95 عاماً على فاجعة البقيع
يومَ حاول آل سعود هدم القبّة النبويّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثامن
من شوال سنة 1344 هجرية، هو التاريخ الأشد فظاعة في سلسلة جرائم الوهابية السعودية
التي بدأت سنة 1801 ميلادية بغارتهم الوحشية على مدينة كربلاء، وتخريب جانبٍ من
مقام ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وما تزال مستمرة إلى يومنا هذا
باستباحتهم دماء الأبرياء في اليمن وسوريا والعراق وليبيا ومصر، وحيثما وُجد مَن
يشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيّه صلّى الله عليه وآله بالرسالة.
وبين
التاريخين، فظائع يندى لها الجبين، منها التدمير الأول للمزارات الإسلامية وأضرحة
آل بيت رسول الله في مكة والمدينة عامَي 1802 و1805، تبعها طردُ الوهابيين من
الحرمين لأكثر من 125 عاماً عقب هزيمتهم أمام العثمانيين، إلى أن مكّن لهم
الاحتلال البريطاني إعادة احتلال الحجاز، فأعادوا الكرّة بتدمير المقابر والمزارات
والمساجد في أرجاء الجزيرة، لا سيما هدمهم قبور الهاشميين في مقبرة المعلّا بمكة،
وقباب أربعة من أئمة أهل البيت النبويّ في البقيع، يوم 8 شوال 1344 هجرية، الموافق
21 نيسان 1925م.
يتناول
هذا التحقيق المستقى من عدة مصادر، جانباً من ردود فعل المسلمين في حينه على
الجريمة الوهابية، مساهَمةً منّا في مسعى تحويل تاريخ الثامن من شوال يومَ حدادٍ
إسلاميٍّ عامّ وشامل، وهو الأمر الذي أكدته المرجعية الدينية في النجف الأشرف وقمّ
المقدسة منذ ذلك التاريخ.
يعدّ استيلاء السعوديين الوهابيين
على الحجاز عقب الحرب العالمية الأولى، بمساعدة ودعم سياسي ومادّي من الاحتلال
البريطاني، نقطة تحول خطيرة في تاريخ الجزيرة العربية، وصفحة سوداء من صفحات تاريخ
الأمة الإسلامية، لمّا تُطوَ بعد، لا سيما وأنه استيلاءٌ بالقهر والغلبة، معمّدٌ
بدماء الأبرياء وهتْك الحرمات، ونسْف كلّ أثر يمتّ بِصلة إلى صدر الإسلام الأول.
استهلّ آل سعود غاراتهم بالهجوم
على مدينة الطائف بصورة مروّعة، كان الهدف منها إجبار الشريف حسين على التنحّي عن
الملك ومغادرة مكّة المكرّمة. ومن الذين وصفوا الغارات السعودية في تلك الحقبة،
العلامة السيد محسن الأمين في كتابه القيّم: (كشف الارتياب في أتباع ابن عبد
الوهاب)، حيث يقول: «في أوائل عام 1343هـ - 1924م هاجم السعوديون الحجاز وحاصروا
الطائف... ثم دخلوها عنوة وأعملوا في أهلها السيف، فقتلوا الرجال والنساء والأطفال،
حتى قتلوا منها ما يقرب من ألفين بينهم العلماء والصلحاء، وأعملوا فيها النهب..
وعملوا فيها من الفظائع ما تقشعرّ له الأبدان وتنفطر القلوب؛ نظير ما عملوه في
المرة الأولى كما سبق...وممّن قتلوا من المعروفين الشيخ عبد الله الزواوي مفتي
الشافعية بصورة فظيعة، وقتلوا جملة من سدنة الكعبة المشرفة كانوا مصطافين في
الطائف».
كذلك يصف أمين الريحاني في كتابه
(نجد وملحقاته) مجزرة الطائف، فيقول: «..كانت ساعة الهول والفجائع، راح العربان
والأخوان يطرقون الأبواب ويكسرونها، فيدخلون البيوت ثم يُعملون فيها أيدي السلب،
وكانوا يقتلون في سبيل السلب..».
وفي كتاب (صقر الجزيرة) لأحمد
العطار: «وفي اليوم التالي أُخرج أهالي الطائف رجالاً ونساءً وشيوخاً من المدينة
وسيقوا إلى حديقة شبرا، وحُبسوا هناك ثلاثة أيام، وكانت النساء سافرات لأول مرة مع
الرجال. ومكثوا أياماً بدون طعام أو ماء».
بعد سقوط الطائف، دخلت الجيوش
السعودية مكة المكرّمة، وحاصرت جدة والمدينة المنوّرة، إلى أن سقطتا بعد عام من
الحصار.
ويذكر المستعرب جون فيليبي مستشار
ابن سعود للشؤون الخارجية في كتابه (الربع الخالي) أنه: «لم يتعرّض أحد لسكّان مكّة
أنفسهم. لكن القبب المشادة فوق قبور مقبرة المعلّا قد هدمت، ونُهبت ممتلكات بعض الأشراف».
أما
في المدينة المنوّرة، فقد مُنعت زيارة جميع المراقد المطهّرة، وأُغلقت أبوابها، ورصدت
العساكر الوهابية الحرم النبويّ المطهّر ومنعت الزائرين من التوجّه إليه.
وفي
يوم الثامن من شوال سنة 1344 صدر الأمر بهدم المراقد الشريفة وتخريبها، فشرع الجند
أولاً بنهب جميع ما تحتويه تلك البنايات المقدّسة في البقيع من الفرش والستائر
والمعلّقات والسرج وغير ذلك، ثمّ بدأوا يخرِّبون تلك المشاهد ، وفرضوا على جميع
بنّائي المدينة الاشتراك في التخريب والتهديم.
ردود
فعل العالم الإسلامي
المجازر التي ارتكبها آل سعود بحق
المسلمين في الجزيرة العربية والأعمال الشنيعة التي قاموا بها بعثت الأسى والحزن
في نفوس المسلمين، واعتبروا يوم الثامن من شوال يوماً أسود، وسمّوه «يوم الحزن»
لأنه يوم تدمير الأماكن المقدسة في الحجاز.
لقد اهتزّ الرأي العام العربي
والإسلامي مباشرة لوقوع هذه الجريمة الشنعاء، فعُطّلت في كلّ من قم والنجف وكربلاء
الدروس في الحوزات العلمية، وأقيمت شعائر الحزن، وخرجت المسيرات المنددة، ومنعت الحكومتان
الإيرانية والعراقية رعاياهما من السفر إلى الحجاز، حرصاً على سلامتهم. كذلك فعلت
الحكومة المصرية التي قاطعت السفر للحج، وعممت بلاغاً عاماً سنة 1345 نشرته صحيفة
البرق.
وأبرق الملك المصري فؤاد الأول
إلى ابن سعود رسالة طلب
فيها «باسم مسلمي مصر بألّا تُطلق قنابل المدافع على قبر النبيّ في المدينة
المنوّرة، وأن تُذَاع الحقيقة عن الهجوم على المدينة تسكيناً لخواطر العالم
الإسلاميّ».
وفي الهند أصدرت «حركة الخلافة»
تقريراً مطولاً جاء فيه: «أُبلغنا من مصادر موثوقة أن الوهابيين بدأوا بالهجوم على
المدينة المنوّرة، وقد أُلحقت أضرار بالغة بقبّة الرسول، كما أن مسجد سيدنا حمزة دُمّر
بشكل نهائي...ودُمّرت في مكة قبب جنة المعلّا - أي مقبرة المعلّا - والبيتُ الذي وُلد
فيه رسول الله سُوّي بالأرض...».
وفي مطلع العام 1926 وصل إلى جدة وفد
إسلامي من الهند يمثّل «جمعية خدام الحرمين» فيها، ومعه ستّون ألف روبية لمساعدة
ضحايا الجور الذي حصل في المدينة، وكان موقف هذا الوفد متصلّباً وصريحاً في عدائه
للسعوديين، ووجّهوا إلى ابن سعود 89 سؤالاً وطالبوه بالإجابة عنها خطياً. الأمر
الذي دفعه إلى إخراجهم من البلاد في أول سفينة أبحرت من الساحل الحجازي إلى السويس
في اليوم الأول من شهر آذار. وكانت انتقاداتهم تتركز في الغالب حول رضوخ ابن سعود
للنفوذ البريطاني كما يُستنتج من اتفاقيتي جدّة وبحرة، واللتين طلبوا الاطلاع على
نصهما الأصلي الموقّع؛ لأنهم كانوا يشكّكون بوجود فقرات سرية فيهما. مضافاً إلى أنهم
أبدوا استياءاً عظيماً من الفظائع التي حصلت في الطائف والمدينة وسائر الأماكن،
وطلبوا تقديم تفسير لذلك، وانتقدوا بشدة إقدام ابن سعود على مراوغة الرأي العام الإسلامي.
وجاء في كتاب (تاريخ آل سعود) أن
عدداً من شباب الحجاز خرجوا إلى القاهرة والأردن وسوريا وبدأوا بالاتصال بالهيئات
الدينية العالمية، وبدأت هذه الهيئات بممارسة ضغوطها على ابن سعود معتبرين «الحجاز
لكلّ المسلمين، ولا يحقّ لدولة مستبدّة مِلكية الحجاز منفردة..».
احتجاجات
إسلامية
كانت ردود الفعل قوية نسبيّاً،
فخشي عبد العزيز على حكمه وعمد إلى الترويج لفكرة أنه لم يحتلّ بلاد الحرمين ليحكمها،
وإنما لتكون تحت سيطرة إسلامية، فدعى لأجل ذلك إلى عقد مؤتمر إسلامي في الحجاز
تحضره كبار الشخصيات الإسلامية. انعقد المؤتمر في شهر تموز من العام 1926م، وحضرته
عدة وفود من الهند والبلدان العربية بينها سوريا ولبنان وفلسطين التي ترأس وفدها
الحاج أمين الحسيني. والحقّ أن الغرض من هذا المؤتمر كان الالتفاف على الدعوات
التي بدأت تتصاعد في أرجاء العالم الإسلامي مطالبةً بإدارة إسلامية للأماكن
المقدسة، وباستمرار الخلافة الإسلامية ومبايعة خليفة جديد للمسلمين، بعد إعلان
كمال أتاتورك، سنة 1924م، إلغاء الخلافة الإسلامية وتأسيس حكومة علمانية في تركيا.
على الرغم من ذلك تمكّن بعض
المشاركين من تسجيل مواقف احتجاج صارخة على السياسات السعودية الوهابية، فقد انبرى
رئيس «البعثة الإسلامية الهندية» إلى المؤتمر شوكت علي، وألقى «كلمةً نيابةً عن
المسلمين في الهند» جاء فيها: «ليس بوسعي الموافقة على الضرائب التي يفرضها
السعوديون على الحجّاج الذين يحضرون لأداء فريضة الحج... وليس بوسعي ان أُبيح أن
تكون الحجاز تحت سيطرة مَلَكية مهما كان نوعها... لست مستعداً لمنح هذه الحكومية
السعودية غير المشروعة شهادة حسن سيرة وسلوك لما رأيناه بأعيننا..».
كذلك ألقى رئيس البعثة المصرية الشيخ
عبد الظاهر أبو السمح كلمة ارتجالية قال فيها: «سأتكلّم بصراحة وأرجو أن لا يتألم
أحدٌ منكم. قال القائلون إن السعوديين يكفّرونكم وكنّا نشكّ في بعض ما يقال، ولقد
رأيت بنفسي أمراً آلمني ، فقد كنتُ في الحرم أمرُّ خلف المقام بعد الطواف فشاهدت
جماعة متحلّقين حول شخص مصري ويقولون له بعنف شديد وقسوة: أأنتَ قلتَ يا رسول
الله؟!. هنا خاف الشخص في نفسه وأنكر أنه قال يا رسول الله. وانكمش وذعر إلى درجة أفاضت
عيني من الدمع. وقد جاءني بعد ذلك ومعه كثيرٌ من المصريين يقولون لي: أرأيتَ كيف يُنكرون
علينا قولنا يا رسول الله؟!».
بموازاة ذلك، لم تبقَ مؤسسة تهتم
بشؤون المسلمين إلا أبدت اعتراضها على ما قامت به الحكومة السعودية. بعضها كان يصل
إلى الحاكم السعودي وبعضها يصل إلى الحكومة البريطانية باعتبارها الدولة المستعمرة
والمسيّرة للحكم السعودي، وهنا نماذج من هذه الرسائل من مقتنيات مركز الوثائق
البريطانية.
جاء في رسالة المحامي مصطفى رضى
السكرتير العام الفخري لمؤتمر عموم الهند الشيعي بتاريخ أول نيسان 1930، إلى
الحاكم البريطاني العام على الهند البارون أيروين يحتجّ فيها على «احتلال آل سعود
للأماكن المقدسة.. وتدنيس قبور الأولياء والقباب المقدسة وهدمها، وإنزال العقاب
بمن يؤدي الشعائر الدينية».
وفي العام نفسه، نظّم المسلمون الشيعة اجتماعاً
عامّاً في حيدرآباد، وأدانوا ابن سعود، كما طالبوا سلطات الاحتلال البريطاني الضغط
عليه للسماح لهم ببناء الأضرحة والمقامات المقدسة التي هدمت.
وفي 16 تموز 1931 بعث السكرتير
الأول ورئيس وزراء حكومة البنغال رسالة إلى وزير خارجية الهند، يطلب وساطته مع «حكومة ابن سعود ليصلح ما سبّبه من خسائر للعالم
الإسلامي بتدنيسه المقدّسات، وأن يعيد الأضرحة المقدّسة إلى حالتها الأصلية، هذا
الإصلاح الذي لن تسكن مشاعر المسلمين ولن يرتاح ضميرهم إلا اذا تحقّق»، كما ورد في
نصّ الرسالة.
***
بصمة
الظلام الوهابية
لقد
تعمّد آل سعود تدمير معظم تراث النبيّ صلّى الله عليه وآله والصحابة والمسلمين في
الأماكن المقدّسة.. ولو خضنا في البحث عمّا دمّروه من آثار إسلاميّة دينيّة
تاريخيّة في الجزيرة العربيّة لعجزنا عن إحصائها.
وحالما
دخل جند الاحتلال السعوديّ مكّة المكرّمة، اتّجهوا لتدمير كلّ ما هو ورق… وكلّ ما
هو كُتُب، وكلّ ما هو وثائق وصُوَر، وكلّ ما هو تاريخيّ… من ذلك على سبيل المثال
ما ارتكبوه «بالمكتبة العربية» التاريخية العلمية التي أحرقوها، وهي التي تُعدّ من
أثمن المكتبات في العالم قيمةً تاريخية، إذ لا تقدّر بثمنٍ أبداً، لقد كان بهذه
المكتبة ستّون ألف كتاب من الكتب النادرة الوجود، وفيها أربعون ألف مخطوطة نادرة
الوجود من مخطوطات «جاهليّة» خُطّت كمعاهدات بين طغاة قريش واليهود، تكشف الغدر
اليهوديّ وعدم ارتباط اليهود بالدين والوطن من قديم الزمان، وتكشف مؤامرات اليهود
على النبيّ صلّى الله عليه وآله.
وفي
هذه المكتبة وغيرها من مكتبات المدينة التي أحرقها ودمّرها آل سعود بعض المخطوطات
التي كُتبت بخطّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، وبخطّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه
السلام، وعددٍ من الصحابة، كما أحرقوا كلّ الوثائق التي تهتمّ بالأشراف الذين هم
من سلالة الرسول الكريم. لقد أراد آل سعود بذلك ألا يبقى أيّ أثر يذكر تاريخنا،
وألا يبقى للعرب من تاريخهم إلا الاسم السعوديّ المزيف المهين.
وبعد،
لا يخفى على الباحث عن الحقيقة أنّ ما يُسمّى الدولة السعوديّة اكتملت بوسائط
الغزو الوحشيّ والتوسّع على حساب البلدان المجاورة تحت عين الرضى البريطانيّة
تارةً، وتارةً أخرى الأميركيّة. ولكن ما لم يتمّ توثيقه والبحث عنه بتؤدة، هو
تطلّعاتهم العدوانية على بلاد الشام. فلو بحثنا عبر السنين الطويلة عمّا تعرضت له
بلاد الشام من دسائس ومؤامرات، لتَبيّن لنا بوضوح بصمات آل سعود عليها، فنقرأ عن دورهم
في إيقاف الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1939م، ودورهم في توقيع اتّفاق مُجحِف
للهدنة مع «إسرائيل»، ومحاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر زمن الوحدة. وأخيراً وليس
آخراً دورهم الجشع الإرهابيّ الآن على سوريا والمنطقة عموماً.
* الإعلامي
الراحل شمس الدين العجلاني