مَن قارفَ ذنباً فارقَهُ عقلٌ لم يَعُدْ إليه أبداً
موعظة الفقيه النراقي لإخوانه وأحبّائه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موعظة قيّمة أوردها الفقيه الشيخ محمّد مهدي النراقي قدّس سرّه، في كتابه الأخلاقي النوعي (جامع السعادات:1/67)، حذّر فيها من الانجرار خلف الشهوات التي تتغلّب على النفس وتطبعها بطابعها، وحثّ على الاكتفاء منها بمقدار الاعتدال. وبيّن أهمّية تدارك الغفلة في إصلاح النفس، إذ «إنّ إزالة الرذائل بعد استحكامها في غاية الصعوبة».
قد تقرّر في محلّه أنّ الإنسان في اللّذة العقلية يشارك الملائكة، ويشارك في غيرها من الحسّية المتعلّقة بالقوى الثلاث -أعني السّبُعِية والبهيمية والشيطانية- السِّباعَ والبهائم والشياطين. فاعلم أنّ مَن غلبت عليه إحدى اللذات الأربع كانت مشاركتُه لِما يُنسب إليه أكثر، حتى إذا صارت الغلَبة تامّة، لكان هو هو.
فانظر يا حبيبي أين تضع نفسك، فإنّ الغلبة لو كانت لقوّتك الشهوية حتى يكون أكثر همّك الشهوات الحيوانية كالأكل، والشرب، وسائر النزوات البهيمية، كنتَ واحداً من البهائم.
وإن كانت لقوّتك الغضبية، حتى يكون جُلّ ميلك إلى المناصب والرياسات الرديئة، وإيذاء الناس بالضرب والشتم، وباقي الحركات السبعية، نزلتَ منزلة السباع.
وإن كانت لقوّتك الشيطانية، حتى يكون غالبُ سعيك في استنباط وجوه المكر والحيَل للوصول إلى مقتضيات قوّتي الشهوة والغضب بأنواع الخداع والتلبيسات الوهمية، دخلتَ في حزب الأبالسة.
وإن كانت الغلبة لقوّتك العقلية، حتى يكون جِدّك مقصوراً على أخذ المعارف الإلهية واقتفاء الفضائل الخُلقية، عرجتَ إلى أفق الملائكة القادسة. [بمعنى المقدّسة، أو المنزّهة عن ارتكاب الذنوب]
فمَن كان عاقلاً، غيرَ عدوٍّ لنفسه، وجب عليه أن يصرف جلّ همّه في تحصيل السعادة العلمية والعملية، وإزالة النقائص الكامنة في نفسه، وليقتصرْ على الأمور الشهوانية، واللذات الجسمانية بقدر الضرورة، بأن يكتفي من الغذاء بما يحفظ اعتدال مزاجه وقوام حياته، ولا يكون قصده منه الالتذاذ، بل سدّ الضرورة ودفع الألم، ولا يضيّع وقته في تحصيل أزيد من ذلك، فإنْ تجاوز عنه فبقدر ما يحفظ رتبته، ولا يوجب مهانته وذلّته.
ومن اللباس بقدر ما يستر العورة، ويدفع الحرّ والبرد، فإنْ تجاوز عن ذلك فبقدر ما لا يؤدّي إلى حقارته، ولا يوجب السقوط بين أقرانه وأهل طبقته.
ومن (الزواج) بقدر ما يحفظ نوعه، ويُبقي نسله، وإن تعدّى فبقدر ما لا يُخرجه عن السُّنّة.
وَلْيَحذر عن الانهماك في مقتضيات قوّتَي الشهوة والغضب؛ لأنه يوجب الشقاوة الدائمة والهلكة الأبدية.
المبادرة قبل استحكام الملَكات المهلكة
فاللهَ اللهَ في نفوسكم معاشرَ الإخوان، أدرِكوها قبل أن تغرقوا في بحار المهالك، وتنبّهوا عن نوم الغفلة قبل أن تنسدّ عليكم السُّبل والمسالك، وبادروا إلى تحصيل السعادات قبل أن تستحكم فيكم الملَكات المهلكة، والعادات المفسدة، فإنّ إزالة الرذائل بعد استحكامها في غاية الصعوبة، والمجاهدةَ مع أحزاب الشياطين بعد الكِبر قلّما يفيد الأثر، والغلبة على النفس الأمّارة بعد ضعف الهرم في غاية الإشكال. إلّا أنّه، في أيّ حال، ينبغي ألّا تيأسوا من رَوح الله، فاجتهدوا بقدر القوّة والاستطاعة، فإنّه خيرٌ من التمادي في الباطل، فلعلّ الله يدرككم بعظيم رحمته.
ولقد قال الشيخ الفاضل أحمد بن محمّد بن يعقوب بن مسكويه، وهو الأستاذ في علم الأخلاق، وأقدم الإسلاميّين في تدوينه: «إني تنبّهتُ عن نوم الغفلة بعد الكِبر واستحكام العادة، فتوجّهت إلى فطام نفسي عن رذائل الملَكات، وجاهدت جهاداً عظيماً حتّى وفّقني الله لاستخلاصها عمّا يُهلكها، فلا ييأس أحدٌ من رحمة الله، فإنّ النجاة لكلّ طالبٍ مرجوّة، وأبواب الإفاضة أبداً مفتوحة».
نقصُ صفاء النفس لا يُتدارَك
فبادروا إخواني إلى تهذيب نفوسكم قبل أن يصير الرئيسُ مرؤوساً، والعقل مقهوراً، فيفسد جوهركم، وتُمسخَ حقيقتكم، ويدرككم الانتكاس في الخلق، الذي هو خروجٌ عن أفق الإنسان، ودخولٌ في زمرة البهائم والسِّباع والشياطين، نعوذ بالله ونسأله العصمة من الخسران الذي لا نهاية له.
وقد شبّه الحكماءُ مَن أهمل سياسة نفسه الغافلة بمَن له ياقوتة شريفة حمراء، فرماها في نار مضطرمة فأحرقها، حتى تصير كلساً لا منفعة فيها.
ولا تظننّ أن ما يفوتُ النفسَ من الصفاء والبهجة لأجل ما يعتريها من الكدرة الحاصلة من معصيةٍ من المعاصي يمكن تداركه، فإنّ ذلك محال، إذ غاية الأمر أن نُتبع تلك المعصية بحسنة تمحي آثارها، وتعيد النفس إلى ما كانت عليه قبل تلك المعصية، فلا تزداد بتلك الحسنة إشراقاً وسعادة، ولو جاء بها من دون سيّئة لزاد بها نور القلب وبهجتُه، وحصلت له درجة في الجنة. ولمّا تقدمت السيئةُ سقطت هذه الفائدة، وانحصرت فائدتها في مجرّد عودة القلب إلى ما كان عليه قبلها، وهذا نقصانٌ لا حيلة لجبره. ومثالُ ذلك أنّ المرآة التي تدنّست بالخبَث والصَّدَأ، إذا مُسحتْ بالمصقلة، وإنْ زال به هذا الخبث، إلّا أنّه لا تزيد به جلاءً وصفاءً، بخلاف ما إذا لم تتدنَّس أصلاً، فإنّ التصقيل يزيدها صفاءً وجلاءً، وإلى ما ذُكر يُشير (الحديث المنسوب) إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَن قارفَ ذنباً فارقَهُ عقلٌ لم يَعُدْ إليه أبداً».