أكمل الكائنات عرفاناً وخُلقاً*
محمّد رضا أمين
إنّ عالم الوجود بما يتضمّن هو من فعل الله تعالى، واللهُ هو العلّة وهو مفيض الموجودات، والموجودات هي الفيض وهي المعلول.
علاقة العلّة، بالمعلول والمفيض بالفيض هي علاقة وجودية، ولهذا فوجود المعلول وجود مفتقِر، وهو -أي وجود المعلول- عينُ الفقر والحاجة، وليس وجوداً تُعتبر الحاجة والفقر من صفاته. وبما أنّ وجود «فاعل» الوجود هو عين الغنى والاكتفاء، فإنّ وجود المخلوقات مرتبط بكلّيته بالله تعالى، ويسير في الدرب والاتجاه اللّذين حدّدهما له الموجِد.
وطبقاً لهذه القاعدة، فإنّ الفاعل هو المحبّ والفعل هو المحبوب. والفاعل يريد أن يرجع إليه فعله؛ ولذا فتوجُّه الفعل سيكون باتجاه الفاعل، وما دام مبدأ الفعل هو أيضاً الفاعل فسيكون الفعل منه وإليه. والموجودات -التي هي فعلُ الله تعالى، ابتدعها بقدرته واخترعها بمشيئته وبعثها في درب محبّته- تنقسم إلى نوعين:
1- نوع يعتبر «محبوب الله» بدون واسطة.
2- نوع هو «محبوب الله» بالواسطة.
فالموجود الذي خُلق بدون واسطة هو محبوب لله، وهو أيضاً محبوب له سبحانه بدون واسطة. أمّا الموجودات المخلوقة بواسطة الفيض فهي «محبوب الله» بواسطة. ويحدّثنا أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: «كان اللهُ ولا شيء معه. فأوّل ما خلَقَ نورَ حبيبِه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم... والحقُّ تبارك وتعالى ينظر إليه ويقول: يا عبدي أنتَ المُرادُ والمُريدُ وأنت خِيَرتي من خلقي، وعزّتي وجلالي لولاكَ لمَا خلقتُ الأفلاك، مَن أحبَّكَ أحببتُه..». [بحار الأنوار: 15/27]
والفعل -لكونه فعلاً- تلازمه الحاجة. فهو لا يستطيع التخلّف عن فاعله وإرادته، لأنّ الفاعل وصاحب القرار هو الربّ، والمربوب والمخلوق يخضع بكامل وجوده لسلطة الربّ والخالق. وإذا كان بإمكاننا أن نطلق هنا كلمة «ميثاق» فعلينا القول: إنّ تسليم الوجود الممكن للوجود والكمال المطلق -على أساس الفرضية القائلة بأنّ «الممكن» وجود مستقل قبالة الوجود المطلق- يشكّل الميثاق التكويني بين الفعل والفاعل، وهو بحدّ ذاته «فعل» كما في: «لا يملكون تأخيراً عمّا قدّمَهُم إليه، ولا يَستطيعون تقدُّماً إلى ما أخّرَهُم عنه». [الدعاء الأوّل في الصحيفة السجادية]
وعلى هذا الأساس فإنّ جميع الموجودات خاضعة لإرادة الله، ومسبّحة بحمده: ﴿..وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ..﴾ الإسراء:44.
والتسبيحُ تنزيه، ونفي لأيّ نقص أو حاجة عن ساحة القدس والكمال الإلهي. فالممكنات التي تسبّح لله تعالى تبرّئه من أيّ نقص أو عيب أو حاجة. وتحسّ أنّ النقص هو في وجودها المرتبط عينياً بوجود الخالق، وعليه فهي بتسبيحها وحمدها ترتقي سلالم الكمال لتنهل من الفيض، وتستغرق في التفكّر بالجمال الأزلي من نافذة العشق والمحبة، وتتولّه في التأمّل بالجمال الأبدي؛ إذ ليس لها من معشوق سوى المبدأ الأعلى، ولا من محبوب إلّا العلّة الأولى...
وأصحاب البصيرة يرون أنّ كلّ مُفيض هو مطلوب حقيقيّ للمُفاض، وكلّ علّة هي محبوب ذاتيّ للمعلول. ولهذا تطلب السفليّات العلويّات، وتطلب الكائنات الإبداعات، والكلّ حسب فطرته وجبلّته يطلب الخير المطلق والمبدأ الأعلى.
على أيّ حال، فإنّ العلاقة الوجودية بين العلّة والمعلول، والمفيض والمُفاض، وتسبيح المخلوق والمربوب للخالق والربّ، تختلف باختلاف مراتب وجود الموجودات، ومراتب الوجود تخضع لقرب وبُعد الموجودات عن المبدأ الأعلى. فأبعد الموجودات علاقته أضعف، وأقربها علاقتُه أكمل وأقوى بالله تعالى. ومن هنا، فإنّ أوّل ارتباط وأوّل ميثاق وأوّل تسبيح هو لأوّل مخلوق؛ أي الأقرب إلى الله والأكمل بين الموجودات في عالم الإمكان. وهذا هو وجود العقل الأوّل، أي نور نبيّ الإسلام محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، كما تبيّن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مختصر نقلاً عن موقع «البلاغ» الإلكتروني