شخصية التاريخ المقدّس
محمّدٌ صلّى الله عليه وآله إنسانُ الكلمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاك لانغاد* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمّة مقاربة للضِّمنيّ في القرآن عن الكلمة، تكمن في أن نتساءل عمّا قيل -وعمّا لم يُقَل- عن محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)! وتفرض نفسها على وجه السرعة معاينةً مزدوجة.
المعاينة الأولى: أنّ «محمّداً ذو حضورٍ كلّي». وليس ذلك لأنّه هو الذي أعلن الكلمة المُنزلة فحسب؛ بل لأنّه يقوم على الغالب، داخل هذه الكلمة، بدور الناطق بلسان المتكلّم: ﴿قُلْ..﴾، و يدخلُ الإيعاز «الطلب / الأمر» باستمرار قولاً موضوعاً على لسان محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)، ويتكرّر 332 مرّة في القرآن.
إنّه يؤدي أيضاً دور مَن تتوجّه إليه الكلمة الواجب نقلُها، وذلك منذ هذه البداية الموضوعة في ظلّ آية الإعلان: ﴿اقْرَأْ..﴾. [العلق:1]
أضف إلى ذلك، أنّ الإنذار والتبشير «وظيفتان متعيّنتان»، ومَعنيان يتكرّران بصور متواترة في القرآن، كما في: [الشعراء: 192 - 195]، [هود: 12]، و[الإسراء: 105]..
والمعاينة الثانية: أنّ «محمّداً» غير مسمّى إلاّ قليلاً جداً في القرآن، إنّ اسمه لا يتكرّر إلاّ أربع مرّات، وكلّ مرّة في علاقة بوظيفته النبوية: [الفتح:29]، [الأحزاب: 40]، [آل عمران: 144]، و[محمّد: 2]. وثمّة مرّة خامسة، سيكون محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) مسمّى، ولكن هذه المرّة باسم: أحمد: [الصف: 6].
إنه الأكثر جدارة بالمديح من كلّ الأنبياء، ولكنْ على الرغم من ذلك، فإنّ كلّ ما سبق لا يقول لنا شيئاً محدّداً عن «محمّدٍ الإنسان»، فلا يصفه لنا إلاّ بوظائفه في خدمة التنزيل، والكلام الإلهيّ. حتى الحديث عن الاتهامات بالشعر، وبالكذب، وبالجنون، وبالكهانة أو السحر، هي خاصّة بهذا الدور في خدمة الكلمة.
وثمّة تُهمتان تطالان تلك الكلمة التي ينقلها: تهمة كاهن، في مناسبتين، وتهمة شاعر. ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور:29].
وحالة الشعراء أكثر إرهافاً، فالجذر (ش ع ر)، بعد أن استُخدم للدلالة على الوبر والشَعر، أصبح علامة معرفة دقيقة ومحدّدة، ولكن القرآن يمنحه بالنسبة لعصره معنى معرفةٍ كاذبة، مستنداً إلى معنى الآية:224 من السورة الشعراء: ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾.حيث إنّ الله يعارض تعليم ضربٍ من صناعة الكلام وتِقَنيته بذكر الكلمة ذات الامتياز. ألا يكمن في ذلك رفض الكلمة الدنيوية؟ وإذا كانت الحال على هذا النحو، فإنّ ذلك سيكون ضرباً من السِّمة الإضافية للتأكيد أنّ الكلمة في القرآن هي «فعلُ» الله بصورة أساسية، وأنّها إلهية، وأنّ ما يرتبط بها يتدخّل دائماً في السياق الديني للتنزيل.
وما ينجم عن كل ما سبق، يبيّن أهمّية محمّد (صلّى الله عليه وآله) بوصفه إنسان الكلمة. وتحتلّ هذه الكلمة مثل هذا المكان في عمله بحيث أن كل ما قيل لنا عنه: نبيّاً، رسولاً، منذراً، حامل النبأ العظيم، يحيلنا باستمرار إلى هذه الكلمة.
إنّه هو ذاته لم يُسمَّ إلاّ قليلاً، وفي كلّ مرّة يسمّى نبياً. وأخيراً، تحيل الاتهامات الموجهة ضده: كالكذب، والكِهانة أو الشعر، والجنون، والسحر في أدنى حد، إلى الكلمة أيضاً.
ولكن كلّ ما قيل للتوّ يبيّن كيف أنّ هذه الكلمة -كلمة محمّد- معروضة بصورة ضمنية على أنّها كلمة إمّحاء الإنسان أمام الله، وخضوع الإنسان للكلمة الإلهية، وأنّها صمتُ الكلمة الإنسانية التدريجي أمام الكلمة المُنزَلة.
وسنلاحظ، من وجهة النظر هذه، ذلك العدد القليل من أسماء الأعلام، والأشخاص، والأماكن أو الأحداث، التي يتضمّنها القرآن، والخاصة بالعصر ذاته الذي كان يعيش فيه النبيّ محمّد، في حين أنّ أولئك الذين لهم علاقة بالتاريخ المقدّس يعودون عوداً متكرراً، مثل: آدم، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى (عليهم السلام)... إلخ.
ومن المؤكّد أنّ الإلماعات إلى حوادث معاصرة ليست مفقودة في القرآن، بل هي متواترة فيه. ولكن علينا أن نضيف -بمعزل عن كون هذه المراجع إلماعية ولا تتضمّن تفصيلات ظرفية محدّدة: أنّ هذه المراجع ذات علاقة بحدث خاص، حدث التنزيل. وهو حدثٌ يجعل التاريخ كما يتصوّره المؤرِّخون تأريخاً متعالياً، أكثر من كونها ذات علاقة بالحوادث التاريخية منظورٌ إليها بوصفها كذلك.
كذلك ثمّة عدد من الأسماء الجغرافية، الخاصة في القرآن بالزمن المعاصر لمحمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)، لكنها ذات علاقة مباشرة بالتنزيل والشعائر التي ينقلها: كالحجّ.
أضف إلى ذلك أنّ لدينا بعضاً من الإلماعات أكثر وضوحاً، كالتي تشرح بالتدخّل الإلهيّ نصرَ المسلمين في معركة حُنين. ولكن التاريخ المعروض، هنا أيضاً، تابع للتاريخ المقدّس أكثر ممّا هو تابع لتأريخ كتّاب الحوليّات أو للتاريخ بالمعنى الحديث للمصطلح.
وتبقى ثلاثة إلماعات واضحة نسبياً ترافقها أسماء أعلام معاصرة لمحمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ولا ترتدّ إلى تاريخ التنزيل، أي: تاريخه وحده، وهي: رحلتا «قريش»، وموت «أبي لهب» وامرأته، و«زيد بن ثابت» بمناسبة حادثة محددّة. فإذا استثنينا ذكر هذه الحالات الثلاث، يتحصّل لدينا أنّ «الكلمة القرآنية» كلمة «تُضفي القداسة»، تضع الدنيويّ، لا في التاريخ اليومي والحكائي للناس، ولكنّها تضعه في عَرْضٍ يجعل هذا التاريخ العادي متعالياً حتى تجعل منه تاريخ التدخّل الديني، كلمة تغزو كلّ مجالات الحياة الدنيوية لكي تضعها في المنظور المحدّد لها في التنزيل.
وسيكون -حينئذٍ- إنسانُ الكلمة «محمّد» بصورة أساسية، إنساناً في خدمة التدخّل الإلهي في هذا العالم. إنّه ليس إطلاقاً منظّم الحاضرة الأرضية [فحسب] كما كانت هي الحال في الحاضرة الإغريقية، ولكنّه إنسان إضفاء القداسة على الفاعلية الإنسانية، على الفاعلية «المدنية». إنّه ليس فاعلاً في التاريخ، ولكنّه شخصية التاريخ المقدّس...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مؤرخ وفيلسوف فرنسي معاصر، والمقال مختصر عن أحد فصول كتابه (من القرآن إلى الفلسفة)، من منشورات وزارة الثقافة السورية سنة 2000م، بترجمة الدكتور وجيه أسعد