المُجتمع المَدَني
سُلطة المُراقبة وتقويم المجتمع السِّياسي
خضر إبراهيم
يُعَدّ مُصطلح «المُجتمع المَدَني» من أكثر المُصطلحات تداولاً بين النّاس. وفي المجتمعات العربيّة والإسلاميّة تَوسَّعت مجالات استعماله في ظلِّ ما شاع في العقود الماضية من مُصطلحات موازية، مثل: الديمقراطيّة، والإصلاح، والتَّنمية المُستدامة، ومؤسَّسات الرَّقابة، والتّحديث، والعصرنة، إلخ.
ماذا يعني هذا المُصطلح، ما هي دلالاته والمجالات المحدَّدة التي يُستعمل فيها؟
في موسوعات الفلسفة والعلوم الإجتماعيّة، لم يُفرَد مكان خاصّ لِمصطلح «المجتمع المدني»، مع أنَّ كلمة «مدني»، ظهرت كَمُكَوّن لعدَّة مصطلحات أخرى: «العصيان المَدني»، «القانون المَدني»، «المقاومة المَدنيّة»، «الحقوق المَدنيّة» «جهاز الدّولة المَدني»، وسوى ذلك.
لكنَّ المُصطلح الأمّ سَيَرِد -لأوّل مرّة- في (معجم أوكسفورد الكبير)، وهذا يعني أنّه وليد التجربة التّاريخيّة في الغرب، وقَرين الفِكر الفلسفي والإجتماعي في أوروبا. لقد دَخلت فكرة المجتمع المَدني إلى الفلسفة السياسيّة كَتَعبير عن وجود علاقة بين قطبَيْن هما، المجتمع والسياسة، وذلك من خلال العَقْد الإجتماعي، المَبني على فكرة الحقِّ الطبيعي.
لقد تَبَلوَر مفهوم المجتمع المَدني في صيغته الإصطلاحيّة السياسيّة ضمن سِياق نظريّة التّعاقد الإجتماعي، وفي إطار هذه النظريّة، كان المفهوم يُرادِف المجتمع السياسي المؤسَّس بناءً على التعاقد الإجتماعي.
غير أنَّ الجدل الفلسفي حول التعّريف إستَهلَك مساحة واسعة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديّين. فقد اعتبر الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1651) أنّ المجتمع المدني هو الذي يقوم على التّعاقد، حتى ولو اتَّخَذ شكل الحُكم المُطلَق المُستَمَدّ من القانون وحُكم العقل.
أمّا جون لوك (1691)، فقد رأى أنّ المجتمع المَدني هو مَصدر الشرعيّة، في حين أنَّ جان جاك روسّو بعدهما يؤكِّد في حديثه عن السِّيادة على خاصِّيَّتَيْن: السِّيادة التي لا تقبل التفويض، والسِّيادة التي لا تَتجزَّأ.
هذا في حين أنَّ المجتمع المَدني عند هيغل يُمثِّل الخير الإجتماعي والأخلاقي، الواقع بين العائلة والدولة، ما يعني أنَّ تشكيل المجتمع المَدني يتمّ بعد بناء الدولة، وهو ما يميّز مجتمع الحداثة عن المجتمعات القروسطيّة ذات الطابع الشُّمولي.
أمّا سِمات العناصر الأساسيّة التي يتشكّل منها المجتمع المَدني، فهي:
- أنّه رابطة إختياريّة يَدخلها الأفراد طَواعِية.
- أنَّه يشمل العديد من المكوِّنات من بينها: المؤسَّسات الإنتاجيّة، والطَّبقات والأحزاب السياسيّة، والنَّوادي الثَّقافية والإجتماعيّة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الدّولة أو المجتمع السِّياسي ضروريّان لاستقرار المجتمع المَدني، ولِحُسن القيام بوظائفه. وليس من الضَّروري أن تكون الدّولة القائمة على المجتمع المَدني دولة ديمقراطيّة، لكنّها في أيِّ حال دولة غير مُطلَقة السُّلطة، وتخضع في أداء مهامّها لقواعد عقلانيّة.
في المجتمعات العربيّة جرى استخدام المُصطلح بِطُرُق مُتباينة منها، أنَّ المجتمع المَدني هو مجموعة المؤسَّسات، والفعاليّات، والأنشطة، التي تمثِّل مركزاً وسيطاً بين العائلة، باعتبارها الوحدة الأساسيّة لِنظام القِيَم والعلاقات من ناحية، والدّولة بأجهزتها وبمؤسِّساتها من ناحية أخرى.
ويَجتهد بعض المُفكِّرين العرب ليقولوا إنَّ ظاهرة المجتمع المدني ليست حكراً على الغرب الرأسمالي، وأنَّ بالإمكان توطين المفهوم في بلادنا. خصوصاً وأنَّ ما يوازي المجتمع المدني الحديث من حيث دلالة إستقلاليّة المجتمع عن الدّولة، هو ما يمكن أن نُسمّيه بـ «المجتمع الأهلي» في التّاريخ الإجتماعي والسياسي العربي.
وأيّاً يَكُن الأمر، فإنَّ قيامة المجتمع المدني في بلادنا هي من أساسيّات النهُّوض والتّقدُّم، لأنّها تحدّ من أنظمة وقواعد الهيمنة السياسيّة، ذلك أنّها تمارس الرَّقابة على سلطة الدَّولة بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وتَضخّ الحيويّة في المجتمع السياسي، وفي الزّمن الحضاري الذي تَعبُرُه مجتمعاتُنا.