدّي إلى أن تحرق لحيتك هذه يوم القيامة بنار جهنم.
كراماته
إنّ كرامات
الميرزا القمّي كثيرة ومشهورة، وقبره في قم يزوره العموم ويتبرّكون به، وخصوصاً
أرباب الحوائج، ومعروف أنّ الدعاء عند قبره والتوسّل به من أجل الظفَر بالحوائج
وأداء الديون وغيرها مستجاب ومجرّب وذائع. ومن الكرامات
العجيبة المنقولة عنه: أنّه وُجِد شيخ من أهل قزوين معتكفاً عند قبر الميرزا
ويقرأ القرآن ويبكي، فلمّا سُئل عن ذلك قال: إنّي متأثّر
لأنّي ما عرفت قدر الميرزا القمّي ومنزلته إلّا متأخّراً، وسرعان ما فقدته، فإنّي
خرجت حاجّاً قبل وفاة الميرزا بعام، وقد سافرت بحراً، فاتّفق أن رآني شخص وأنا
أعدّ أموالي وأرتّبها في الحقيبة التي في محزمي، وبعد ساعة ارتفعت
الأصوات والضجيج في السفينة، فإذا بالرجل يدّعي أنّه فقد محفظته ويعطي أوصاف
محفظتي ويطلب من ربّان السفينة أن يفتّش المسافرين، فقرّر الربّان أنّه إذا وجدها
عند أحد ولأجل مجازاته أن يلقيه في البحر، وبدأ بالتفتيش، فلم أجد بُدّاً ومن أجل
حفظ نفسي من أن ألقي تلك المحفظة في البحر، فأخذتها، وقلت: يا أمير
المؤمنين، أنت أمين الله في أرضه خذ محفظتي. وألقيتها في
البحر.
وبعد تفتيش
المسافرين جميعاً، التفت الربّان إلى ذلك المدّعي وقال له: ليس هناك ما
تدّعي وتقول وقد فتّشنا جميع السفينة، فلماذا تتّهم الحجّاج، فتلكَّأ لسانه،
وتغيّر لونه، وعرفوا أنّه كاذب وشرّير وسارق، فأخذوه وألقوه في البحر.
وعلى أثر ذلك
واجهتُ المصاعب الكثيرة في سفري، وأتممت الحجّ بشقّ الأنفس. وجئنا إلى
العراق ودخلنا النجف الأشرف، فجئتُ إلى حرم أمير المؤمنين عليه السلام، وقلت له: أعطني أمانتي
التي أودعتُكها في البحر، وأنا شديد الاحتياج إليها. فلمّا نمتُ
تلك الليلة رأيته عليه السلام في المنام وقال لي: اذهب إلى قم
وخذ محفظتك من الميرزا أبي القاسم القمّي في قم، فلمّا استيقظت وفكَّرت فيما رأيت
وسمعت تعجّبت أنّه كيف يكون ما ألقيته في بحر عُمان عند الميرزا القمّي، ومن هو
الميرزا القمي؟! فجئت إلى الحرم الشريف وكرّرت المسألة ورأيت في ليلتها
ما رأيت في الليلة السابقة، وكذا في الليلة الثالثة، ولكن قلت له عليه السلام فيها: إنّي وبشِقّ
الأنفس وصلت إلى النجف، فكيف أصل إلى قم؟ فقال عليه السلام: اذهب إلى
السوق الفلاني، واستلم من الصرّاف الفلاني عشرين ليرة.
فلمّا استيقظت
ذهبت إلى ذلك السوق ووصلت إلى الصرّاف، ولكن كنت شاكّاً في أنّه سيعطيني، فوقفتُ
أمام محلَّه مدّة، فالتفت إليّ وناداني وقال لي: عندك حاجة؟
قلت: نعم، لي
حوالة شفاهيّة، قال: كم قدرها؟ قلت: عشرون ليرة،
قال: صحيح، هل أنت
من أهل قزوين؟ قلت: نعم، فأعطاني العشرين ليرة، فسافرت بها إلى قم.
فلمّا دخلتُها
سألت عن الميرزا القمّي فدلَّوني عليه، فجئته وكان مشغولًا بالتدريس، فلمّا انتهى
الدرس طلبني وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، وذكرتُ
له ما جرى من أوّله إلى أخره، فقال: الآن آتيك بها، فنهض فأخرجها من بين كتبه
وأعطاني إيّاها وقال لي: عدّ أموالك هل فيها نقص؟ فأخذتها
وفتحتها فوجدتها وكما رتّبتها في السفينة، فقبّلت يده وخرجت من عنده.
وجئت إلى
قزوين، فقصصتُ القصّة على زوجتي وهي لا تصدّق، فأقسمتُ لها، وبعد أن أيقنتْ قالت: يا مسكين
لماذا جئتَ إلى قزوين ولم تبقَ في خدمته وتستفيد من معنويّته، خذنا إلى قم هذه
الساعة، وكن في خدمته، فقررتُ الانتقال إلى قم على أثر ذلك، فبِعتُ ما عندي في
قزوين وجئت إلى قم، وحينما دخلنا قمّاً كانت وكأنّها يوم عاشوراء، غارقة في الحزن
والعزاء، فلمّا سألت عن ذلك قيل لي: إنّ الميرزا توفّي، فعهدت على نفسي أن لا
افارق قبره ما دُمت حيّاً.
مصنّفاته
كتب الميرزا
القمّي في حقول عديدة من العلوم الإسلامية، بما في ذلك الفقه، والأصول، والكلام،
وعلم البديع، ومعاني البيان، وغير ذلك، وقد أبدع في ذلك كلّه وأجاد، ما يدلّ على
نبوغه وسعة معارفه، فمن آثاره التي أتحف بها المكتبة والتراث الإسلاميّين:
- (قوانين الأصول)، وهو أشهر ما
كتب الميرزا وصنّفه، وقد نال الكتاب شهرة واسعة بسبب ما ورد فيه من أفكار مبتكرة،
وقد كُتبت حوله الحواشي حتى بلغت سبعة وأربعين حاشية.
- حاشية على (قوانين الأصول)، وهو يتضمّن إجاباته
على بعض الإشكالات التي وردت على كتابه (قوانين الأصول).
- (غنائم الأيّام
فيما يتعلّق بالحلال والحرام)، يشتمل على بحوث في الفقه الاستدلالي.
- (مرشد العوامّ)، رسالته العملية لمقلّديه.
- ديوان شعري،
يضمّ خمسة آلاف بيت بالعربية والفارسية.
وفاته ومدفنه
المشهور أنّ وفاة
الميرزا القمّي كانت عام 1231 هجريّة بعد أن بلغ الثمانين من عمره المبارك،
وقيل: إنّ يوم وفاته كان على قم كيوم عاشوراء، من الحزن،
والسواد، والعزاء، وقد دُفن في المقبرة الكبيرة في بلدة قم الطيّبة، ومرقده
يُزار ويتبرّك به، ويقصده أرباب الحوائج، ويسمّى بمقبرة «شيخان»، ويراد بكلمة
«شيخان» الشيخ ابن
بابويه، والشيخ الميرزا القمي.
أقوال العلماء
فيه
قال السيد حسن
الصدر في (تكملة أمل الآمل): «هو أحد أركان
الدين، والعلماء الربّانيين، والأفاضل المحقّقين، وكبار المؤسّسين، وخلف السلف الصالحين؛
كان من بُحور العلم، وأعلام الفقهاء ".." هذا مع ورع
واجتهاد وسداد وتقوى واحتياط..».
وقال المحدّث
النوري في (خاتمة المستدرك): «..وكان مؤيّداً
مسدّداً، كيّساً في دينه، فَطِناً في أُمور آخرته، شديداً في ذات اللَّه، مجانباً
لهواه، مع ما كان عليه من الرئاسة، وخضوع ملك عصره وأعوانه له».
وقال السيد
الخونساري في (روضات الجنّات): «كان رحمه الله محقّقاً في الأُصول
والعربيّة، مدقّقاً في المسائل النظريّة، مؤيّداً من عند الله من بَدوِ أمره إلى
النهاية، منتهياً إليه رئاسة الإماميّة بأجود العناية، وأحسن الكفاية، وشأنه أجلّ
من أن يوصف بالبيان والتقرير..».