تحقيق

تحقيق

منذ أسبوع

الهجرة النبوية

الهجرة النبوية

التأسيس الأول للحكومة الإلهية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عُرفت هجرة المسلمين من مكّة إلى المدينة بالهجرة الكبرى، فقد كانت هجرة ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، إلى «المُراغم والسَّعة»، ليُتاح لهم توحيد الله تعالى، واقتفاء أثر نبيّه صلّى الله عليه وآله، والتحاقاً بإخوانهم؛ أنصارِ النبيّ من أهل «يثرب» الذين آمنوا بالرسالة نجاةً من الضلال، وخلاصاً من المنازعات الجاهلية والقبليّة البغيضة.

* يتناول هذا التحقيق، بإيجاز، أسباب الهجرة إلى المدينة، وما رافقها من أحداث، في طليعتها: الإعجاز الإلهيّ متمثّلاً بالفداء العلويّ، وكذلك الخطوات الأولى التي أسّس بها النبيّ الأعظم للمجتمع الإسلامي في المدينة المنوّرة. تمّ إعداده بالرجوع إلى عدّة مصادر، منها: (منتهى الآمال) للمحدّث الشيخ عباس القمّي، و(سيرة المصطفى) للعلامة الراحل السيّد هاشم معروف الحسني.

 

يفتح الحديث عن هجرة المسلمين من مكّة المكرّمة إلى «يثرب»، البابَ واسعاً أمام كثير من التساؤلات، حول: تسميتها بالهجرة الكبرى، وقد سبقتها هجرة طائفة من المسلمين إلى الحبشة على دفعتين.

* وهل كان إلحاح المسلمين على النبيّ صلّى الله عليه وآله ليأذن لهم بالخروج، هرباً من التعذيب الذي يلحق بهم من كفّار مكّة، أم أنّ شوقهم للهجرة كان طلباً لدار أمنٍ وأمانٍ منحهم إيّاه الدين الجديد، فأرادوا أنْ ينهلوا من فيض الرحمة والعطاء الإلهيّين؟

* وأخيراً، هل كانت الهجرة بأبعادها ودلالاتها سفراً إلى الله من عالم المادّة إلى عالم المعنى المجرّد من زخارف الدنيا وزينتها؟

لا ريب أنّ هذه الهجرة التي كان زادها التضحية والصبر، وأول فدائها نفسُ الرسول صلّى الله عليه وآله وحبيبه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أشرقت ببركات النبيّ والوصيّ على المسلمين، المهاجرين منهم والأنصار،  ومن جاء -ويجيء- بعدهم من أهل التوحيد. فقد أصبحت هذه الهجرة مع خروج رسول الله من مكّة إلى يثرب بداية العدّ التصاعديّ في تاريخ الإسلام، وأرست مداميك الحكومة الإلهية على الأرض، عبر الانطلاقة الكبرى التي لم يشهد التاريخ البشريّ برمّته مثيلاً لها. ومن أبرز عناوين هذه الانطلاقة التأسيسيّة النبويّة -التي سوف تُستكمل بظهور خاتم الأوصياء ليُظهر الله تعالى به الإسلام على جميع الأديان والعقائد الفاسدة: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء المسجد النبويّ، وفرض الشرائع.

* المؤاخاة: آخى النبيّ صلّى الله عليه وآله بين المهاجرين والأنصار، وربط بينهم برباط الإيمان والإسلام، واعتبره أوثق من رابطة العِرق والدم، وأكّد بتلك الأخوّة وحدة الهدف والغاية في ما بينهم، بحيث لا يرضون ولا يغضبون إلا لله وفي سبيله سبحانه وتعالى، وأراد لكلّ فردٍ منهم أن ينظر للآخر كما ينظر لأخيه النسبيّ، و يشاركه في السرّاء والضرّاء.

لقد نزل المهاجرون من مكّة ضيوفاً على قومٍ لا يرتبطون معهم بأيٍّ من الروابط التي كانت تشدّ العرب بعضهم إلى بعض. وقبيلتا «الأوس» و«الخزرج» سكّان المدينة -وقد عُرفوا فيما بعدُ بالأنصار- بينهم حروب وثارات قديمة، لكنّ نور الهداية المحمّدية أنساهم الأحقاد المزمنة الموروثة، وجنّدهم متراصّين في صفٍّ واحد، ولغاية توحيدية واحدة.

* الهدنة بين المسلمين وغيرهم: عمل النبيّ صلّى الله عليه وآله على تأمين بيئة اجتماعية وسياسية آمنة داخل المدينة المنوّرة، فكانت الهدنة بين المسلمين وبين اليهود؛ كبني قينقاع وبني النضير وغيرهما من قبائل اليهود المقيمين على تخوم يثرب.

* بناء المسجد: بعد بضعة أيامٍ من وصول النبيّ إلى يثرب -وقد تحوّلت إلى مدينةٍ منوّرة ببركة قدومه الميمون- اشترى قطعة أرضٍ من بعض بني النجّار، وأمر بمباشرة العمل لبناء المسجد، وهو الصرح التوحيديّ الذي سيُعرف لاحقاً بـ«الحَرَم المدنيّ»، أو «المسجد النبويّ».

بلغت مساحة المسجد النبويّ، عند الفراغ من بنائه، نحواً من ألف متر مربع، ثم زاد فيه رسول الله لتصبح مساحته ثلاثة آلاف متر مربع تقريباً، وآوى فيه الفقراء والمساكين ومن تقطّعت بهم السُّبل،، وبينهم صحابة أجلّاء عُرفوا بـ«أهل الصُّفّة»، وكانت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام، تتعاهدهم بالعناية، فترسل إلى السوق مَن يبيع لها حليّها أو ما حضرها من الهدايا، فينفق ثمنها عليهم.

وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله إذا أراد أن يخطب استند إلى جذع نخلةٍ من أعمدة المسجد، إلى أن صنع له أصحابه منبراً من الخشب، فحنّ إليه الجذع في الكرامة المشهورة. واتّخذ رسول الله من حجرات المسجد بيتاً له ولأزواجه، وكذلك فعل بعض الصحابة، إلى أن نزل الأمر الإلهيّ بسدّ جميع الأبواب المفضية إلى الحرم، إلا ما كان منها للنبيّ صلّى الله عليه وآله ولأمير المؤمنين عليه السلام، «وأحلّ له من مسجده ما حلّ له، وسدّ الأبواب إلا بابه»، كما في دعاء الندبة المرويّ عن صاحب العصر والزمان عجّل الله فرجه.

* الأذان والصوم والحجّ: شرع النبيّ بأمرٍ من الله تعالى، الأذان في مطلع الهجرة،كما فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية منها في شعبان، وحُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى مكّة، وفُرضت زكاة الفطر وزكاة الأموال، وفرض الجهاد، والحجّ والعمرة.

* آيات التشريع: وفي المدينة المنوّرة نزلت أكثر آيات التشريع بعد أن وجد الإيمان بالله والرسول طريقه واضحاً إلى قلوب الآلاف من البشر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، واتّجه النبيّ لتنظيم حياة المسلمين ومعاملاتهم، وبناء دولة تشرف على تنفيذ تلك المبادئ والتشريعات، فكانت المدينة موطن التشريع العام، وبها أنزل الله في كتابه أكثر آيات الأحكام على التدريج، حسبما تقتضيها حاجة المجتمع الإسلامي في تفاعل أبنائه بعضهم مع بعض.

من وقائع الهجرة

* في السنة العاشرة من البعثة، وبعد وفاة أمّ المؤمنين السيدة خديجة عليها السلام، ووفاة مؤمن قريش، أبا طالب عمّ النبيّ وكافله، اشتدّ أذى المشركين وملاحقتهم للمسلمين، حتى أذاقوهم من صنوف العذاب ما لا يُطاق. وكان المسلمون يأتون النبيّ صلّى الله عليه وآله يستأذنونه في الخروج من مكّة هرباً من سطوة قريش وجبروتها، فلا يأذن لهم النبيّ انتظاراً لأمر الله تعالى في ذلك.

* في السنة الثانية عشرة والثالثة عشرة من البعثة على التوالي، تمّت بيعتا العقبة الأولى والثانية، وفيهما بايع ثمانون رجلاً وامرأتان من أهل يثرب النبيّ صلّى الله عليه وآله، وعاهدوه على أن يمنعوه والمسلمين من أهل مكّة ما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم. فلما بلغ خبر ذلك إلى قريش، أوفدت إلى وجوه «الخَزْرج» في المدينة مَن يحرّضهم على المسلمين فيها، فأبوا عليهم، ورجع وفد قريش خائباً، فاجتمع الملأ منهم في «دار الندوة» واتّخذوا القرار بقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله.

* بالتزامن مع هذه الأحداث، نزل الإذن الإلهيّ بهجرة المسلمين من مكّة، فخرج عليهم النبيّ مسروراً، وقال: «قد أُخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمَن أراد الخروج فَلْيَخرجْ إليها». فجعل القوم يتجهّزون ويخرجون خفية، ونجا بذلك مجاميع كبيرة من المسلمين من أيدي قريش، حتّى لم يبقَ في مكّة من المسلمين إلا المسجونون والمرضى، ورسولُ الله وأمير المؤمنين والهاشميّات.

* بعد أن تعاقد شيوخ المشركين على قتل النبيّ، نزل الوحيّ يحذّره من مؤامرتهم: ﴿وَإذْ يَمْكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا ليُثْبِتوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أو يُخْرجُوكَ وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُر اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرينِ﴾. [الأنفال:30] وجاء الأمر الإلهيّ بمبيت أمير المؤمنين على فراش النبيّ، ليغشى على أعين القتلة المترصّدين خروجَ رسول الله. فقال أمير المؤمنين: «أوَ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ الله؟»، قال: «نعم».

فتبسّم عليٌّ عليه ‌السلام وأهوى إلى الأرض ساجداً، شاكراً الله عزّ وجلّ على سلامة نبيّه، فنزل في حقّه صلوات الله عليه، المديحُ الإلهيّ: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغآء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رؤوفٌ بِالْعِباد﴾. [البقرة:207]

* خرج رسول الله حتى بلغ «غار ثور»، وهي على منزلٍ من مكّة، فاحتمى بداخلها من مطاردة قريش التي فاتها وجودُه فيها بمعجزة ربانية، على الرغم من إيفادها فِرقاً من عتاتها لتقفّي أثره صلّى الله عليه وآله. لزم النبيّ الغار ثلاث ليالٍ متواليات، وكان أمير المؤمنين يتردّد عليه خلالها، وفي الليلة الأخيرة أحضر الرواحل، فاتّجه رسول الله إلى المدينة، بعد أن أوصى أمير المؤمنين بأن يُنجز عِداته ويؤدّي عنه أماناته التي في مكّة، ومن ثمّ يلتحق به ومعه الفواطم من الهاشميّات، ومن يريد الهجرة من بني هاشم وسائر المسلمين.

* «قُباء»، قريةٌ على مشارف المدينة، وصل إليها النبيّ صلّى الله عليه وآله ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، وكان قد خرج إليها حشدٌ من المهاجرين والأنصار ينتظرون قدومه. فأقام بين ظَهراني أهل تلك القرية ثلاثة أيام يترقّب وصول أمير المؤمنين، وأمر في البَين ببناء المسجد المعروف حتّى الآن بـ«مسجد قُباء»، وهو أول مسجدٍ بُني في الإسلام. وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا سأله أهل قباء: «أَما تُقيم عندنا، فنتخذَ لك منزلاً ومسجداً؟»، يُجيبهم: «لا، إنّي أنتظر عليّ بن أبي طالب، وقد أمرتُه أن يلحقني، ولستُ مستوطناً منزلاً حتّى يَقدم عَليّ، وما أسرعَه إن شاء الله».

* في طريقه إلى المدينة ملتحقاً بالنبيّ صلّى الله عليه وآله، كابد أمير المؤمنين عليه السلام صنوف المصاعب والمشقّات، وواجه بسيفه نفراً من مشركي مكّة خرجوا للحؤول دون هجرته ومن معه، وكان يرفق بالهاشميّات لئلا يجهدهنّ السفر، وطوى المسافة كلّها سيراً على الأقدام، فلما وصلوا إلى رسول الله ورأى ما نزل به، بكى صلّى الله عليه وآله رحمةً له.

* دخل النبيّ صلّى الله عليه وآله، ومن معه من أهل بيته وأصحابه إلى يثرب يوم الخامس عشر من ربيع الأول [تختلف تقديرات المؤرخين حول هذا التاريخ، وتواريخ سائر محطات الهجرة]، فاستقبله أهلها بأجمعهم مردّدين أناشيد الترحيب، وأقبل رؤساء أحياء المدينة يتنازعون خطام ناقته، ويسألونه النزول في حيّهم، فكان صلّى الله عليه وآله يُجيبهم: «خَلُّوا سبيلَها فإنّها مأمورة»، فلمّا وصلت الناقة بحذاء بيت أبي أيوب الأنصاريّ، بركتْ مكانها، فأقبل أبو أيوب واحتمل رحْلَ النبيّ وألقاه في بيته، واستمرّ مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله فيه حتى فرغوا من بناء المسجد النبويّ. وهو الصرح التوحيديّ الذي أضحى من حينه المؤسّسةَ الأم، وكان له حتّى عقودٍ خلتْ دورٌ محوريّ في صياغة حياة المسلمين على الصعد كافّة. فهو الشاهد على الحوادث الجِسام، وبين جنباته اتُّخذت أخطر القرارت، فضلاً عن كونه الحاضنة العلمية والثقافية والاجتماعية الأولى. كلّ ذلك، قبل أن تستولي الوهابيّة المتحالفة مع أسرة آل سعود على الحرمين المكّي والمدنيّ، وتسخّر احتلالها لهما حمايةً لمصالح المستعمرين، وحرباً على الشريعة النبوية السمحاء، برّاً بقسم ابن آكلة الأكباد: «لا واللهِ إلا دفناً دفناً»!!

 

***

 

 

 

 

 

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 6 أيام

دوريات

  اجنبية

اجنبية

منذ 6 أيام

اجنبية

نفحات