«الرِّفعة والضَّعَة بعد العرض على الله تعالى»
أربعون عاماً على رحيل العلامة الشيخ محمّد جواد مغنيّة العاملي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: الشيخ أحمد التميمي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحد مشاهير علماء الإمامية. كان فقيهاً، مفسّراً، أديباً، ومن الكتّاب البارزين.
* كان كثير المطالعة والتفكير، ذا ثقافة واسعة، ومن روّاد الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين، كما تصدّى في مؤلّفاته بكلّ قوّة للمذهب الوهّابي التكفيري.
* انصرف بكلّ كيانه إلى التأليف وتحرير المقالات وإلقاء الخطب، وتمكَّن بأسلوبه الشيّق وآرائه الناضجة من أن يستقطب الشباب، ويوضّح المفاهيم والأفكار والحقائق الإسلامية، ويزيح الشبهات والشكوك التي انتشرت في العالم العربي، خصوصاً في عقد الخمسينيات من القرن الماضي.
* سافر المترجَم إلى البلاد العربية والإسلامية، وطلبت منه (دار التبليغ الإسلامي) في مدينة قمّ التدريس فيها، فأقام بها من سنة (1390 - 1395 هجرية) مدرّساً.
* هو الشيخ محمّد جواد، بن الشيخ محمود، آل مُغْنِيَّة العاملي.
* وُلِد في قرية طَيردِبّا من قضاء صور في جبل عامل سنة 1322 للهجرة (الموافق لسنة 1904م).
* والده الشيخ محمود مُغْنِيَّة الذي يقول عنه السيد حسن الصدر في (تكملة أمل الآمل: 1/365): «... ذو نابغيّة، قلَّ في معاصريه من العرب مَنْ وَصَل إلى مقامه في نيل المطالب وتحقيق الحقائق». ووالدته علوية من آل شرف الدين.
* وأسرة «آل مُغْنِيَّة» من الأسر العلمية العريقة في جبل عامل، فلا تجد موسوعة تراجم تخلو من ذكر أعلام هذه الأسرة، فالسيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة) ترجم لوالد الشيخ وأجداده وغيرهم من أعلامها، وكذلك السيد حسن الصدر في (تكملة أمل الآمل)، والشيخ آغا بُزُرْك الطهراني في (طبقات أعلام الشيعة)، وغيرهم.
نشأته وهجرته إلى النجف الأشرف
نشأ الشيخ يتيم الأبوين، فقد توفّيت والدته وهو دون الرابعة من عمره، ثم توفّي والده سنة 1334 للهجرة وهو في الثانية عشرة من عمره، فانتقل إلى بيت أخيه الأكبر الشيخ عبد الكريم مُغْنِيَّة وبقي معه سنتين، إلى حين هاجر أخوه إلى النجف الأشرف لطلب العلم.
بقي الشيخ وحيداً بلا وليّ يرعاه، وهو يعاني ألم البؤس والجوع، حيث يقول في كتابه (تجارب محمّد جواد مُغْنِيَّة: ص 34): «...وما زلت أذكر حتى الآن أني أمضيتُ ثلاثة أيامٍ لَمْ أذُقْ فيها شيئاً».
وبعد أنْ ضاق ذرعاً بحياة البؤس والشقاء في قريته «طَيردبّا»، انتقل إلى العاصمة بيروت وعَمِلَ في أكثر من مهنة حتى تعلّم صنع بعض أنواع الحلويات، فشرع في صنعها وبيعها بنفسه، واستمرّ في هذا العمل أربع سنين أو أكثر.
كان دائم التفكير بطلب العلم، ليكون كآبائه وأجداده، وكثيراً ما فكّر بالذهاب إلى النجف الأشرف سيراً على قدميه، وبعد أن يسرّ الله تعالى له أجرة الطريق، هاجر إلى النجف الأشرف في رحلةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، ذكر تفاصيلها في كتابه (تجارب محمّد جواد مُغْنِيَّة: ص 39 - 42).
دراسته وأساتذته
وصل الشيخ مُغْنِيَّة إلى النجف الأشرف سنة 1925م، ومنذ اللحظات الأولى لوصوله شرع في الدراسة في الحوزة العلمية بجدٍّ واجتهادٍ منقطع النظير، ويحدثنا عن كيفية دراسته قائلاً: «كنت أقرأ الدرس وأذاكر به، وإذا عجزتُ عن فهمه وهضمه أعدته في اليوم الثاني».
وبهذه الهمّة العالية واصل دراسته في الفقه والأصول على يدِ أساتذة كبار، هم كُلٌّ من: أخوه الشيخ عبد الكريم مُغْنِيَّة، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والسيد جمال الدين الكلبايكاني، والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، والسيد محمّد سعيد فضل الله، والسيد أبو القاسم الخوئي، والشيخ محمّد حسين الكربلائي، والسيد حسين الحمّامي، وغيرهم.
عودته إلى لبنان
عاد الشيخ مُغْنِيَّة إلى لبنان سنة 1936م وأقام في قريتي (معركة وطيرحرفا) في قضاء صور مشتغلاً بأداء وظائفه الشرعية تجاه أبناء هذه القرى حتى سنة 1948م، فانتقل إلى بيروت وعَمِلَ في القضاء الشرعي حتى سنة 1968م.
وفي أثناء عمله في القضاء ارتقى إلى رتبة «رئيس المحكمة الجعفرية العليا» من سنة 1951م حتى سنة 1956م، ويومها كان يُعتبر هذا المركز أعلى منصب رسمي ديني شيعي في لبنان، وذلك لغياب المؤسسات الشيعية الرسمية في ذلك الوقت.
أخلاقه وسيرته
كان الشيخ محمّد جواد مُغْنِيَّة على درجة كبيرة من الأخلاق الإسلامية الرفيعة، فهو يقول: «إنّي أزهدُ خلق الله بالهتاف والتظاهر والمظاهر، ولثْم اليد والمفاخر. والسرُّ في ذلك، علمي ويقيني بأنّ الرِّفعة والضَّعة بعد العرض على الله، لا على الناس».
كان يخرج صباح كل يوم لمدّة ساعة أو أقلّ، يشتري الصحف ويبتاع القوت اليومي ويعود إلى البيت. كان يمشي في الطرقات وإذا تَعِبَ جلس إلى جانب الطريق على حجرة أو تحت شجرة، يتنقّل كبقية الناس، يركب معهم سيارة الأجرة لأنّه لم يملك سيارة قطّ، وعندما يسافر من دولة إلى أخرى كان يسافر متخفيّاً من دون إعلام أحد حتى لا يجرى له أيّ استقبال.
عندما عاد من النجف الأشرف إلى لبنان واستقرّ بين أهله في جبل عامل، اختطّ لنفسه سبيل الدين والتزام مطالب الناس والدفاع عنها، فلم يستطع أي زعيم إقطاعي سياسي أن يحتويه، فقد تصدّى لهم بصوته وقلمه.
وعندما انتقل إلى بيروت وعَمِلَ في القضاء الشرعي، كان على نفس المنهج السابق الذي لا يُساوم ولا يداهن، ومن ذلك الحادثة الآتية: «كان ينظر في دعوى مرفوعة أمامه ويراجع فحواها، وإذا برسول من رئيس الوزراء اللبناني يدخل عليه وبعد السلام والتحيّة يقول له: إنّ دولة رئيس الوزراء يسلّم عليه ويطلب منه أن لا يصدر حكماً في الدعوى التي صادف أنّه ينظر فيها، فما كان منه إلاّ أنْ استبقى الرسول في المحكمة، وتابع النظر في الدعوى وأصدر حكمه العادل فيها، ثمّ حمّل الرسول نسخة من قرار الحكم وبعثه إلى رئيس الوزراء الذي طار صوابه عند قراءته للحكم الذي جاء لغير مصلحته».
عُرفَ عنه وَلَعه الشديد بالقراءة والكتابة، فهو يقول: «أنا مَن أفنى في المطالعة والكتابة عمره، لقد قرأت آلاف الكتب والمجلات والصحف وكتبت ستين مؤلفاً - بعض منها عدّة مجلدات..».
مؤلفاته
ترك الشيخ محمّد جواد مُغْنِيَّة ثروة فكرية ضخمة، تمثلت في هذا النتاج الغزير الذي تناول فيه شتى مناحي المعرفة، وكان هذا نتيجة طبيعية لمسيرته العلمية التي استمرت حتى بعد عودته إلى لبنان، فهو يقول: «وحين عُدتُ إلى لبنان بقيت مُكِبّاً (22 سنة) من 1936م إلى 1958م ملازماً كتب الفقه والأصول ليل نهار... وقد كانت ثمرة دروسي وأبحاثي أني انصرفت نهائياً إلى التأليف منذ سنة 1957م حتى سنة 1979م».
وقد بلغت مؤلفاته ستين كتاباً، منها:
1- التفسير الكاشف.
2- في ظلال نهج البلاغة.
3- في ظلال الصحيفة السجادية.
4- فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
5- الفقه على المذاهب الخمسة.
6- علم أصول الفقه في ثوبه الجديد.
7- الحسين (عليه السلام) وبطلة كربلاء.
8- فلسفات إسلامية.
9- فلسفة الأخلاق في الإسلام.
10- عقليات إسلامية.
11- هذه هي الوهابية.
مع الإمام الخميني
لم يكن الشيخ محمّد جواد مُغْنِيَّة بعيداً عن الإمام الخميني قدّس سرّه والثورة الإسلامية في إيران، فها هو السيد محمّد الغروي يذكر في كتابه (مع علماء النجف الأشرف: 2/382): «سَمِعتُ منه (أي الشيخ مُغْنِيَّة) أنّه ذهب إلى النجف الأشرف قبل الثورة الإسلامية في إيران وتشرّف بزيارة سماحة الإمام الخميني طاب ثراه في بيته، وتحدث معه عن اعتداءات إسرائيل على جبل عامل بصورة مسهبة ومفصّلة وهو مُصغ ٍ صامت، وبعد انتهاء الحديث أجاب رضوان الله عليه: بأننا في صراع مع شاه إيران وأنّه الخائن والعميل ويجب التعاون لإسقاط الحكم الجائر.
يقول الشيخ مُغْنِيَّة: إنّني استغربت هذا الجواب من الإمام الخميني ولم أفهم مغزى الحديث إلاّ بعد هروب الشاه من إيران وانتصار الثورة وإقامة الحكومة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، حيث وجّه في اليوم الأول حرابه نحو إسرائيل وحثَّ المسلمين على محاربه هذه الدويلة الغاصبة، قائلاً أمام العالم: إنّ إسرائيل غدّة سرطانية لابدّ من إزالتها».
كذلك يُنقل عن العلامة مُغْنِيّة رحمه الله ما مفاده: أن الإمام الخميني كان يرى ويُدرك على المستوى السياسي ومصالح الأمة الإسلامية، ما لا يراه أو يدركه غيره من العلماء. (انظر: الموقع الإلكتروني لمركز حفظ ونشر آثار الإمام الخميني نقلاً عن الشيخ موسى ديالو)
وفاته ومدفنه
كان الشيخ محمّد جواد مُغْنِيَّة مصاباً بمرض القلب منذ سنة 1965م، ودخل إلى المستشفى أكثر من مرّة للمعالجة والمداواة.
وكان من عادته في السنوات العشر التي سبقت وفاته أن يتشرّف بزيارة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ولكن في سنة 1400 للهجرة (1979م) لم يتمكّن من الزيارة، فحضر المجالس الحسينية المقامة في (النبطية وصيدا وضاحية الأوزاعي والغبيري)، وفي الليلة الرابعة من المحرم وأثناء إلقائه لكلمة في مجلس حسينية مدينة صيدا أُغميَ عليه، وأُدخِلَ إلى غرفة العناية المركزّة في مستشفى الجنوب لمدّة أربعة أيام، ولكنه لم يكن يتخلى عن المشاركة في المجلس الحسيني حتى ولو كان على آخر رمق من الحياة، وبمجرّد خروجه من المستشفى عاد للحضور في المجالس الحسينية، وكان يجهش بالبكاء في المجالس هذه السنة أكثر من أي عاشوراء مرّت.
وفي الساعة العاشرة من ليلة الأحد 20 محرم سنة 1400 للهجرة (9 كانون الأول 1979م) توفّي الشيخ محمّد جواد مُغْنِيَّة في بيروت بعد أن تعرض لنوبة قلبيّة حادّة.
وفي يوم 22 محرم سنة 1400 للهجرة نُقل نعشه إلى العراق، وقد رافقه كبار علماء المسلمين الشيعة في لبنان، واستقبلته في مطار بغداد الهيئة العلمية اللبنانية، وسار الموكب إلى الكاظمية المقدسة لزيارة الإمامين موسى الكاظم ومحمّد الجواد عليهما السلام، ثم تابع الموكب سيرهُ إلى كربلاء المقدّسة لزيارة الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام، وفي اليوم التالي سار الموكب إلى النجف الأشرف ليوارى الثرى في مثواه الأخير عند أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حيث عُطّلت الدروس في الحوزة العلمية وشُيّع تشييعاً مهيباً ومشى خلف النعش المراجع العظام والعلماء الأعلام وطلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف وحشد غفير من الناس، وصلّى عليه المرجع الديني السيد الخوئي قدّس سرّه، وبعد تأدية مراسم زيارة الحرم العلويّ المقدّس دُفِنَ في حجرة رقم (17) في الصحن الشريف، ثم اُقيمت مجالس الفاتحة على روحه الطاهرة في النجف الأشرف وبيروت.