تسديد الثّقافة بالذِّكر
الشيخ حسين كوراني
«ما مِن شيء إلَّا وله حدٌّ ينتهي إليه إلَّا الذِّكر،
فليس له حدٌّ ينتهي إليه..»
الإمام الصادق عليه السلام
ثقافة كلّ فَرْد، هي حصيلة رحلته في الحياة والمعلومات. إنَّها القناعات التي عَقَد القلب عليها في ميادين النَّظريّة والتَّطبيق.
تعلَّم وسَمع، وحاوَر وفكَّر، أو مارس عمليَّاً في حركة الحياة، فقوَّم النَّتائج سلباً وإيجاباً، وانتهى إلى قناعاتٍ هي حصيلته.
أحبَّ القلبُ هذه الحصيلة. استَهْوَته. فإذا هي الدّافع المُحرِّك، النَّاظم لآرائه وسلوكه، الحاكِم على كلِّ ما عداه.
لا دلالة لهذا التَّعريف للثَّقافة على سلامتها، فهو مقارَبة للمعنى العامّ بمعزل عن المدح والذَّم. تماماً كما لو كان الحديث عن «السُّلوك» بمعناه العام. الثَّقافة هي «مُنطلَقات السُّلوك» وطبيعيٌّ أن تكون عامّة ومتنوِّعة، كما هو السُّلوك كذلك.
أجمل ما قيل في تعريف الثّقافة أنَّها «ما تَتَصرَّف على أساسه حين تَنسى كلّ شيء».
قد يكون «ما نتصرَّف على أساسه» مُناقِضاً لثوابتنا العقليَّة، والسَّبب أنَّنا لم نَنقل هذه الثَّوابت من محكمة العقل الأمير، إلى صفحة القلب المُدير، فلمْ تَتَحوَّل القناعة العقليَّة إلى هَوَى وحبّ يُلامس شِغاف القلب فيُعقَد عليه.
تتلازم الثَّقافة الفاضلة -إذاً- مع حقَّانيّة مصادرها، وابتنائها على أُسُسٍ عقليّة تمَّ تشييدها بالدَّليل والبرهان. ما خَلا ذلك هو «ثقافة» تُشكِّل ناظماً وحاكِماً، إلَّا أنّها مبنيّة على باطل. هي عدوانٌ على الثّقافة الأصيلة، واحتلالٌ لِحُصونها.
ربَّما فَسَّر ما تقدَّم، ندرة استعمال مفردة الثَّقافة بمعناها الرَّائج اليوم، قبل التَّمدُّد الثَّقافي الغربي والشَّرقي في البلاد العربيَّة.
مفردة «العلم» أسلم من «الثَّقافة». لا يكون مصدر العِلم إلَّا حقّاً، أمّا الثّقافة فقد لا تستند إلى دليل عقلي، بل الغالب فيها ذلك لدخول المصلحة في خطِّ الهوَى لتقْطع الطَّريق على القرار المبدئي، بِصَرف النَّظر عن المصلحة الشَّخصيّة.
***
يكفي لِتحصين «العِلم» الذي نتعلَّمه، الحثّ على «العمل به». قال عليّ عليه السلام: «يا حَمَلة العِلم اعملوا به، فإنَّما العالِم مَنْ عَمل بما عَلِم، ووافَق عِلمُه عَمَلَه، وسيكون أقوامٌ يَحملون العِلم لا يُجاوز تراقيهم، يُخالف عمَلُهم عِلمَهم وتُخالِف سريرتُهم علانيتَهم، يَجلسون حلقاً فيُباهي بعضهم بعضاً، حتّى إنَّ الرَّجل لَيَغضب على جليسه أن يَجلس إلى غيره ويَدَعه، أولئك لا تَصعَد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله».
لا يَصحّ في الثّقافة الحثّ على «العمل بها». لا بدّ -أوّلاً- من التّثبُّت من سلامة مصدر هذه الثّقافة، ولا بدَّ أيضاً من مواكبة هذه الثّقافة لِتَسديدها. ميادين الحياة تُنسي الثّقافة أو تَستلبها. تحمل على التَّخلِّي عنها وربّما التّنكُّر لها. تصحّ مقولة
«الإستلاب الثّقافي» ولا تصحّ مقولة «الإستلاب العِلمي». مَنْ نَسِي ثقافته الأصيلة واكتَسَب ثقافة دخيلة هو المُستلَب ثقافيّاً. نسيَ ثقافته أو تَخلّى عنها سعياً وراء تحقيق مصلحته، أو تنكَّر لثقافته، إلَّا أنّه «يَحسب أنّه يُحسِن صُنعاً».
مَن لا يَعمل بعِلمه لا يضرُّ العِلم شيئاً. يبقى العِلمُ عِلماً، ويُدرك مَنْ لم يَلتزمه عمليّاً أنّه تجاوز الحدّ ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾ القيامة:14. العِلم حقيقة ثابتة، والثَّقافة تَخَلُّقٌ واتّصاف يَقبلان التَّحوُّل التَّدريجي الخفيّ والشَّديد الخفاء.
هكذا نُدرك خطورة إسباغ السَّلامة والتَّحضُّر والرُّقيّ الفِكري على «الثّقافة بالمُطلَق» واعتبارها رَديف العِلم.
نُدرك أيضاً إلحاح الحاجة إلى تسديد الثَّقافة الأصيلة والأصليَّة، وتحصينها من مخاطر الإستلاب النَّاجِمة عن الإشتباك بِدَورة الحياة والمصالح والعقبات، حتّى لا تَتبدَّل الثَّقافة تدريجاً. ﴿..ومن يتبدَّل الكفر بالإيمان فقد ضلَّ سواء السبيل﴾ البقرة:108.
***
من خصائص الرُّؤية الدِّينيّة في البُعد التَّثقيفي، دوام الذِّكر، وهو يعني صيانة العقيدة وهي الثَّقافة التي أَيقن بها و«عَقَد القلب عليها». تَمتدُّ عمليّة الصِّيانة والتَّسديد هذه على كلِّ ساحة العُمر والنَّفْس والنَّفَس ﴿..قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون..﴾ آل عمران:191. الثَّقافة الفاضلة والعقيدة المَبنيَّة بالدَّليل والبرهان، أَسمَى مِن أنْ تُختَزل في جانب من العُمر وتُحاصَر فيه، وأغلى من أن تُترَك لُقىً في مهبِّ رياح الحياة وأعاصيرها. إنَّها الحقُّ الزُّلال والصُّراح الذي يُصان نهْره ممّا يَمرّ به وفيه، فلا يلوَّث، أو يَأسن أو يَستحيل.
لا سبيل إلى ذلك إلَّا بالجهاد الأكبر، وهو يَقظة دائمة بدوام الذِّكر، و«خيرُ الأعمال أدوَمُها وإنْ قَلّ». ما يُنقِص من دوام الذِّكر هو الغفلة. الذِّكر القليل غفلة ونِفاق: ﴿إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا﴾. النساء:142.
والنِّفاق هو التَّذبذُب بين العقيدة الحقّ وبين الباطل. قد يكون ابتداءً، وقد يَستجدّ نتيجة الإنشداد للسَّائد الثَّقافي الذي يَعمل أبداً على تلويث الثَّقافة الأصيلة وتحريفها واستلابها. والباب الذي يَتَسرّب منه التَّبدُّل الثَّقافي هو الغفلة عن دوام الذِّكر: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ الأعراف:201.
***
البصيرة رَهْن دَوام الذِّكر، والقلبيُّ منه هو الأصل، لكنّه لا يتحقَّق إلَّا باللّسانيّ، وهو المقصود عند إطلاق الذِّكر. أبرز مَحاوِره التَّهليل والتَّحميد، والتَّسبيح والتَّمجيد والإستغفار، وذِكْر المبدأ والمعاد. يجمعهما: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. ثمّة امتياز خاص لِذِكر العرض على الله وهو ذِكْر الموت. ومِن مَحاوِر ذِكر الله تعالى، ذِكر مَنْ وما أَمر الله بِذِكره، وأبرز ملاحمه: أللَّهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ما من الذِّكر شيء أفضل من قول لا إله إلَّا الله، وما من الدُّعاء شيء أفضل من الإستغفار، ثمَّ تلا ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك..﴾ محمّد:19».
ليس الذِّاكر مؤمِناً يُراكِم رصيده من الحسنات بل هو مؤمن يُثبِّت إيمانه، ويُعزِّز عقيدته، ويُسدِّد ثقافته الحقّ، ويُقوِّي نفسه في مواجهة مُنعطفات الحياة. تغييب ثقافة الذِّكر، قرار بالتَّثقيف بالغفلة، والرُّكون إلى الظِّلِّ الزَّائل، واستبدال الدُّنيا بالآخرة، والكُفْر بالإيمان.